يُطرح مفهوم الدولة المدنية غالباً في مقابل مفهومين آخرين هما “الدولة الدينية” و”الدولة العسكرية”
بقلم عريب الرنتاوي/
باستثناء التيار السلفي بمدارسه المختلفة، تكاد لا ترى تياراً سياسياً أو فكرياً عربياً، إلا وأعرب عن تأييده لفكرة “الدولة المدنية”، بوصفها العلاج السحري لتحديات الانتقال السياسي في منطقتنا، والمنصة التي ينعقد حولها إجماع مختلف اللاعبين السياسيين … الشيء ذاته تجده في أدبيات كثير من الحكومات والأنظمة العربية كذلك.
ويثير إجماعٌ كهذا السؤال حول السبب في بقاء الانقسامات السياسية والأيديولوجية في المجتمعات العربية، طالما أن الجميع يقر بوجوب بناء الدولة المدنية الحديثة، كإطار جامع لجميع الكيانات والمكونات. والحقيقة أن هذا الإجماع زائف تماماً وكاذب بامتياز، وقد سقط عند أول اختبار له في بعض دول المنطقة، وسيسقط على المحك في دول أخرى عند أول مواجهة.
يُطرح مفهوم الدولة المدنية غالباً
في مقابل مفهومين آخرين هما “الدولة الدينية” و”الدولة العسكرية”، بفرض أنه يكتسب مضمونه الخاص من كونه نقيض هذين النموذجين، لكن المشكلة أن التيارات الإسلامية في العالم العربي، وأهمها وأوسعها انتشاراً، تيار الإخوان المسلمين، لا يمانع في تبني مفهوم الدولة المدنية، على اعتبار أن “لا أكليروس في الإسلام”، وأن دولة المدينة التي نشأت في “صدر الإسلام” كانت مدنية ولم تكن دينية، مع أن الكثير من النقد يوجه لهذه المقولة الافتراضية.
كما أن “حكم الجنرالات” في العديد من الدول العربية، ومنذ زمن طويل، بات يتدثر بلبوس مدني. فالانقلاب العسكري غالباً ما يسمى ثورة، ودائماً ما يوصف بأنه التعبير عن الإرادة المعلنة والمضمرة للشعب، و”الجنرال” سرعان ما ينزع بزّته العسكرية، ويتدثر بلباس مدني، ويخوض الانتخابات المعروفة نتائجها سلفاً … وهنا تنحصر وظيفة “صناديق الاقتراع” في “شرعنة” النتائج التي تحققت عبر “صناديق الرصاص”.
يفضي ذلك إلى نشوء توافق زائف حول المفهوم، فلا فريق أساسياً يجد غضاضة في طرحه وتبنيه بل والدفاع عنه … لكن الخلاف ينشأ ويتفاقم، وقد يتحول إلى مواجهات مسلحة وحروب داخلية، عندما يشرع الأفرقاء في ترجمة المفهوم وإعطائه مضامينه، وتنزيله من علياء “الشعار المجرد” إلى برامج عمل ملموسة بما تستبطنه من سياسات عمومية وتشريعات ناظمة للحقوق والواجبات.
هنا، سينبري الإسلاميون للقول إن دولتهم المدنية لا تتعارض أبداً مع تطبيق الشريعة، فمنظومة الحقوق والواجبات، الفردية والجمعية، مقررة سلفاً وكل ما يعارضها من مرجعيات أممية أو محلية وضعية، يجب ألا يسمو عليها بأي حال من الأحوال، فلا النساء لهن حقوق متساوية مع الرجال، ولا الأقليات غير المسلمة، ينبغي لها أن تتمتع بـ “المواطنة الكاملة” طالما أنها في مرتبة ثانية فقهياً بعد المسلمين. ويزداد الوضع تعقيداً في المجتمعات التي تتكون من أقليات من غير أتباع الديانات السماوية الثلاث.
وإذا ما أمكن للتيار الإسلامي قيادة “الانتقال إلى الدولة المدنية” من دون وجود “معادل موضوعي” له في الدولة أو المجتمع على حد سواء، تصبح “أسلمة الدولة، وليس المجتمع فحسب، بمختلف مؤسساتها وتشريعاتها وسياساتها العمومية، فريضة عين، وتعطى الأولوية في مختلف الظروف والأحوال لنظرية “التمكين”، تمكين الجماعة المسلمة من قيادة التحول، بالوصول إلى السلطة والبقاء على رأسها مهما كلف الأمر.
في المقابل، نرى “حكم الجنرالات” يحرص على تغليف قبضته الحديدية، بانتخابات زائفة وبرلمان شكلي وحكومة تكنوقراط، مطلقاً قبضته الحديدية ضد خصومه ومجادليه، وهو لن يعدم وسيلة لتبرير هذه السياسات، تارة باستثارة خوف الأقليات غير المسلمة من “الأسلمة”، وأخرى بالتلويح بمناسبة ومن دونها، بخطر التطرف والإرهاب، أو بالظروف الإقليمية المحيطة … تعطيل مسار التحول والانتقال إلى الديمقراطية، هو الهدف الأسمى لهذه النوع من الأنظمة، وهي وإن كانت لا تمانع في “تمدين” التشريعات والسياسات، إلا أنها ستقاتل بحزم ضد “دمقرطتها”.
في مجتمعات أخرى، حيث تلعب الهويات الثانوية من مذهبية وعشائرية وطائفية دوراً هاماً في الحياة العامة، ستجد “نظريات” تحاول المزاوجة ما بين “مدنية الدولة” وطائفية نظامها السياسي أو عشائريته … بل أنك ستسمع لمن يجادل بأن “البنية التحتية” لدولتهم المدنية، يتعين أن تنهض على المنظومة الطائفية/ المذهبية أو العشائرية، ودائماً بحجة “الخصوصية” و”الاستثناء”، حتى وإن أدى ذلك، إلى “انتخاب” برلمانات هي عبارة عن مجالس لقادة الطوائف ورموزها، أو مجالس عشائرية أقرب إلى “اللويا جيرغا”، أي مجلس العشائر في التجربة الأفعانية.
اللجوء إلى إشهار شعار “الدولة المدنية” من قبل مختلف التيارات، يخفي مأزقاً بنيوياً في داخلها. الإسلاميون أدركوا حساسية طرح شعار “الإسلام هو الحل” وما يثيره من مخاوف وتداعيات، فلجأوا إلى الدولة المدنية … والعلمانيون من يساريين وقوميين وليبراليين، خضعوا لابتزاز خصومهم من الإسلاميين ذوي النفوذ الشعبي الواسع، وخطابهم التكفيري، فلجأوا إلى “مدنية الدولة بدل علمانيتها” … و”الجنرالات” في مفتتح القرن الحادي والعشرين، يجهدون لأسباب معروفة إلى إخفاء أوسمتهم ونياشينهم، خلف ربطات العنق الفاخرة التي يرتدونها.
والحقيقة التي يتحاشى كثيرون الاعتراف بها والخوض في الحوار حولها، هي أن الدولة، لن تكون مدنية، بل ولن تبقى دولة في نهاية المطاف، ما لم تكن ديموقراطية وعلمانية، فتصبح دولة جميع أبنائها وبناتها، دولة جميع كياناتها ومكوناتها، دولة المواطنة الفاعلة والمتساوية للجميع من استثناء أو تمييز، دولة تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، وترعى حقوقهم الفردية والجمعية، دولة تكفل منظومة حقوق مواطنيها وواجباتهم في ظل سيادة القانون، دولة القانون الواحد السيّد، الذي لا تنازع سيادته قوانين موازية من طائفية ومذهبية وعشائرية، دولة تتحول فيها الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان من مجرد شعارات وأدوات، هدفها الوصول للسلطة، إلى نمط حياة وثقافة سائدة.