محجوب حسين
■ إذا كان هناك قاموس يحدد التصنيف والتقييم فإن الرئيس السوداني الذي أركبته «المجنزرة الملتحية» مقاليد الحُكم لتنفيذ مشروع إسلامويي الخرطوم عام 1989 المرتكز على تنمية وإشاعة عقل الفشل في فساد أخلاقياته وميكانيزمات عمله السياسية والاقتصادية الواقعة ضمن سياق مؤامرة فكر النصب المفتوح على الدولة، من أجل تحقيق أعلى قدر من الذاتية ومراكمتها على حساب حقوق العامة، فإن الرئيس السوداني يُصنف طبقا للمعايير الأفريقية بأنه «المقبول والحاكم الراشد القوي الذي حكم وقيًد شعبه لمدة ربع قرن وكرس منهجا لسرقته، إنه إمبراطور القارة بدون منازع، بحيث يجب أن يحظى بتمثال يتم نسخه ويوزع في العديد من عواصمها لاعتباره ظاهرة سودانية قلما تتكرر في التاريخ الأفريقي».
فيما تصنيفه عند شعبه آمر آخر يكفي أنه يشار إليه بـ»الأسوأ»، أما في التصنيفات الغربية وعلى ضوء معايير حكمها فهو ديكتاتوري لنظام حكم موغل في الفساد وليس هناك حيز للحريات، مع انتهاك لحقوق الإنسان واغتيال للرأي الآخر وانعدام لأي مساحة من الديمقراطية في نظامه، فغير أنه مرفوض من لدن شعبه فهو مجرم ارتكب جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي الدولي، ومطالب بموجبها المثول أمام هيئاتها العدلية المعنية، كما يعتقد أيضا على نطاق واسع أن حوالي مليون شخص قتلوا من أجل تعضيد حكمه الوحشي الذي استمر خمسة وعشرين عاما بالتمام والكمال.
إلى ذلك، وفي ظل عدم ملائمة نظامه للشروط الدولية والإنسانية، بل تجاوزه لها في تمادي وإصرار واضحين، نجد أن الغرب وبغض النظر عن ضغوطه الشكلية هو الأكثر عطاء معه لأنه الأكثر رعاية وتعاونا مع الغرب وفي العديد من المجالات المعلنة والمسكوت عنها، مستفيدا من إزدواجية المعايير الغربية ومسارها في العلاقات الدولية المرتكز على تحقيق المصالح والانتصار لها أكثر من القيم المرفوعة غربيا، ويخطئ من يظن أن الرئيس السوداني، كما يقول عن ذاته بأنه «متمرد» على السياسات الغربية، بل هو أكثر رئيس سوداني خضع وخنع للسياسات الغربية في تاريخ السودان الحديث، في ظل افتقار نظامه لكل أركان المشروعية الوطنية والشرعية الشعبية، لذا نجده المنفذ لكل الشروط والمطامح الدولية في السودان، ولولا هذا لما بقي البشير ربع قرن من الزمن وهو في تماد إجرامي مستمر، بدون مساءلة، بل يثق في خطواته الإجرامية كلها، لأن المؤكد في الحالة السودانية أن شروط التغيير الداخلية مكتملة وناضجة في ظل عدم اكتمال الشروط الدولية، وهي معادلة تبرهن على أن الشروط الدولية، كمحدد، أكثر أهمية من المحددات الداخلية لتكملة دائرة التغيير في السودان. أما على مستوى الخطاب السياسي المستشف في إيحاءاته غير التصالحية أو العدائية بين الغرب والنظام السوداني، فهو فقط لملء الفراغ السياسي قصد أن تجد الأطراف الأخرى ما تلهو به أو تستهلكه بعد سقوط الدين والأيديولوجيا المرتبطة به من الحاكمين الذين تحولوا جميعا إلى شبكات تتصارع حول الفساد في الدولة!
الجديد في مسألة الموقف الدولي تجاه الخرطوم، أصدرت الترويكا المكونة من وزير الخارجية الأمريكي والنرويجي والبريطاني بيانا حول تطورات محطة الأزمة السودانية حاليا وقضايا السلام والحرب ومبادرة الحوار الوطني التي أطلقها الرئيس السوداني في الأشهر الماضية، والانتكاسات التي عرفتها في انقلاب النظام نفسه على أهم أسسها وهو أس الحريات المتراجعة دوما.. ويلحظ في البيان أنه غير نمطي وخرج من عباءة كلاسيكية اللغة الدبلوماسية المتعارف عليها التي غالبا ما تعبر عن مصالح الأطراف الدولية التي أصدرتها إلى رسم «خارطة طريق»، هذه الخارطة كما تبينت من بعض فقرات البيان أنها قدمت أهم نقطة مفصلية في الازمة السودانية حتى تتطابق كل الرؤى، والامر يتعلق بتعريف جديد للأزمة السودانية، لأن تعريف الأزمة نفسه يشكل معضلة سياسية كبرى في البلاد، وبالتالي إعادة تعريف الأزمة من طرف المجتمع الدولي، استنادا إلى طبيعة الحراك التاريخي الذي جرى في السودان خلال العقدين الماضيين، هو اعتراف صريح بأن الحلول القديمة ما عادت ذات جدوى، وهذا معناه بالضرورة إعادة هيكلة الدولة من جديد نحو الحل الشامل والبنيوي، وهذا لا يتم إلا بمشاركة شركاء أساسيين/ مغيبين عن المشهد، بل هو اعتراف دولي بلاعبين جدد، وأعني بهم شعوب المحيط السودانية في رؤية لمشروع وطني جديد، كذلك يقرأ في البيان أن هناك نقدا لعقلية قوى التمركز في احتكارها للحقيقة الوطنية.
وفي أدب سياسي غير مألوف يدعو أو يتحدث البيان عن «قادة» السودان وليس»قائد» السودان ويقول «…. كما أثبت التاريخ ، أن الحوار الذي ينطوي على أصوات فقط من الخرطوم أو من الأحزاب التقليدية لا يمكن أن يسفر عن النتائج المرجوة من شعب السودان.. إلخ»، لذلك نرى أن المطلوب عاجلا الضغط والعمل في أن يتطور هذا البيان إلى وثيقة دولية تتبناها القوى الدولية والإقليمية، ومن أهمها انضمام مصر والسعودية إلى هذا الخارطة، وتتم بلورتها في شكل قرار يصدر من مجلس الأمن ويؤسس لمؤتمر دولي يلزم جميع الأطراف بالجلوس والحوار تحت إشراف المنتظم الدولي، وفي آجال لفتح الصندوق الأسود السوداني بعلله الثقافية والفكرية والاجتماعية والجهوية والعرقية والدينية، لغاية مشروع وطني ديمقراطي جديد أهم بنوده تفكيك بنية سلطة التمركز السودانية.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين