في قاعة الجنائية رئيسان أفريقيان… واحد مَثُل بإرادته والثاني في انتظار القبض عليه

محجوب حسين
OCTOBER 19, 2014

في هذا الوقت – من راهن الزمن السوداني لقيادة «الجنرال» المهزوم، تعمل ميكانيزمات ماكينته في الضبط، المتجسدة في مجموعة «بشيرغيت» الحاكمة للبلاد السودانية، والمتكونة حصريا من لوبي اللجنة الأمنية والعسكرية، الذي تأكد بما لا يدع مجالا للشك، أن له اليد العليا في اتخاذ كل القرارات واحتكار كل الصلاحيات، هذه اللجنة «تحكُم البشير وبها يحكُم البشير»، هكذا تعمل ماكينة الأمر الملزم في الخرطوم على رسم المشهد السياسي في البلاد الواقعة محل الاختلاف البنيوي الحاد بين كل المكونات، مما افقدها كل أركان الشرعية والمشروعية التي يجب أن تكون، وبها يجب أن يُقرر ويقع الفعل السوداني الذي بات فعلا لا يختلف عن الفعل الاستعماري/الاجنبي، من حيث الأهداف والغايات والنتائج . سيناريوهات هذا الرسم خلال هذه الأيام وما سبقها من أيام وإلى نسيان/أبريل القادم، تتمفصل حول أمرين لا مجال للثالث بعدهما. الأول فيه، قرار وسعي الماكينة الديكتاتورية وعبر جهازها التنفيذي المتمثل في حزب «المؤتمر الوطني»، إلى تجديد الديكتاتورية الإجرامية التي يقودها الرئيس السوداني لخمس سنوات قادمة، عبر مظلة انتخابات مزورة شكلا ومضمونا، ولا تحمل معنى ولا مغزى ولا مصداقية، كشأن مصداقية من يقود البلاد. اما الأمر الثاني فهو تنفيذ سياسية الإبادة الجماعية رقم 2 – بعد الإبادة الأولى في دارفور – لاستكمال حلقات الإبادة الثانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ضد قوى المقاومة الوطنية العسكرية، وفق ترتيب تم إعداد مراحله وتجهيزاته منذ زمن لخوض غمار مراهنة حاسمة لرئيس ديكتاتوري يريد تجديد ديكتاتوريته بأي ثمن.
في يوم التجديد هذا يأمل أن يعلن فيه رسميا إبادة ما يعرف بـ»التمرد» في السودان، وانه رئيس «نظيف ديكتاتوريا» من العناصر التي تهدد صنمه الديكتاتوري في فترة ولايته المتقدمة إلى ثلاثة عقود، غير هذين الأمرين ودوائر حِيل تنفيذها المختلفة، أما الباقي منه وخلال الخمسة اشهر القادمة فسوف يكون حتما محلا للاستهلاك.
في هذا الوقت – من خضم ماكينة الديكتاتورية السودانية، كان هناك حدث تاريخي إقليمي مواز، هذا الحدث يتعلق بقرار الرئيس الكيني المنتخب الذي مَثُلَ لقرار محكمة الجنايات الدولية، بحسب تهم وجهتها المحكمة إليه تتعلق بارتكاب أو التحريض على جرائم ضد الإنسانية وقعت أثناء انتخابه لرئاسة البلاد، مَثَل الرئيس الكيني بصفته مواطنا لا يتمتع أو يحتمي بالحصانات والسيادات التي يتمتع بها الاشخاص الدوليين في القانون الدولي، حيث قبيل مثوله، سلم مهام وقيادة البلاد، وفق نصوص الدستور إلى نائبه، قائلا في هذا السياق لتفادي وضع «سيادة أكثر من 40 مليون كيني أمام المحاكمة»، هذه المسؤولية الأخلاقية سندها وطنية نادرة لابن من أبناء تراب دولة كينيا، فضلا عن كونه ابن مؤسس الدولة ورئيس البلاد الدستوري، فكانت متلازمة منظومة القيم الأخلاقية السياسية الدستورية، كرئيس مسؤول من جانب، ومن جانب ثان موروثه التاريخي الذي يحظى به ضمن التراث السياسي الكيني ابن المؤسس، كل ذلك شكل دعامات لإطاره المعرفي الذي دفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار الذي وُصف بانه شجاع ومسؤول وبطولي واستثنائي.
وقتئذ- أي وقت إعلان هذا القرار الذي تبعه مُثول المواطن الكيني أهورو كينياتا، وليس الرئيس، المؤكد أنه وقت حظي باهتمام الملايين وعدد كبير من المراقبين وكل ضحايا الإجرام، ما دام ان الجريمة ليس لها جنسية او هوية، ووسط هذا الاهتمام الشعبي والجماهيري بين دول الإقليم والعالم، نستطيع أن نسجل اهتماما آخر خاصا وذاتيا، كما هو الأكثر أهمية، بل تفوق من حيث الأهمية والدرجة على كل الآخرين، قد يكون عاشه الرئيس السوداني وحده، لأن الموضوع يخصه في شكله العام ويلامس الذات الداخلية له بشكل عميق، محدثا له بالطبع انعكاسات وصدمات وانفعالات وردود أفعال ذاتية، قد تكون موجبة أو سالبة، ليست بالضرورة ان تعلن مادامت وضعيته القانونية الجنائية الدولية مصنفة قانونا في حكم «المتهم» المطارد الفار من العدالة الدولية، ويعيش حالة حبس احتياطي مع نفسه، من خلال جملة إجراءات منذ عام 2009، سجن بها نفسه وسجن السودان ومعه الشعب، بل الموقف من المحكمة الجنائية اصبحت أيديولوجيا يحكم بها، وفيها يقرب من يريد أو لا يريد إلى موقع الحكم ومراكز القرار الحساسة، حسب تقديره، أي من بُعده أو قربه أو في أمانته ومصداقيته من المحكمة، خصوصا نحو تلك المواقع التي تشكل عصب السلطة ويعتبرها هو محلا لحمايته، كشأن المواقع التي يشغلها اعضاء اللجنة الأمنية العسكرية، مرجعية مصدر الحكم في البلاد، وفيها الرئيس السوداني لا يأتمن السياسيين الإسلامويين إلا بدرجة تورطه معهم أو معه، عندها فهو مؤتمن بالزمالة والمصير.
إننا هنا لسنا أمام مقاربة بين الحالتين «الواقعتين» لرئيسين جارين، في واقعتين إجراميتين مختلفتين من حيث التصنيف القانوني، بين جريمة الإبادة وجرائم ضد الإنسانية، وإنما في سُلم القيم ومعاييره التي تكون ومن ثم تتحكم في مخيلة كلٍ منهما، فالرئيس الكيني خطوته جاءت بدوافع وطنية مسؤولة، كونه يدير مصير الشعب الكيني الذي لا يقبل أن يقوده شخص محل اتهام إجرامي، أو هو لا يقبل بها، هذا الدافع يرتبط أيضا بمسؤولياته السياسية والدستورية، كرئيس مسؤول امام نفسه والشعب الكيني الذي فوضه، عبر صندوق الاقتراع، قيادته، إلى ذلك تراث الرجل، فهو ابن المؤسس التاريخي، ليقع في حكم التاريخ الذي لا يقبل أيا من أنواع التلاعب أوالمخاطرة أو العبث، الأمر الذي يحتم الحفاظ على سيرورة ونقاء هذا التاريخ الذي به تزعم قيادة البلاد. أما الذاتي فمحركاته عديدة، منها انه لا يقبل ان يكون متابعا وملاحقا، فهو يطمح كشأن أي إنسان العيش بحرية تامة، والأهم انه يبحث عن صك براءته الذي يبدو أنه واثق ومتأكد منه، وهو بحث مشروع لانه يرتبط بما هو عام، ويحرر بالمرة بلاده من عواقب سياسات دولية قد تحجب عن الشعب الكيني العديد من الفوائد، بدون عنجهية جوفاء، فضلا عن هذا فهو «شجاع « كما وصفته بعض الأوساط، وشجاعته هذه نابعة من إرث ثقافي واجتماعي يستند إليه الرجل، ولم يأت من فراغ.
هذه المعايير بقياسها على الرئيس السوداني الذي يستعمل حصانة الدولة وسيادتها للاختباء والاحتماء، بغض النظر عن ذهنية التبرير التي يستعملها هو واجهزته السياسية والعسكرية والأمنية، نجدها في أقلها غير متوفرة، بل تكاد تكون منعدمة لا على مستوى سُلم القيم، ولا على محركات الذاتي، وهو ما دفع المحللين إلى القول، وفي استباق لمحاكمة الرئيس السوداني التي هي واقعة ما دامت الجريمة لا تسقط بالتقادم، إنه رئيس يثبت في كل سلوكه السياسي الذي يتخذه انه ارتكب الجريمة، فكانت دواعي هروبه كأي مُجرم قد تكون مبررة لأي عقل إجرامي، وتلك هي أزمة الدولة السودانية اليوم الواقعة تحت عقلية حكم إجرامي لا يتورع عن ارتكاب أي شيء نحو الداخل، ولا يتورع في تقديم التنازل الذي يتبع التنازل للخارج، ليجد الغرب ضالته فيه، بل دعمه. وما بقاؤه في الحكم إلا لتحقيق كل المصالح الغربية التي بدأت بتقسيم البلاد التي فيها «الخرطوم» لم تحل أزمتها ولا «جوبا» حلت أزمتها ولا السودان، موحدا أو مقسما، حل أزمته، وبدون حل عقدة الرئيس السوداني، سواء مع المحكمة أو قضايا إجرام وفساد الداخل، يستحيل أن يتخلى البشير عن السلطة ويفتح آفاقا لحل الأزمة الوطنية في البلاد عبر الحوار الشامل والجاد. أما مجال المشاركة في نظامه الذي يعني ضمنيا تأييده فهو متوفر ومتاح عبر مفاوضات لا تحقق شيئا في فلسفة إنهاء «تابو» التمركز السوداني، بل تكرسه.

٭ كاتب سوداني مقيم في لندن

محجوب حسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *