” فأصنعوا أثماراً تليقُ بالتوبةِ ” : إلى الرفيق سلفاكير /
بقلم حاج علي
” ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ”
” فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم ”
” الكتاب المقدس ”
بهذه القراءة المختصرة لآياتٍ مختارات من إنجيل : ” متى ” , ” العهد الجديد ” , نعرج إلى الرفيق سلفاكير في علياء سلطته الرفيعة بوصفه الرجل الثاني دستورياً في البلاد وبوصفه قامةً سامقة تمتد نحو الأعلى شموخاً وعزةً عن أن تتدلى وتمد يدها لتلتقط من سقط المتاع , أو نترجاه أن ينحني قليلاً لنُسمعه صوتنا فربما كان في الهمس نجاة , خمسون عاماً مرت على استقلال البلاد حتى استطاع بعدهاً واحداً من أبناء الجنوب الحبيب أن يتبوأ منصباً سيادياً رفيعاً بل حتى أن كان قاب قوسين أو أدني من كرسي الرجل الأول في البلاد , ومن المؤكد إنَّ هذا ليس بمنحةٍ أو امتيازٍ يمكن نزعه بهوى أيٍ من شاء ووقت ما شاء , لا أحد يملك هذه الصفة مطلقاً فرد كان أو حزب كان أو مؤسسةٌ كانت أو مخفراً للشرطة أو أيٍ من أجهزة القمع والقهر الأمنية , الجهة الوحيدة صاحبة الحق والتي لها الكلمة الفصل في أن تقول نعم أو لا هم هؤلاء البسطاء , أبناء هذا الشعب السوداني , وحدهم من يمتلك القرار, وحدهم من يملك أن يقول لا لسلفاكير ونعم للبشير أو العكس , أن يكون سلفاكير أو فاولينو أو الراحل كاربينو , أو القائد ” المزعج ” إدوار لينو أو غيرهم من أبناء الجنوب رئيساً لجمهورية السودان ليس هذا من عجائب الدنيا السبع التي سيغدو عددها ثمان أو تسع أو حتى عشر لا يهم , ليس هذا منكراً يجب على أمة ” محمد ” أن تستغفر منه , وتتوب إلى بارئها واعدةً نفسها بألا يتكرر , هذه الأرض لمن ؟ أهي حكراً لإحدى قبائل السودان دون سواها من القبائل ؟ أم هل قد تم تسجيلها لدى الشهر العقاري حصراً باسم حزب واحد يُدعى بحزب المؤتمر ” الوطني ” ؟ , وأي أرضٍ هذه التي أنبتت هذا الحزب ؟ أي لغةٍ يتحدث بها قادته و أي بيان امتلكوه وأي فنٍ في السياسة قد أجادوه ولا يفقهه غيرهم ؟ وما معني هذا الاستحواذ الطاغي على كل منافذ الحياة الذي تتم ممارسته باسم الدين والدين من ذاك براءٌ ؟ أسئلة ربما كانت حائرة وتبحثُ عن إجابة , لكن على الضفة الأخرى من النهر هنالك أيضاً أسئلةٌ أخرى تطرحُ نفسها , ما معنى أن يقف الثائرُ حائراً في منتصف الطريق ؟ وما معنى أن يرفع القائد المنديل الأبيض ؟ هل استيئس ؟ وهل كان اليأسُ نهجاً ثورياً مجرباً وسلاحاً فاعلاً تلوذ إليه الفصائل المناضلة لتحقق أهدافها ؟ سيدي سلفاكير : الجنوبيون ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية قلتَ هذه العبارة أم لم تقلها دعوتَ إلى استقلالهم تحت هذا المسوغ أم لم تدعو إليه , بل على العكس هم مواطنون من الدرجة الأولى وبامتياز , هكذا تتحدث الجغرافيا وهكذا يتحدث التاريخ , نحن دوماً نتهرب من مواجهة الحقائق , الجميع يفر بجلده من مواجهة الواقع , لا أحدٌ من قادتنا ” في الشمال ” أو حتى بعض القياديين من الجنوب يقوى أن يتأمل وجهه في المرآة “مرتين متتاليتين ” , ذلك لأن الحقيقة مرة ومُرعبة في نفس الوقت وصعبٌ أن تقابلها وأنت واعٍ , لذا يكون الالتجاء دوماً للأحلام , فهي المتنفس الوحيد لهذه الأزمات المكبوتة , الرجل الوحيد الذي واجه الحقيقة صاحياً وبابتسامة هو القائد الأسطوري الراحل ” جون غرانغ ” , حين أعلن أنه ينتوي أن يشرب القهوة في المتمة , كانت عبارته تلك ـ في حينها ـ تبدو مثل ” نكتة ” , وحقاً هي تنطوي على هذي الدلالة فالرجل قد كان فكِهاً وذو لسانٍ عذب , لكنها قد كانت تحمل دلالات أخرى واقعيةٌ وبعيدة , كان يعني إن الحق في الأرض للجميع , وكان يعني أن التاريخَ جِدُ مشوه وأنه قد تم إلغاء الجزء الأكبر منه عمداً , وأن الحاضر يبين وبما لا يدع مجالاً للشك أن الوحدة هي الخيار المطلق للشعب , كان يعني بعبارته تلك كل هذه القيم الجميلة , كان يدرك جيداً أن المهمة صعبةٌ لكنها قطعاً ليست مستحيلة , لم يقل أنني أنتوي محو المتمةِ من خارطة الوجود أو أقطع دابر ساكنيها من هذه القبيلة أو تلك القبيلة , غير أنه كان يبحثُ عمن سيشرب معه القهوة وشربُ القهوة لدينا ـ نحن السودانيون ـ دليلاً على التواصل والقيم النبيلة , فلماذا أنتَ أيها الرفيق سلفا تدعوا أبنائك الجنوبيين لشرب القهوة في نمولي دون إخوتهم في الشمال ؟ , لماذا لا تكمل الدرس الذي قد بدأه سلفك الراحل ” غرانغ ” , درسه سيدي لم يكن موجهاً لعامة الشعب السوداني فهؤلاء منغمسون في الوحدة فطرياً حتى المشاش , بقدر ما أنه كان مستهدِفاً من نصبوا أنفسهم قادة ومفكرين وبروفسورات ومؤرخين وأساتذة جامعات وأنهم وحدهم يمتلكون الحق بالتفكير نيابة عن الآخرين , و أنهم المتصرف في كل ممتلكات هذا الشعب وإلى الأبد بالوكالة وبالوراثة , فهم اللذين كانوا يقررون المصير وما زال بعضٌ منهم يحلمون بذلك , وهم وحدهم كانوا من يقول إنك سوداني بنسبة مائة بالمائة وللآخر أنت سوداني بنسبة أربعين وذاك لا يستحق أن يُمنح الجنسية لأن أجداده لم يكونوا موجودين على هذه الأرض ” المقدسة الشمال ” قبل ثورة أربعة وعشرين وهكذا , أراد الراحل أن يقول : لأولئك إنكم جميعاً راسبون في علم التاريخ وفاشلون في فن الجغرافيا ولا تعرفون من الأمصار إلا الخرطوم وأنكم مازلتم ضحايا للأبيض الذي كنتم تحت أسره لأكثر من نصف قرن , وأنكم وبرغم قراءتكم للقرآن لا تعرفون معنى ودلالة ” قسمةٌ ضيزى ” , أراد أن يقول لهم الكثير الذي لم يتعلموه من أجدادهم ولا حتى في المدارس , وأراد أن يقول لهؤلاء إن أجدادكم كان لهم جد واحد هو صاحب هذه الأرض الواحدة التي تسمى بلاد السودان وأنه كانت له امرأتان الأولى تنتمي إلى القبائل النيلية , من الدينكا أو النوير أو الشلك أو الباريا أو الزاندي لايهم فهؤلاء كلهم أبناء عمومة , والتي انحدر من أبناء سلالتها ملو
ال ومجوك والذي أتي من سلالته في وقت لاحق ثائر يُدعى جون جرانغ , وأن زوجته الثانية كان قد تزوج بها بعد قرون عديدة من زواجه بالأولى ـ فجدكم قد كان مزواجاً ومُعَمِراً ـ وهي ذات ملامح عربية لأن أجدادها قد نزحوا إلى هذه الديار في زمن متأخر ـ لكنهم منحوا الجنسية ـ أتوا في زمنٍ ما ربما كان أيام أبي زيد الهلالي أو ربما إنَّ جدها كان الزناتي خليفة فكلاهما قد مرت جحافل جيشه من هنا , ومن سلالة أبنائها كان محمد وعلي وعبد الدافع واللذين من أحفادهم انحدر الصادق المهدي ـ وكثيرون غيره ـ وهو الحفيد الرابع للإمام المهدي الذي حرر هذه الديار السودانية من الأتراك , وهكذا نشأ الأخوة غير الأشقاء أبناء الأب الواحد والأمان المختلفان لكن يبدو أن الغيرة قد أخذت برقاب الأم الثانية فالغيرة أمر جبلي في طبع النساء ويصدق هذا الرأي قول النابلسي : ” كما عهدناها قد تغار الضرائر ” , وأن عدوى هذه الغيرة قد انتقلت من الأم إلى الأبناء وهكذا بدأ الخلاف يدب في أوصال أبناء البيت الواحد ورويداً رويداً بدأت ملامح ذلك الأب الواحد في الضياع , وبدأت في الاشتعال تلك الشرارة اللعينة , شرارة الحرب الحرام جراء ما غرسته أيدي المستعمر من بذورٍ للفتنة وبما عززته من شعورٍ لتلك الغيرة الدفينة ذات الآماد البعيدة والسحيقة , كما أنَّ هذا الشقاق المعنوي زيد عليه شقاق وابتعاد في المسافة وهو ما رسمته الجغرافيا ” السياسية ” من خارطة جديدة قسمت البلاد إلى نصفين وأسمتهما بالجنوب وبالشمال , وهنالك في منتصف المسافة بينهما , كان هناك فتيلاً ملغوماً قد زُرع وباندلاع هذا الفتيل وباشتعاله كانت تكمن تلك الخطيئة الأبدية والتي دامت فينا لأعوامٍ وأعوام شربنا خلالها الموت الزؤام , لكن مشيئة الله كانت دوماً نافذة , فهي كما في السماء كذلك على الأرض , وهو ليس بغافل عن عباده فرحمته قد وسعت كل شيء , فقيض الخالق ثائراً في آخر الدهر يدعى ” جون غرانغ ” : أتى ليقول للناس جميعاً إننا كنا على خطأ , وأننا أبناء لحمةٌ واحدة , دعونا ننسى الماضي , دعونا نعود إلى الجذور فالجذور ليست حصراً لهكسلي , أراد أن يقول الراحل وقبل أن يموت : ” إننا قد أخطأنا وظل يرددها لمراتٍ عديدة وهو يلفظ روحه ثم قبل أن يلفظ آخر أنفاسه ردد بصوتٍ حزين وهو يفارق الحياة : ” أصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ” , وإننا من جانبنا نهديك هذه الكلمات أيها القائد الهمام أيها القائد سلفاكير فأنت من تسلم راية القيادة وأنت من تنتظره المسيرة …
حاج علي ـ Thursday, November 05, 2009
[email protected]