*فخ “سيوسيديز” السوداني… و مبادرة “حوار الدولة” بين الجنرالين!*
*محجوب حسين*
بعد إزاحة النقاب عن الإفتراضات النظرية الجامدة لنصوص طبوغرافيا أزمة ” الإنتقال العسكري” السوداني و في مرجعياته البنيوية من التاريخية إلى الإجتماعية و الجهوية و الثقافوية و كذا ألاعيب الخطاب السياسوي الإنتقالي في فنون تسكين الصراع عبر زرائعه و مسوغاته، حرى القول، أن هناك ضرورة لفك تروس أجزاء ماكنية هذه الأزمة و ردها إلى جزيئاتها الصغرى- وفق المنهاج الفوكوي- لغاية النظر و إعادة النظر في وجهة النظر بالتدقيق والفحص و من ثم الإختبار لكل جزء منها و كيفية عمله لإعادة بناء تركيب جزيئيات هذه الماكنية من حيث الأصول من جديد، بعقلنة واقعية، مع التشديد هنا على هذه العقلانية و الموضوعية.
أولى تفحص هذه الماكنية المعطلة في تتبعنا للمسار التاريخي للإنتقال في ظل الإختلالات البنيوية و التصدعات التي أصابت بنية النظام السوداني الرسمي السائد تاريخيا و محاولاته المتكررة والمقاومة لإعادة ذات توازن نسقه في الهيمنة و التحكم و السيطرة دون هضم لمعطيات تحولات التاريخ و تراكميته التي أنجزتها الشعوب السودانية بفعل وطني و لو جاء متقطعا على مدى نصف قرن لكي تصل لهذه المقفلة التاريخية قصد التقرير فيها و حلها. لذلك إن تفحص و قراءة نصوص هذه الفترة من عسكرة الإنتقال لا تعدو كونها عملية إدارة تنافسية صراعية بين بندقيتين و بين جنرالين و بحمولاتها الوطنية المختلفة التي كونت مرجعيات كل منهما كشأن كل السودانيين، ، و في هذا سبق أن تناولناه في عنونة مقالنا الأسبق الذي نشرناه في ذات الجريدة تحت عنوان” السودان بين زمنين و برأسين و براديغما توازن القوى فضلا عن مقال آخر إبان البدايات الأولى للثورة و في قراءة مبكرة، كانت عبارة عن مقاربة تاريخية و سلطوية ما بين بدو الصحراء و بدو النيل!!”.عموما هذا التوازن العسكري، يعتبر أهم ميكاينزم في هذه العسكرة الإنتقالية الرابعة التي تعيش اليوم و في الغد على التهدئة و المغازلة و المبادرة و المبادرة المضادة على نهج توازن ” قوى الرعب”!! دون الولوج إلى متن الأزمة التي يتم الإلتفاف حولها و في بعض الأحيان تمييعها، تمويها و إنكارا بتحايل و شراء الوقت في إنتظار اللحظة الزمكانية الحاسمة، و هذا بائن مهما برع الخطاب السياسوي في فنون إبدعاته و تخريجاته و مسوغاته، أكانت عسكرية ” رسمية” أو سياسوية!!. حيث يسيطر على المشهد عقلين، كلاهما له شرعيته بالنظر إلى جدلية الصراع السوداني، عقل موغل في إستمرارية نمط “التمركزلوجيا” الثابت تاريخيا و آخر يرمي إلى تفكيك و تقويض تابو التمركزلوجيا لصالح شراكة حقة و بناء نظام اكثر عدالة و يلبي إستحقاقات تاريخية للشعوب السودانية.
جدير بالذكر ضمن هذا السياق، إن الإنتقال” السوداني الذي تحول إلى فعل مائع، إجتهدنا في إيجاد مقاربة مفاهيمية له و قلنا فيه، بالرغم من غياب التأطير النظري ” للإنتقال” المفهوم/ المصطلح من حيث التدقيق المفاهيمي القار و بصيغة معرفية مستقرة الدلالة، يمكن القول و بأعمال قواعد التبيئة، أن الأنتقال السوداني،عملية نقدية صارمة و جادة لمشروع الدولة الوطنية الأولى العاجزة و التي سقطت، و بالتالي الإنتقال الرابع هو إنتقال حاسم و بقطيعة من “اللا – دولة إلى الدولة ” راجع سلسلة مقالاتنا النقدية في جدل الإنتقال بذات الجريدة.
إن منهاجية الحوار التاريخي للأزمة الوطنية هو التاسيس ل “حوار الدولة” بين الجنرالين و هو ما سيعمل ” المركز الوطني – لمراقبة مبدأ المواطنة و التعددية” على طرحه و تقديمه للرأسين، و تتمثل في الأبواب الأتية:-
الباب الأول:
إعلان رسمي يؤكد رغبة الجنرالين و بشراكة وطنية حقة على الدخول فورا و دون تردد في “حوار الدولة” بهمة و عظمة وطنية واحدة ترمي إلى تأسيس الوطن السوداني في إختلافه و تعدده و إنسانه أولا، و الإستعداد على إتخاذ قرارات صعبة و مؤلمة و تحت عنوان عريض و هو مشروع إنتقال السودان من مشروع اللا-دولة إلى الدولة تحت شعار “دولة للكل و حقوق للكل” و قطع الطريق لسيرورة إنتاج الفشل الوطني مع إعتراف القوتين العسكرتين ببعضهما البعض، و أنهما مكملتان لبعضهما غير متنافستين و مهمتهما إنتاج دولة عجزت القوى العسكرية و المدنية إنتاجها في التاريخ الماضي و الراهن. و للتمييز، هناك قوى صلبة مهيمنة تاريخيا و قوة صلبة صاعدة و كلتاهما قوتان وطنيتان سودانيتان تعملان في مجال وطني، بعيدا عن نظرية الأبعاد الأربعة لمدرسة التمركزلوجيا و المتمثلة في ” الدمج و الإستيعاب و الإلغاء و الإلحاق” كمحددات راسخة للعقل السياسوي المهيمن عند تعاطيه مع الآخر المختلف.
