بسم الله الرحمن الرحيم
مضى عام على رحيلك المفاجئ يا أبا إيثار، و بدأنا نفيق من الصدمة و نصدّق أنك قد رحلت فعلاً من دنيانا الفانية إلى غير رجعة ، و أن الحياة تمضي رغم أنفنا و أنف هول الحدث و مرارته. و تعلمنا في ليالي هذا العام البهيمة، دروساً في الحزن، و معاني لفراق الأحباب لم نألفها من قبل. كنت قد ذقت لأول مرّة مرارة فراق الشقيق يوم استشهاد أبوبكر في يونيو عام 2008. فكنت أنت الذي بلغّتني بالفاجعة، و أعنتي على الصبر عليها بجلدك اللامتناهي. و لكن باستشهادك و بتلك المؤامرة الدولية الجبانة، أخذ الحزن مني أبعاداً جديدة، و مسالك في مسارب الروح غريبة. و تعلمت النفاق في التعبير عن مشاعري. فصرت أتظاهر بالصبر و أضحك مع الخلق و قلبي يتفطّر دماً، و انتحب بغير صوت. و غدوت أحب الوحدة و ظلمة الليل لأنهما يستران ضعفي و دموعي المدرارة. لقد أمضيت حيناً من الدهر قلقاً على حياتك و أنت تخوض المخاطر و تتنقل بين ساحات الوغى، و يبدو أن قدري أن أقضي ما تبقّت من أيامي حزناً على فراقك. فقد كنت لي الشقيق و الصديق و الأنيس و الطبيب الخاص و القائد و المستشار و المثال .. بل أكثر من ذلك كله.
لم تبرح الوالدة فراشها منذ لحظة رحيلك حتى لحقت بك بعد ثلاثة أشهر و عشرة أيام كمداً و حزناً على فراقك و فراق أخيك أبوبكر.و لا أخالك تستطيع تصّور هول الفاجعة، و وقع الأثر التراكمي عليّ جرّاء فراق الوالدة على فراقك و فراق أبوبكر. فعند انتقال الوالدة إلى جوار ربها، وجدتّني أبحث عنكما لتحملا عني شيئاً من حزني عليها فلم أجدكما، فتملكتني وحشة عارمة كاسحة رغم إحاطة خلق كثير من الأهل و المعارف بي و ومواساتهم لي لفترة ليست بالقصيرة.
أختك نضيفة بلغ بها الحزن مدى لا يعلمه إلا الله. و لو كانت تحسن لغة العُرب لبزّت خنساء في رثاء أخيها صخر. و كذا الحال بأختك حسنة التي أحسنت الصبر على البلاء. د. عبدالعزيز الفارس الجحجاح صاحب الأعصاب الفولاذية الذي تعرفه، فشل في أن يتمالك نفسه عند سماع نبأ استشهادك ، و فقع مرارته و زاد من ألامه عجزه عن فعل شيء و قلّة حيلته وهو يرزح في أغلاله خلف القضبان.
بكتك الحركة عن بكرة أبيها، و قد وقع فقدك عليهم وقع الصاعقة، و آلمهم أنك أُخذت من بين أيديهم بحيلة غادرة لم يستطيعوا معها أن يفتدوك بأنفسهم كما العهد بهم. و لكنهم عازمون على الأخذ بثأرك، و الانتصار لمشروعك مشروع أهل السودان جميعاً. و أعلم أنك ما زالت و ستظل عندهم مثلاً أعلى، و رمزاً للمناضل الجسور، و أباً حنوناً نادر المثال. و ألسنتهم دائماً رطبة بذكرك. و حتى الذين فارقوا الحركة في محطة من محطات مسيرها الطويل، دبّجوا في رثائك العجب العجاب، و شهدوا لك بمناقب لم نكن نتوقع أن تخطّها أقلامهم أو تجري على ألسنتهم، فشهدوا بذلك على أصالة معادنهم. بكاك الأهل في معسكرات النزوح و اللجوء، و صلّوا عليك صلاة الغائب، و ما فتئوا يدعون لك في دبر كل صلاة و ختمة قرآن.
الشعب السوداني كله بكى عليك، و نصب لك سرادق العزاء في كل أركان الدنيا، من سدني في أستراليا إلى كيب تاون في جنوب إفريقيا إلى كالقري في كندا. و أُريق مداد غزير في رثائك من أشخاص نعرفهم و آخرين لم نسمع بهم من قبل. و اتصل بنا معزياً خلق كثير من معارفك و ممن عرفك من خلال أعمالك و خطابك الوطني الثوري الصادق. و فيهم من عبر القارات ليصلنا و يقدم واجب العزاء فيك.
و في المقابل، أحتفل عصابة المؤتمر الوطني برحيلك، و أخرجوا مسيرة مأجورة هزيلة مستهجنة تعبيراً عن غبطتهم بمغادرتك ساحة الوغى بجسدك، و أثبتوا بذلك أنك كنت البعبع الذي أقضّ مضاجعهم، و برهنوا أنهم يهابونك حتى الثمالة. و ما دروا أنك ستقاتلهم من برزخك بقيمك و جيشك و مؤسستك التي أبقيت. و ستلاحقهم روحك الطاهرة المقاتلة في غرفهم المغلقة. و من سخريات القدر أن رجل “الأم دورور” الذي أتيت به من عالم المجهول، و دفعت به إلى أضوء السياسة، قد أخرج من رقصت ب”البراتيل” فرحاً برحيلك، و ضرب بذلك مثلاً في عدم الوفاء و الانحطاط الأخلاقي لا يجاريه فيه أحد.
