“لا تحزني يا أمِّي إن متُّ في غض الشباب، غداً سأحرِّض أهل القبور وأجعلها ثورة تحت التراب.. لا يهمُّني متى وأين سأموت، لكن يهمُّني أن يبقى الثوَّار منتصبين، يملأون الأرض ضجيجاً كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين.”
تشي غيفارا (1928-1967م)
الدكتور والكاتب والديبلوماسي وقائد حرب العصابات الأرجنتيني
الدكتور/ عمر مصطفى شركيان
[email protected]
إنَّ مشكل السُّودان لصورة خارجة عن معادلة الخطأ والصواب، وعجز عن توصيف الدواء للدَّاء، والاكتفاء بإلقاء التبعة على العامل الخارجي والدور الأجنبي، دون الانتباه إلى أنَّنا دون سويَّة العصر، ودون سويَّة التعامل مع قضايانا المصيريَّة. مهما يكن من شأن، فقد كان ظهور الحركة الإسلاميَّة في المسرح التأريخي والجغرافي في السُّودان المعاصر قد مثَّل – ولا يزال يمثِّل – منعطفاً حرجاً في مسيرة الحياة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفساد المالي والمعايير الأخلاقيَّة في البلاد. أولم يقل كونفوشيوس “إذا صُلح القائد فمن يجرؤ على الفساد!” ولئلا يظن غيرنا أنَّنا نطلق الحديث على عواهنه، فقد شهد شاهد من أهلهم على صنيعتهم النكراء، وادِّعاءاتهم الجوفاء، وشعاراتهم الخرقاء. فها هو القيادي التأريخي في الحركة الإسلاميَّة يسن عمر الإمام يقول: “الحركة الإسلاميَّة دخلت السُّلطة وخرجت مضعضعة وفيها فساد شديد، وفيها ظلم، وأدَّت مفاهيم معاكسة للقيم التي تحملها النَّاس. (فقد) زارني بعض الإخوان بالمنزل، وكان من ضمنهم الدكتور حسن عبد الله الترابي، وقلت لهم إنَّني أخجل أن أحدِّث النَّاس عن الإسلام في المسجد الذي يجاورني بسبب الظُّلم والفساد الذي أراه، وقلت لهم بأنَّني لا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للإخوان المسلمين، لأنَّهم يرون الظُّلم الواقع على أهلهم، فلذلك الواحد بيخجل يدعو زول للإسلام في السُّودان. أنا غايتو بخجل والسُّودان شلت عليه الفاتحة.”
فالدكتور حسن عبد الله الترابي عرَّاب الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة – في الثمانينيَّات من القرن المنقضي كان “يرى أنَّ العرب والمسلمين متمكِّنون من ثروة مقدَّرة تُنفق في شتى المجالات، ثمَّ لا يرى شيئاً مقدَّراً يُوجَّه نحو مد الدفع الثقافي العربي الإسلامي بالرَّغم من أنَّ الملايين من المسلمين في إفريقيا وآسيا يتطلَّعون إلى تعلُّم اللُّغة العربيَّة والاستزادة من علوم الدِّين، وأنَّ الملايين الآخرين من ذوي المعتقدات غير الكتابيَّة مهيَّأون لتقبُّل الدَّعوة الإسلاميَّة بيسر شديد، وأنَّ حريَّة الدَّعوة الإسلاميَّة أوسع بكثير من المحاولات التي تستثمر ذلك الظرف.” والترابي بتصوُّراته الشوهاء في الإسلام السِّياسي، وقراءته الانتقائيَّة للنصوص الدِّينيَّة والأحاديث النبويَّة، ودراساته العديدة المطوَّلة المسهبة، والتي لم يكفُّ عن العمل بها والعزف عليها، وذلك بنفس مشحونة، وذاكرة موتورة في سبيل التكتيكات السِّياسيَّة المرحليَّة، قد أضاع حقيقة الحتميَّة التأريخيَّة في البلاد، وانتزع حقوق المواطنة لكثرٍ من المواطنين، وبدَّد سبل التعايش السِّلمي في سودان متعدِّد الأعراق والثقافات والدِّيانات.
على أيَّة حال، فحينما حاول الترابي صرف هذه المبالغ التي كانت تأتيهم من الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة في نشر لواء الإسلام في السُّودان خاصة، وإفريقيا عامة، اصطدمت الحركة الإسلاميَّة بمعارضة عارمة من المسلمين أنفسهم وذوي المعتقدات غير الكتابيَّة في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق، وكان هؤلاء المقاومون هم الذين تنظَّر الترابي في حقهم – رجماً بالغيب – بأنَّهم “مهيَّأون لتقبُّل الدَّعوة الإسلاميَّة بيسر”، فإذا هم يشهرون السِّلاح في وجه رسل الترابي القانتين، وإذا هم يصطبرون على النِّضال سنيناً عدداً، ثمَّ إذا هم يصلون معهم إلى تسوية سياسيَّة بعد أن وضعت الحرب أوزارها ولو إلى حين، ولكن هل التزم أهل الحكم في الخرطوم بتنفيذ الاتِّفاق المبرم المعروف ببروتوكول جنوب كردفان (جبال النُّوبة) والنيل الأزرق الذي جاء في اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل العام 2005م، وتسديد استحقاقات السَّلام؟ كلا! فبدلاً من أن يتحقق تنبؤ أو نبوَّة الترابي في أهل الجنوب الذين هم “مهيَّأون لتقبُّل الدَّعوة بيسر” – كما زعم – انفصلوا وأعلنوا دولتهم. إزاء ذلك، فلئن لم يع أهل الحكم في الخرطوم الدروس والعبر، فقد تنشطر أجزاء أخرى، أو يقتطع كل كيان نصيبه ويذهب مذهبه، ويبقى السُّودان أشلاءً أو لا يبقى في نهاية الأمر، وحينئذٍ لا ينفع النَّدم، وقضم الأصابع، وذرف الدُّموع.
إذ لا يمكن أن يتوقَّع تنظيم إيديولوجي أي تنظيم أن يؤسِّس مجتمعاً موازياً للمجتمع المألوف، أو يسعى سعياً حثيثاً إلى إحلال محله بالجديد الغريب، لا يمكن أن يُقدم على مشروع من هذا النمط ويتوقَّع من الآخر أنَّه لسوف لا يشعر بالقلق العميق، والتوتُّر المستفحل في أقلَّ الفروض، أو يقاومه بكل ما أُوتي من قوَّة في أفضل الفروض.
وإذا أرجعنا البصر إلى عالم الأغاريق (اليونانيين) في آلاف السنوات قبل الميلاد أدركنا أنَّ الشَّعب الإغريقي كان موزَّعاً وسط الدول المدنيَّة (City states) – أو المدن التي كانت دولاً مستقلَّة – لكنهم كانوا يتشاركون في كثرٍ من العادات. إذ أنَّ كثراً من هذه العادات والتقاليد التي كانوا يتشاركون فيها – كاللُّغة والكساء والغذاء – كانوا يعدُّونها قضايا ثانويَّة. علاوة على ذلك، كانوا ذا تعدُّديَّة سياسيَّة وتباين جغرافي، حيث لم تكن لهم أرض مشتركة، وكانوا يعانون من نمط المزاج الذي أخذ يدفعهم دوماً دفعاً حثيثاً إلى الصِّراع مع بعضهم بعضاً، ثمَّ كان ملوكهم يتقمَّصون دور القادة الدِّينيين والسِّياسيين على حدٍ سواء. بيد أنَّهم أنشأوا هُويَّتهم الوطنيَّة من خلال النِّزاع مع الأغيار من غير الأغاريق، وبخاصة في حروبهم ضد الإمبراطوريَّة الفارسيَّة. أما نحن في السُّودان فقد أسَّس حكَّامنا المستعربون هُويَّة البلاد من التماهي مع الآخر الأجنبي، أي مع العرب العاربة في الإطار التأريخي والجغرافي الذي لا يمت إلى الواقع السُّوداني بصلة؛ فلا الثقافات أجمعها عندنا في السُّودان عربيَّة، ولا الدِّيانات المعتنقة كلها إسلاميَّة، ولا الأثنيات عربيَّة. فلعلَّ كان أعظم الخطايا هو الشعار الذي ابتدره السيِّد عبد الرحمن المهدي (1885-1959م) حين قال: “لا تشيُّع ولا طوائف ولا أحزاب، ديننا الإسلام ووطننا السُّودان”، حتى سار على نهجه ساسة السُّودان الذين أتوا من بعده، تكريساً لهذا الفهم العقدي الأحادي وتطبيقاً له، فكان هذا هو البلاء الأعظم، الذي أمسى يشكِّل لب الصِّراع في حروب الهُويَّة وإنكار التعدُّديَّة في البلاد.
فمنذ نشوئها العام 1983م جاءت الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان برسالة خالدة ما تزال يسير بها الركبان، ومن أجل تلك الرِّسالة والأهداف النبيلة ضحَّى من أجلها شهداء كثر، ورووا الثرى بدمائهم وعرقهم. لذلك لتجدوننا في كل ذكرى نجدِّد ولاءنا لهم، واعتزازنا بهم. ففي هذا اليوم نحن نأبِّن شهداءً أعزة لنا، وبررة للوطن، وذلك لما ضحَّوا به في سبيل إعلاء قيم الحريَّة والعدالة والمساواة، ومن أجل الاعتراف بالآخر في حقوقه الإنسانيَّة والوطنيَّة والمدنيَّة التي كفلتها له الحكمة الإلهيَّة في التنوُّع، وأقرَّتها الدساتير الموضوعيَّة في الاحتكام إليها. لقد تجرَّد هؤلاء االشهداء من حب الحياة الدنيا، وكانت ألسنة أحوالهم تشي وتقول إنَّ السَّعادة أوالحياة الدنيا التي لا ينعم بها كثرٌ من النَّاس ليست هي بالسعادة الحقة في شيء، ولا الحياة المرغوبة في شيء. ومن ثمَّ لم تجد تلكم السَّعادة أو الحياة الدنيئة إليهم سبيلاً، ولم تنل رضاهم. هذا ما كان من ديدنهم ومعدنهم، حتى يوم مفارقتهم لهذه الدنيا، وكانوا كثراً. وإذا كان من العسر عسراً إحصاءهم كلهم أجمعين أكتعين، إلا أنَّه من الإجلال والإكبار والتوقير أن نذكر بعضاً منهم، وذلك دون أن نجتهل الآخرين لأنَّهم خالدين في وجداننا وأنفسنا، وإنَّهم شكَّلوا آمالنا العظيمة، ثمَّ إنَّهم وضعوا حداً للأفق الذي ننظر إليه. ولعلَّ حكايات نضالاتهم – كما يتَّضح جليَّاً تمثِّل أعتى المصادر في الثقة، وأنبل المواقف في التضحية، لأنَّها تشكِّل رؤيتنا وفهمنا لما يمكن أن يكون وضعنا ووطننا السُّودان.