الباب الثاني:
تحديد مرجعيات حوار الدولة الوطني عبر نقد سيرورة الدولة الوطنية الأولى و معرفة مكامن الخلل التي أدت إلى عجز الشعب السوداني على إنتاج الدولة و نهضتها، بحيادية و موضوعية و على أن تؤدي هذه العملية مباشرة الدعوة إلى هدنة ثقافية و إجتماعية و سياسية تنتظم الجهات السودانية الأربعة و مركزها الجغرافي، على أن تضفي عملية النقد الوطني الصارم إلى الترتيبات الوطنية الشاملة الآتية:-
1/ مشروع إعلان، تحدد فيه بدقة متناهية المباديء العليا للدولة الوطنية الثانية، فيه يتم إستفتاء الشعب عليها و تجديد التعاقد السياسي وفقها، كمشروع وطني مفقود في التاريخ السياسي السوداني الحديث.
2/ إعلان مسودة لحقوق الإنسان و المواطن السوداني يتم الإستفتاء عليها.
3/ إبتداع مسودة/ دراسة محكمة و معدة من ذوي الشان تؤسس لمشروع نهضوي إقتصادي تنموي، و بعدالة إجتماعية و مواطنية، في خطة خماسية يستفتى الشعب حولها، لجانب إلزام الجهات المعنية في إطار الأمن القومي للبلاد خلال هذه الفترة.
4/ الدعوة لوضع مسودة مشروع دستور دائم وفق المباديء العليا للدولة المشار إليها و الإعلان السوداني لحقوق الإنسان و المواطن الذي تم الإستفتاء عليه. كمرجعيات دستورية، على أن يتم إستفتاء الشعب على الدستور كذلك، و هذا يبعدنا عن دساتير المنحة و قهر قواعد النظام الرسمي السائد بالقوة.
الباب الثالث:
تجديد الشرعيات و إلغاء الشرعنات السائدة و ذلك ببناء نظام وطني إنتخابي كامل، مواكب و مستحدث تكون مرجعيته المباديء العليا للدولة و وثيقة حقوق الإنسان و المواطن السوداني و الدستور الجديد، وبعد عام واحد تقام إنتخابات بإشراف أممي لحسم صراع الشرعية وفيها يحق لقائدي القوتين العسكرتين تكوين حزبهما أو حزبيهما، أو حتى مستقل في الترشح لرئاسة البلاد.
الباب الرابع:
في الاخير، فتح بند الترتيبات العسكرية الوطنية الشاملة بين الجيش وقوى الدعم السريع والجيوش الأخرى وفق عناوين تلك التسوية التاريخية وبما يفضي مباشرة إلى ترتيبات تنتهي إلى جيش جديد شكلا و محتوى يتجاوز مفهومي إعادة الهيكلة و الإصلاح، بمعنى تأسيس مؤسسة دفاعية و أمنية جديدة و محايدة في الشأن العام الوطني، بعيدة عن مدرسة التمركزلوجيا التي حصرنا نطاق أذرعها في النظرية الرباعية الأبعاد و المستشرية في الفعل الوطني مع الآخر/ المختلف تاريخيا و التي تتمفصل في الأتي ” الدمج، الإستيعاب، الإلحاق، الإلغاء” على سبيل الحصر.
في الختام، و بالإستناد إلى بنية و دينامية الصراع و مكوناته التي تظهر في تمظهرات مختلفة بين كل مرحلة تاريخية و أخرى، نعتبر هذا هو المدخل العقلاني و الموضوعي، بل هو مخرج للسودانيين في تصادمهم المستمر مع سودانهم من الوقوع في ما نعت إصطلاحا ب” فخ ثيوسيديز” الذي عرف بأنه أهم مدرسة واقعية علمية في العلاقات السياسية و الدولية.
و ثيوسيديز هو مؤرخ عسكري في اليونان القديمة، صاحب كتاب”الحرب البيلوبونية”، شارك في الحرب البيلوبونية التي إندلعت ما بين “أثينا” و”إسبرطة” و سببها كان خلل في توازن القوى، إنتهت بحرب بسبب مخاوف أسبرطة من تعاظم قوة أثينا، و هذه الحرب شكلت نهاية للإغريق. و فيه وظف المفكر”غراهام آليسون” معطيات هذا السرد التاريخي و توصل إلى نتيجة مفادها أن أي قوى مهيمنة سائدة لا تقبل بنشوء و تقدم قوة صاعدة، و بعد دراسته لأكثر من 16 حالة في العلاقات السياسية و الدولية خلال القرون الخمسة الماضية، وجد “آليسون” أن 12 منها إنتهت إلى حرب حقيقية ، و بالتالي بنية طبيعة العلاقة ما بين قوى مهيمنة و أخرى صاعدة أساسها التنافس و الصراع و تنتهي إلى نتيجتين، إما حتمية الحرب أو حتمية السلم!! عند غراهام آليسون و نظريته ” فخ ثيوسيديز” كمفهوم مسنود بأطر نظرية و فكرية، تمكن من إنتاجه كمفهوم معرفي.
**نقلا عن صحيفة ” الجريدة” السودانية*