أسرتك الصغيرة بخير، و قد لقنونا بقيادة زوجتك زينات علي يوسف درساً في الصبر عند الملمّات، و تحمّلوا المصيبة برباطة جأش و جلد وتماسك متناه أدهش الجميع. و بحمد الله سجّل محمد خليل في الجامعة لنيل درجة الماجستير في القانون بعد أن حقق مرادك و مراده من خلوة القرآن. و تخرج كل من إيثار و إبراهيم أطباء بأحسن تقدير، و أحمد في طريق التخرج قريباً بإذن الله. كما جلست آلاء في مقعد أبيها في طبّ الجزيرة، و يجتهد أواب للحاق بها عمّا قريب. أما الدكتورة إيلاف فقد لحقت بزوجها في الصين براً بما أبرمت. و قد منّ الله على أسرتك أخيراً بسيارة لاندروفر مستعملة أراحتهم عناء مواصلات الخرطوم. و قد دفعوا ثمنها من فائض ما ساهم به الأهل و الأحباب في سرادق العزاء. لم تكن مشغولاً في حياتك بمعاش عيالك لأنك كنت مهموماً بمعاش عيال الله في الوطن العريض. و لأنك كنت موقناً من أن خالقهم سيتولى أمر رزقهم الذي في السماء. و هم من بعدك، و لله الحمد و المنّة، سعداء و أغنياء رغم ضيق ذات اليد. يمشون بين الناس مرفوعي الرأس، لأنك تركت لهم إسماً شهد الشعب له بالشجاعة، و علو الهمّة، و طهارة اليد، و دماثة الخلق، و عفة اللسان، و الجود المطلق، و التفاني في خدمة الغير، و حب القرآن و أهله، و مت ميتة أبطال حسدك عليها حتى الأعداء.
جلست على مقعدك في الحركة و أنا له كاره. و لولا الرغبة الجامحة في الثأر لك، و إصرار أختيك عليّ للمضي في دربك و درب الشهيد أبوبكر من قبلك، لما قبلت التكليف. فأنا لا استثقل تبعات القيادة و تضحياتها، و لا أتهيّب جرائرها، و لكني أكره قيودها و أضواءها على السواء.
لقد جنيت من بعدك على نفسي و على الحركة باطلاق سراح الخائن محمد بشر أحمد المتهم الأول في دسّ السمّ في طعامك يوم عودتك من عملية الذراع الطويل، رغم أنك لم تفصح لنا عن الفاعل في حياتك. ثم كان طرفاً أساسياً في دسّ السمّ في طعامك مرة أخرى و أنت في الجماهيرية. فقد تآمر محمد بشر، حال فك أساره، مع دبجو و أركو و حفنة من المرتزقة و سماسرة الثورات مع النظام و الجهات التي تآمرت على إغتيالك، و أفلحوا في الفرار ببعض من آليات الحركة. و لكنهم لم يجدوا من الشعب من يؤآزرهم ، و قاطعوهم بالجملة رغم الإغراءات المادية. فأهلك في معسكرات النزوح و اللجوء عند عهدك بهم. و برهنوا أنهم شرفاء أوفياء لا يبيعون ضمائرهم و قضيتهم العادلة بعرض زائل. فأحالوا بصدودهم عمل المتآمرين إلى بوار، و الله لا يصلح كيد الخائنين.
أرجو أن تنام قرير العين في مرقدك الذي أثق في أن الله قد جعله روضة من رياض الفردوس الأعلى، لأن شهادة الخلق لك بالخير من شهادة الخالق. فجيشك اليوم على أحسن ما يرام، و معنوياته في السماء، و على أتمّ الاستعداد للإجهاز على العدو في أي لحظة، و قد ضاق ذرعاً بطول إمساكنا بلجامه. و الجبهة الثورية بمكوناتها المختلفة تلقّن النظام المترنّح درساً موجعاً في كل يوم تطلع فيه الشمس. و شباب السودان في جامعاته زلزلوا الأرض تحت أقدام الطغاة. و قوى الاجماع الوطني و سائر قوى المعارضة شمّروا عن سواعد الجدّ، و يعدّون للمعركة الشعبية الفاصلة. و لحسن الطالع، تزامن هذا الاستعداد للمنازلة مع خلاف عميق دبّ في صفوف النظام العنصري و بين أعمدته الأساسية، و غدا يأكل بعضه بعضاً، و ليس بيننا و بين سقوطه إلا نزول أمر الله النازع للملك.
قيل أن أهل البرزخ يتزاورون، و يسألون عن أخبار من تركوهم من خلفهم. فإن صحّ ذلك، فأُقرئ أمي مني أطيب السلام، و بلغها رجائي الخالص في أن تغفر لي تقصيري في حقها، و عشمي في أن تشملني بشفاعتها يوم الحشر الأكبر. فأنا أحسبها، و الله حسيبها، من المؤمنات القانتات. و أعلم حجم إخلاصها و كدّها في تربيتنا و نحن يتامى، و حرصها على اطعامنا من الحلال. و لا تنسى أن تبلّغ خالص سلامي إلى أبي و أخي أبوبكر و سائر الأحباب الذين سبقونا إلى جوار ربنا. فإنا نضرع إلى المولى جلّ شأنه أن يكون مقامكم عنده خير من مقامنا، و أن يجمعنا و إيّاكم في دار كرامته و يظلّنا بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.
أخوك/ أبوريّان