وفي الحق، يموت الإنسان فيما يبقى العالم والصرح الذي ابتناه، ولكن في حال شهدائنا في الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان يبقى الاسم كالعلم خفَّاقاً، والهواء الذي كانوا يتنفَّسونه ما يزال يهب مهتزَّاً الأغصان في قمم الجبال وبطون الوهاد، ويظل صوت كلماتهم التي تحدَّثوا بها يعبر خلال الفضاء الشاسع في السُّودان، والأفكار التي ساهمت بها أدمغتهم هي التي أعطت ميلاد ما ورثناه اليوم؛ ثمَّ كانت عاطفتهم بمثابة أسباب حيواتنا، والنهاية التي ألمَّت بهم هي – في حقيقة الأمر – ما ينتظرنا أيضاً. وفوق ذلك كله، وحينما يكون الظلام دامساً، والنِّضال عسيراً، كانوا يقفون مرفوعي الرؤوس، لأنَّ ما كانوا ينشدونه ويناضلون في سبيله ظلَّ حقاً مسلوباً.
ففي يوم السيت 31 أذار (مارس) 2001م رحل عن هذه الدنيا الفانية المعلِّم القائد يوسف كوَّة مكَّي، وذلك بعد صراع مرير مع داءٍ عضَّال لم يمهله طويلاً ليقطف ثمار نضال أهله النُّوبة خاصة، وعموم أهل السُّودان بشكل عام. ثمَّ قبل انطواء صفحات النِّضال العسكري – ولو إلى حين – أخذ القدر، وبئس القدر الأخوذ، القائد محمد جمعة نايل في يوم 12 كانون الأوَّل (ديسمبر) 2004م، والقائد نايل لمن لا يعرفه هو أسد معركة تولسي. ومن هنا نودُّ كل الودُّ أن نحيِّ النِّساء الحرائر والرِّجال الأشاوس الذين اشتركوا في معركة تُولسي، الشهداء منهم والأحياء. ومن هنا أيضاً نرغب في أشد ما تكون الرَّغبة في أن نحني رؤوسنا من أجل أمهاتنا وإخواتنا اللائي كنَّ يشققن خطوط النيران في سبيل جلب الماء لمقاتلي الحركة الشعبيَّة لمواصلة القتال. وهل أخبركم عن تلكم الأم الرؤوف التي أصرتَّ أيما إصرار في أن تشرب من بئر ذات مياه مسمومة كما اعتادت القوات الحكوميَّة وميليشياتها تسميم الآبار! وبرغم من محاولات الجيش الشَّعبي عن إثنائها عن عزمها، أصرَّت قائلة إنَّها لسوف تشرب، فإن ماتت يحيى الجَّيش الشَّعبي لمواصلة النِّضال، وإن لم تمت شرب الجيش الشعبي ليرتوي ويواصل النِّضال. فإذا هي تشرب ولم تمت؛ ثمَّ إذا قوات الحركة الشعبيَّة تشرب من بعدها وترتوي وتُلحق بجنود الحكومة هزيمة نكراء في عمليَّتها التي أسمَّتها “عمليَّة طير الأبابيل”، ومن ثمَّ عادت “الطُّيور الأبابيليَّة” إلى الخرطوم مهزومة منكسرة، وهي تجرجر أذيالها، وتلعق لعاب هزيمتها، وتتحسَّر على موتاها.
وإنَّ لأهل تولسي – كما ينطقها أهلها – تأريخ مشهود لهم بالنِّضال منذ حملات المهديَّة (1882-1898م) على جبال النُّوبة من أجل الاسترقاق والتجنيد. وكذلك في عهد الاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م)، حيث كانت منطقتهم آخر معقل من معاقل المقاومة الوطنيَّة ضد الاستعمار في جبال النُّوبة، مما اضطرَّت السلطات الاستعماريَّة حينئذٍ إلى قذفهم بالطائرات في الفترة ما بين (1939-1945م) لإجبارهم على الاستسلام، وإخضاعهم للسلطة الاستعماريَّة. وبالطبع والمكر الفاقع، هذا تأريخ ناصع لم تذكره مقرَّرات الدولة السُّودانيَّة، وذلكم لشيء في نفوس الذين وضعوا الكتاب المدرسي، وكانت أهدافهم تتلخَّص في تجريد النُّوبة من مساهماتهم الوطنيَّة، وإعلاء دور أناس لم يترك أجدادهم بصمات مشهودة في النِّضال في سبيل الاستقلال، بل كانوا عملاء الاستعمار.
مهما يكن من شيء، فقد وارت الأرض في دارفور وجبال النُّوبة وثرى جنوب السُّودان شهداء الحركة الشعبيَّة الآخرين، منهم الرائد محمد توتو كوَّة في حادث أسيف راح ضحيَّته هو وصحبه من الضباط والجنود الذين كانوا في رفقته في يوم 11 حزيران (يونيو) 2002م في جبال النُّوبة، ومن قبل كان قد استشهد المهندس داؤود يحيى بولاد في دارفور في تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1991م. بيد أنَّ استشهاد الدكتور جون قرنق في حادث سقوط طائرة عموديَّة رئاسيَّة يوغنديَّة في جنوب السُّودان في يوم 30 تموز (يوليو) 2005م كان خبراً أليماً صدم أعضاء الحركة الشعبيَّة على وجه الخصوص، وأصحابه في دول الجوار الإقليمي. فعلاوة على فضله في تأسيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وقيادتها طيلة مسيرتها التي لم تخل من مصاعب جمَّة وتجارب فجَّة، إلا أنَّه كان يملك رؤية صائبة لم تكد تشوبها شائبة في مسألة حكم السُّودان، وكيفيَّة استيعاب أثنياته المختلفة، ومواءمة التعايش السِّلمي مع أديانه المتعدِّدة، وثقافاته المتباينة. مهما يكن من أمر، فباختصار شديد – الاختصار غير المخل بالقصد النَّبيل – كان الدكتور قرنق عبقريَّاً في تحليل تاريخ السُّودان المعاصر وحال الحاضر يومئذٍ، ومن ثمَّ وصف علاجاً ناجعاً لأدواء السُّودان المستعصية.
ومن بعد، رحل عنَّا الأب فيليب عباس غبوش في يوم 3 شباط (فبراير) 2008م، وهو كان رائد نضال النُّوبة وحامل شعلة التنوير السِّياسي لأهل الهامش، وملهم النِّضال العسكري الذي أخذه الجيل الذي عاصره، أو الذي أتى من بعده جيلاً بعد جيل. كان الأب غبوش هو الذي أيقن بأنَّ العمل السياسي في الخرطوم ما بات مجدياً، لأنَّ التحدِّيات جسيمة، وأمست أساليب المقاومة النِّضاليَّة في هذه الحال وبهذه الصورة عقيمة. لذلك حين انطلق فتية أقوياء أشدَّاء إلى الغابة للالتحاق برفاقهم في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بقيادة الدكتور جون قرنق دي مابيور، نجده كان قد أثنى على توجههم، وبارك مسعاهم. أجل، فمن كان قد جايل الأب غبوش زمنيَّاً يدرك أيَّما إدراك أنَّ خطابه العابق بالمرارة والغضب، بل حتى المتفكِّه منه، إذ إنَّما قد نجح إلى درجة أنَّه أورث جيلاً يقرع الظُّلم، وقديماً قالوا: “إنَّ الظَّالم يظلم فيُبلى النَّاس بفتنة تصيب من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذٍ، بخلاف ما لو مُنع الظّالم ابتداءً، فإنَّه كان يزول سبب الفتنة.”
ثمَّ سقطت أرواح كثيرة، وأٌريقت دماء غزيرة من أعضاء الحركة الشعبيَّة ومواطني جبال النُّوبة الآخرين، حتى أولئك وهؤلاء الذين لم يكونوا من عضويَّة الحركة الشعبيَّة في الأحداث الدمويَّة التي جرت عقب هجوم القوات الحكوميَّة والعناصر الأمنيَّة وميليشيات المؤتمر الوطني في 6 حزيران (يونيو) 2011م في كل من كادقلي والدلنج والمناطق المجاورة، والتي كانت الشرارة التي أشعلت نضال الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال، وهو ذلكم النِّضال الذي لا يزال مستمرَّاً حتى اليوم. وكذلك نحي شهداء الحركة الشعبيَّة الذين غدرت بهم القوات الحكومة وميليشيات المؤتمر الوطني والعناصر الأمنيَّة في مدينة الدمازين وفي جميع أرجاء النيل الأزرق في الأحداث التي فجَّرت نضال أبنائهم في 2 أيلول (سبتمبر)، وذلك في الحين الذي كانت الوسائط المحليَّة والإقليميَّة تسعى سعياً حثيثاً لاحتواء الموقف الدَّامي في جبال النُّوبة. إذ إنَّنا في الآن نفسه نحي النِّساء الشهيدات والأطفال الشهداء في جميع أنحاء جبال النُّوبة والنيل الأزرق ومناطق النزاع المسلح الأخرى في السُّودان، ونترحَّم على أرواح الأطفال الأبرياء الذين مزَّقتهم قنابل الطائرات الحكوميَّة الخرطويَّة وقذائف المدفعيَّة الثقيلة، وكم أحزنتنا تلكم الصور لأجساد الأطفال التي مزَّقتهم القنايل إرباً إرباً، وصيَّرتهم أشلاءً في هيبان، وحال ألسنتهم تقول ماذا جنينا في هذه الدنيا التي لم نبلغ فيها الحلم بعد.
وفي يوم 28 شباط (فبراير) 2017م انتقل إلى مثواه في جوار ربِّه الرَّفيق نيرون فيليب أجو في حاضرة كينيا، نيروبي، وذلك إثر علَّة لم تتركه أو تمد له من العمر لينال شرف نضاله في يوم ما.
ومثلما هي الحال في جبال النُّوبة، ساهمت منطقة النيل الأزرق بتضحيات جسام، نزوحاً ولجوءً وشهداءً، مدنيين وعسكريين كانوا، أم أطفالاً ونساءً. وقدَّم العسكريُّون منهم أرواحهم الغالية من أجل التغيير والارتقاء بحياة إنسان الهامش إلى أفضل السُّبل، وكان على رأس قائمة هؤلاء الشهداء العميد جعفر جمعة رزق الله. والعميد رزق الله – رحمه الله – من أوائل الذين انضموا إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في التسعينيَّات من القرن المنقضي، وهو الذي كان قد شارك في عدد من المعارك وألقن الأعداء دروساً في الفداء والتضحية، وبخاصة في معارك الكرمك وقيسان. إذ تلقَّى العميد الشهيد رزق الله قائد الاستخبارات العسكريَّة عدداً من الدورات التدريبيَّة في العديد من الدول، وعمل قائداً للقوات المشتركة في فترة السَّلام الوجيزة، وهو الذي كان قد استشهد في يوم 3 أيلول (سبتمبر) على مشارف مدينة الدمازين بمنطقة أبو قرن عقب تجدُّد النِّزاع المسلَّح العام 2011م، وذلك بعد أن استبسل استبسال الرِّجال، حتى انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، وباستشهاده فقد الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال قائداً ثائراً، ومناضلاً شرساً من النمط الذي يحتاجه الجيش الشَّعبي، ويهابه النِّظام الخرطومي .
أما الشهيد العميد الهندي أحمد خليفة فقد توفي في جوبا، أي حاضرة جنوب السُّودان. فقد عمل العميد الهندي قائداً لمركز التدريب السِّياسي والعسكري، وضابط إمدادات للجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال بمنطقة النيل الأزرق لعدَّة سنوات، وغيرها من المهام الأخرى والأدوار الحسَّاسة التي أُسندت إليه في الحركة الشعبيَّة منذ انخراطه في صفوفها العام 1997م، حتى لحظة استشهاده العام 2014م. وهنا تجدر اإشارة إلى أنَّ الهندي كان قد وقف معترضاً على أداء بعض المسؤولين في العمل الإنساني بإقليم النيل الأزرق.
بيد أنَّ الشهيد العميد علي بندر السيسي كان قد قُتِل في الأحداث المأسويَّة التي حدثت في النيل الأزرق بعد عمليَّة تصحيح المسار في الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال، والتي بدأت في 27 أذار (مارس) 2017م عقب استقالة نائب الحركة الشعبيَّة يومذاك الفريق عبد العزير آدم الحلو. والعميد السيسي كانت جريرته أنَّه كان واحداً من الذين نادوا بإجراء إصلاحات في أداء الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال في منطقة النيل الأزرق، وقد قُتِل في زنزانته بمنطقة جابر ديدي، وذلك بعد أن سجنه الرئيس السَّابق للحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال القائد مالك عقار. والجدير بالذكر أنَّ العميد الشهيد السيسي من أبناء الكرمك، وهو الذي كان قد انضمَّ إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بعد أن عمل بالقوات المسلَّحة السُّودانيَّة، وترسَّخت لديه قناعة برؤية الحركة التي تنادي بمفهوم السُّودان الجديد، ومن ثمَّ انضمَّ إليها برفقة عدد من الجنود، وكان قد شارك في حكومة ولاية النيل الأزرق بعد اتِّفاقيَّة السَّلام الشَّامل العام 2005م.
تم ندلف إلى الشهيد العميد عبَّاس حاج حمد، وهو من أبناء الروصيرص، وهو الذي كان قد التحق بالحركة الشعبيَّة في التسعينيَّات من القرن المنصرم، وكان مقاتلاً شرساً، ثمَّ إنَّه كان من الضباط الذين شاركوا في تحرير مدينتي الكرمك وقيسان. وقد توفي عقب تجدُّد النِّزاع في المنطقة العام 2011م في جنوب السُّودان، وذلك بعد أن عانى من المرض. أما الشهيد العقيد دكين جمعة فهو من أوائل الملتحقين بالحركة الشعبيَّة في الثمانينيَّات من القرن الماضي، وهو من مواليد قرية جرط جنوب-شرقي الكرمك، وهو الذي كان قد استشهد في معركة الكرمك. والشهيد النَّقيب عرديب وهو من أوائل الشهداء، وقد التحق بالحركة الشعبيَّة في الثمانينيَّات من القرن الفائت. أما الشهيد العقيد تنجا، فهو من أوائل المنضمَّين إلى الحركة الشعبيَّة، والشهيد العميد عبد الدايم دفع الله من أبناء قرية مرمطون. هؤلاء هم جزء قليل من شهداء الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بمنطقة النيل الأزرق، وهم كثرٌ، فتغمَّدهم الله بواسع رحمته، وفي ذلك هذا أقلَّ ما عندنا مما نستطيع أن نقوله لهم، بل إنَّه لأضعاف ما نستشعره عنهم. ولعلَّهم وهوبوا حيواتهم علانيَّة ليكون معلوماً للنَّاس جهاراً مطالب المهمَّشين في السُّودان، ولذلك كان الأمر مناسباً بل فخراً لتشريفهم علانيَّة بواسطة الرِّفاق. ثمَّ إنَّهم برهنوا أنَّه في القرن الماضي والحالي هناك ثمة أشخاص يمكن أن يضحُّوا بحيواتهم من أجل رؤية أو فكرة، وفي استشهادهم تركوا السؤال الملهم القوي التالي للأجيال: ماذا أنتم مستعدون لعمله في سبيل ما تؤمنون به؟
وإذ لا تزال الحركة تفقد مناضلاً عقب الآخر، حتى رحل الرَّفيق حمد النيل الإمام، وهو من أبناء النُّوبة الذي كان قد اختار الجنوب موطناً له باكراً، وكان شعاره اجتثاث الأعادي في جنوب الوادي، ومتى كان للظُّلم حدود، سياسيَّة كانت أم جغرافيَّة! وفي يوم 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017م، انتقلت روح محمد أحمد عمر الحبوب إلى بارئها بمستشفى كاودا إثر علَّة لم تمهله طويلاً. فقد انضمَّ الشهيد الحبوب إلى صفوف الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان العام 1987م بإثيوبيا، وقد عمل وناضل في عدَّة جبهات قتاليَّة منها – على سبيل المثال لا حصريَّاً – جنوب وشرق السُّودان وجبال النُّوبة، وفي الخرطوم نفسها. وبعد اندلاع العدائيَّات في جبال النُّوبة في حزيران (يونيو) 2011م، لم يتوان بالعودة إلى النِّضال المسلَّح، والتحق برفاقه في جبال النُّوبة ليعيش معهم مقاتلاً مناضلاً مكافحاً عسف أهل الحكم في الخرطوم.
وكذلك كان رحيل القائد سايمون كالو في حاضرة كينيا، نيروبي، الحاكم السابق لإقليم جبال النُّوبة، في يوم 19 كانون الأول (ديسمبر) 2017م، وذلك بعد صراع مرير مع المرض؛ ثمَّ تلاه القائد ياسر جعفر إبراهيم السنهوري في حاضرة جنوب السُّودان، جوبا، وهو الذي انتقل إلى رحاب الله في يوم 28 أذار (مارس) 2018م، وقد قال عنه والده – أطال الله في عمره – في جلسة العزاء “إنَّ ياسراً قد أدَّى الأمانة كما ينبغي، وإنَّ أبناءه لم يخرجوا خارج السُّودان للاغتراب، بل إنَّما للنِّضال.” إنَّه لهو ذلكم الشهيد ياسر الذي كان قد كتب في تغريدته: “جسدي المؤقَّت حاضراً أم غائباً، متران من هذا التراب سيكفيان الآن والباقي لزهري فوضوي، اللوت يشربني على مهلي ولي.” وفي تغريدة أخرى له قال: “جبهتي بالموت منحنية، لأنَّني لم أحنها حيَّة!”
فماذا بقي لما أن نتفوَّه به، إلا أن نقول إنَّ لله في أمر الدنيا شؤون. فترى الموت يختار الكرام بالفناء، ويصطفي كريمة مال البخيل المتشدِّد بالإبقاء، أي إنَّ الموت ليعم الأجواد والبخلاء على حدٍ سواء، فيصطفي الكرام، ويترك كرائم البخلاء، فالجود أحرى، لأنَّه أحمد. ولعلَّ شهداء الحركة الشعبيَّة قد جادوا بأغلى ما عندهم، ألا وهو أنفسهم. أجل، إنَّ الموت لكنزٌ ينقص كل ليلة، ومالٌ ينقص فإنَّه لمآل إلى النفاد، وما تنقصه الأيَّام والدَّهر ينفد لا محالة، ومتى شاء الموت قاد الفتى لهلاكه، ومن كان في حبل الموت انقاد لقواده. ولله در الشَّاعر طرفة بن العبد البكري حين أنشد:
أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكرامَ وَيَصْطَفي
عَقِيلةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
أرى العَيْشَ كنزاً ناقِصاً كلَّ ليْلةٍ
وما تُنْقُصُ الأَيَّامُ والدَّهرُ يَنْفَدِ
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوْتَ مَا أَخطَأ الفَتى
لَكالطِّوَلِ المُرْخَى وَثِنْياهُ بِاليَدِ
حتماً سوف تدركنا مقادير موتنا، وقد قدِّرت تلك المقادير لنا، وقُدِّرنا لها تقديراً، كما قال الشَّاعر عمرو بن كلثوم التَّغلبي:
وإنَّا سوف تُدركنا المنايا
مُقَدَّرةً لنا ومُقَدَّرينا
هؤلاء هم جزء يسير من قادة الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وهم وغيرهم قد وهبوا حيواتهم رخيصة في سبيل الحريَّة، والقيم الإنسانيَّة، وأشراط العدالة، التي آمنوا بها، وأفنوا أعمارهم فيها، فبارك الله فيهم في العلياء، وطوبى لهم في جوار ربهم في السماء، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، والرَّب أعطى والرَّب أخذ، فليكن اسم الرَّب مباركاً، فأرقدوا بسلام آمنين، فأنتم السَّابقون ونحن اللاحقون، فلن تنساكم جماهير الحركة الشعبيَّة أبداً، ولن يجتهلكم أهل السُّودان من محبِّي العدالة والمساواة والحريَّة قاطبة. وكما عرفناهم أحياءً، كذلك عهدناهم شهداءً، بأنَّهم سوف لا يحملون ضجراً أو غماً لئن كانت أعمالهم، أو بالأحرى لنقل تضحياتهم، قد تناساها بعض من أولئك النَّاس الذين عاش الشهداء وماتوا في سبيلهم. حسناً، فإنَّ ذكراهم لتمسي مقدَّسة عند الآخرين الذين سيجدون في بسالتهم وتضحيتهم بالذات إلهاماً لحيواتهم اليوميَّة، ونبراساً منيراً في الأزمنة المظلمة، وفي لحظات المشكلات الشدائد. لذلك كذلك نحن نمتدحهم بمضاء الصريمة، وذكاء العزيمة، وننعيهم بما هم أحق به وأهل له، ونثنيهم بما يستحقون ويستوجبون. ولما كان تعداد جميع الأعمال الحربيَّة التي قاموا بها أمراً يطول إيراده، فقد اكتفينا مع رغبتنا الزائدة في توفية هذا الأمر حقَّه بما ذكرناه من بسالتهم في حومة الوغى آنفاً.
ومن هنا نستطيع أن نقول في خلاصة القول إنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال لن ترضى أو تقبل بدولة إسلاميَّة مهما يكن من شأن، ومهما كلَّفها من أمر؛ فما تدعو إليه الحركة، وتصرُّ عليه في أعظم ما يكون الإصرار، هو الدولة العلمانيَّة الديمقراطيَّة التي فيها تسود المساواة، وينعم مواطنوها بالعدالة، ويتمتَّعون فيها بالحريَّات الثقافيَّة والدِّينيَّة والسِّياسيَّة. إذ أنَّ هناك ثمة مقولة هامة لألبيرت أينشتاين ألا وهي: “إنَّ الحقائق ما هي إلا التصوُّرات التي يتم ترديدها المرة تلو الأخرى؟” إذاً، تلكم المحدَّدات السِّياسيَّة إيَّاها ما هى إلا حقائق حقوقيَّة وإنسانيَّة ودستوريَّة ستظل الحركة الشعبيَّة – شمال تردِّدها إلى أن تتحقق إنصافاً لشعوبها، وإحقاقاً لتطلُّعاتهم المشروعة، ووفاءً لشهدائها.
وإنَّ الحركة الشعبيَّة ستظل تطالب بالقصاص وتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب والحرب ضد الإنسانيَّة والإبادة الجماعيَّة في جبال النُّوبة والنيل الأزرق ودارفور، ومذبحة المدنيين العزل في بورتسودان في كانون الثاني (يناير) 2005م، ومقتل المتظاهرين في الخرطوم في أيلول (سبتنبر) 2013م، وضحايا السُّدود في شمال السُّودان، وضحايا النِّظام العام من النِّساء، وقتلة الطلبة الدارفوريين والنُّوبة بجامعة الخرطوم والجزيرة، حيث كان أحدث هذه الجرائم العثور جثمان الطالب عوض الله أبكر آدم جمعة رئيس رابطة طلاب وادي صالح بالجامعات والمعاهد العليا مقتولاً بحي اليرموك بمدينة مايو بالخرطوم في أيار (مايو) 2018م، وذلك في عصر تنامت فيه ظاهرة ارتكاب جرائم القتل وسط الطلاب، كما أشرنا آنفاً. وفوق ذلك كله سوف لا تمر جرائم تعرُّض النَّازحين في معسكراتهم في دارفور من هجمات وتهديدات ومضايقات ميليشيات الجنجويد وقوات الدَّعم السريع دون جزاء أو عقوبة، مهما طال الزَّمن أم قصر، لأنَّها تمثِّل انتهاكاً جنائيَّاً للقانون الدولي الإنساني.
وكذلك لسوف تطالب الحركة الشعبيَّة وتلحُّ في الطلب بالقصاص لضحايا التعدين الحكومي مع الشركات الأجنبيَّة المنقِّبة في جبال النُّوبة وشمال وشرق السُّودان، والذي يتم فيه استخدام مادة السيانيد والزئبق في قتل الإنسان والحيوان وتدمير البيئة؛ وهذا كله لأنَّ هذه الممارسات تعتبر جرائم إنسانيَّة تمثِّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وآدميَّته، وإنكاراً لحقه في العيش الكريم في بيئة صحيَّة داخل وطنه، وانتهاباً لموارد هذه المناطق دون أي عائد تنموي أو تعليمي أو صحي أو خدمي أو وظيفي لأهالي هذه الأقاليم. ولسوف نكرِّر هذا المطلب الحقوقي الملحاح تكراراً، ولسوف نذيعه في النَّاس سمعاً، لئلا تدغدغ رجال “الإنقاذ” ونساءهم مشاعر الحياة الرغيدة من أموال الشَّعب السُّوداني التي سطت عليها أياديهم سرقة ورشوة واختلاساً ونهباً “مصلَّحاً”، والوصف الأخير هنا لإحدى الأخوات اللائي اكتوين بنيران “الإنقاذ” التي تلظَّى. ولعمري بما أنَّ أهل “الإنقاذ” يمثِّلون الشر المطلق، فإنَّنا لنرغب في أعظم ما تكون الرَّغبة أن نجعلهم بهذا الخطاب موتى بلا مقابر، لأنَّ – والقول هنا لمارتن لوثر كينغ (1929-1968م) – المصيبة ليست في الأشرار، بل في صمت الأخيار.
كذلك إنَّ الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال تطالب الحكومة بأن تكفُّ عن استخدام التجويع كسلاح لمحاولة إخضاع المواطنين في جبال النُّوبة والنيل الأزرق، فإذا كانت الحكومات المتعاقبة على دست الحكم في الخرطوم منذ عهد الفريق عبد الرحمن سوار الدهب حتى المشير عمر البشير (1985-2018م) قد أخفقت في استغلال تجويع سكان مناطق النِّزاع المسلَّح كسلاح لقهرهم من أجل تركيعهم، فلِمَ يظن البشير ورهطه اليوم بأنَّهم قادرين على إحراز النَّجاح هذه المرة؟ فلا مريَّة في أنَّ تعاظم الظُّلم، وتعمُّد تجويع المواطنين والجوع كافر، وتمادي حرمانهم من الدواء والكساء، وإمطارهم بوابل من القذائف جوَّاً وبرَّاً، لسوف يخلق ويخلف أجيالاً يكفرون بالوحدة الوطنيَّة، ويتشبَّعون بالضغائن الاجتماعيَّة، مما يجعل فرص المصالحة الوطنيَّة قليلة في أشد ما تكون القلة، وإنَّ لنا في جنوب السُّودان عبرة لمن يعتبر.
مهما يكن من شيء، فإنَّ الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال يمثِّل خطاً أحمر، وهو الذي أخذ يحمي سكان منطقتي جنوب كردفان (جبال النُّوبة) والنيل الأزرق طيلة هذه الأعوام ضد عسف النِّظام الخرطومي، ولسوف يحميهم طالما ظلَّت العدائيات مستمرَّة، ثمَّ إنَّه لسوف يحمي أي اتِّفاق قد يوقَّعه النِّظام مع الحركة، وذلك لسوء سيرة حكام الخرطوم في نقض العهود والمواثيق. إذ أنَّ منطق النظام الخرطومي في المحادثات التي تجريها مع الحركات المسلَّحة بين الفينة وأخرى يتمثَّل في المخادعة والمداورة. أفلم يقل الفريق أول عبد الرَّحيم محمد حسين في اجتماع الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة في 10 أيلول (سبتمبر) 2014م برئاسة المشير عمر البشير في منزله بالقيادة العامة: “نحن بهذا الحوار لا بدَّ (أن) نفِّك ميليشياتهم، ونقول لهم نحن مرحِّبين بالاتِّفاق كي نعطي انطباع المجتمع الدولي والإقليمي أنَّ السُّودان جاد في الحوار، وفي التفاصيل نطلب (منهم) تسريح القوات، وإذا رفضوا نقلب عليهم الرأي العام.”
أيَّاً كان من الأمر، فإذا لم يقبل النَّظام بهذه المعادلة العادلة، والحقوق المشروعة، والخيارات الوطنيَّة لتحقيق السَّلام – أي السَّلام المبني على الحقيقة – فإنَّ لسكان أيَّة منطقة من مناطق السُّودان المهمَّشة الحق كل الحق في اختيار الخيار الذي يريدونه كطريقة مثلى لنظام الحكم، ومعيار المشاركة في السُّلطة، وتقاسم الثروة القوميَّة، ومنهاج التَّعبير عن الهُويَّة الوطنيَّة؛ أما بالنسبة لأهالي جبال النُّوبة والنيل الأزرق فإنَّ مطلبهم ليتمثَّل في ممارسة حق تقرير المصير، وهو حق إنساني عالمي كفلته المواثيق الدوليَّة، ومارسته شعوبٌ كثيرة في العالم المعاصر؛ فأنظر إلى الجارة جنوب السُّودان، وأنظر إلى الجارة إريتريا، وأنظر إلى يوغسلافيا السَّابقة، وأنظر إلى جمهوريَّات الاتحاد السوفيتي السَّابق، ثمَّ أنظر إلى تيمور الشرقيَّة وهلمجرَّاً.
فلتعش الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال أبيَّة منتصرة،
تحت قيادة القائد عبد العزيز آدم الحلو،
والنائب الأوَّل القائد جوزيف تكا،
والنائب الثَّاني القائد جقود مكوار،
والأمين العام القائد عمَّار أمون،
ولتعش جماهير الحركة الشعبيَّة وجنودها وضبَّاطها وصف ضبَّاطها،
والمجد والخلود لهم
السَّلام عليكم، والسَّلام على الوطن العظيم
ودمتم ذخراً للسُّودان الجديد
الدكتور/ عمر مصطفى شركيان
ممثل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال بالمملكة المتَّحدة وجمهوريَّة أيرلندا
6 حزيران (يونيو) 2018م