التغيير
رشا عوض
السودان من البلدان الموبوءة بغسيل الأموال، وهو عبارة عن (سلسلة عمليات تجارية أو مصرفية وهمية بهدف إدماج أموال كبيرة متحصلة من مصادر غير مشروعة في الدورة الاقتصادية)، وطبيعي جدا وجود هذه الجريمة في بلد دُمِّرت قاعدته الإنتاجية مع سبق الإصرار والترصد وبالتزامن مع ذلك صعدت بسرعة الصاروخ طبقة من المليارديرات ذوي الثراء الفاحش وغير المعهود في تاريخ السودان دون ان يعلم أحد من أين لهم هذا؟! حيث انهم لا يمارسون نشاطا اقتصاديا يمكن رصده بالعين المجردة! وهذه كارثة !
ولأن كوارث السودان شيمتها التناسل، فإن “الغسيل” انتقل من مجال الأموال إلى مجال الأشخاص! وتحديدا رأس النظام المتهم من قبل محكمة الجنايات الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية!
وعملية “غسيل الرئيس” لم تعد مقصورة على جعجعة وسائل الإعلام المأجورة وتطبيل الانتهازيين والنفعيين في الداخل، بل تمددت العملية خارجيا نحو الجوار الأفريقي ، وحاولت التسلل إلى أوروبا عبر أندية كرة القدم!
وفي هذا السياق تعاقبت في بحر أسبوع واحد فضيحتان مجلجلتان:
الأولى حكاية أن نجم نادي برشلونة الإسباني ليونيل ميسي أهدى قميصه للبشير من باب الإعجاب عبر سيدة تدعى اليسا قيل انها مندوبة نجم كرة القدم الشهير، ثم اتضح بعد ذلك أن الموضوع برمته مفبرك! ونفى اللاعب والنادي صلتهما بالموضوع! ومؤخرا رشحت أنباء عن ان ميسي سوف يقاضي من روجوا لحكاية مهاداته للبشير!
إزاء هذه الكوميديا السوداء إذا صوبنا تفكيرنا باتجاه نظرية “غسيل الأشخاص” وبحثنا عن العصابة التي تتولى مهمة”غسيل الرئيس” وتقديمه للرأي العام المحلي والإقليمي والدولي كرئيس محترم ذي شعبية وإعجاب عابر للحدود، رغم أنف المحكمة الجنائية الدولية فسوف يتضح أن عملية “الغسيل” نفسها غير جادة رغم تكلفتها المادية الباهظة والمدفوعة حتما من المال العام، إذ أن انكشاف الملعوب بسرعة البرق جر على الرئيس السخرية والتندر، وحتى لو لم ينكشف الملعوب وهو أمر مستحيل في دنيا الفضاءات المفتوحة، وحتى لو كانت القصة صحيحة فإن تهافت رئيس دولة موصوف بأنه أسد أفريقيا على تلقف “فنيلة” من سكرتيرة لاعب كرة قدم ما هو إلا تبديد للكرامة وضرب من ضروب عقدة النقص! لماذا لا يتسلم هذه “الفنيلة” اي موظف في المراسم او سكرتير الرئيس؟ هل مشغوليات ميسي لاعب كرة القدم الذي أرسل هديته المزعومة عبر مندوبة ولم يحضر شخصيا أكبر من مشغوليات رئيس دولة المشروع الحضاري الذي لديه متسع من الوقت لمقابلة (سكرتيرة لاعب كرة) يتضح فيما بعد انها مجرد محتالة! ويتباهى بالتقاط الصور مع “مندوبة ميسي” و “فنيلة ميسي” لا ميسي شخصيا ؟ هل عصابة “غسيل الرئيس” متآمرة عليه؟ أم أن العصابة تم اختيارها على أساس”الولاء قبل الكفاءة” وهذا مبلغها من العلم!
أما الفضيحة الثانية فهي تكريم ما يسمى “بمنتدى الكرامة الأفريقية” للبشير بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا باعتباره رمزا للصمود والكرامة والعزة الأفريقية!
وهو تكريم لم يرد ذكره إلا في وسائل الإعلام السودانية التي صورته كفتح مبين، ويدل الحضور المتواضع لحفل التكريم والمستوى البائس للخطابات، وغياب أي معلومة عن معايير الاختيار لهذا التكريم وطبيعة المنتدى المزعوم وأهدافه على أن المناسبة برمتها مرتجلة ومصنوعة على أعين “عصابة غسيل الرئيس” ومدفوعة القيمة من مال الشعب السوداني!
وذات الكذب والتضليل الذي رافق فضيحة ميسي ظهر مجددا في حكاية التكريم هذه، حيث تعمدت وسائل الإعلام السودانية تضخيم الجهات التي قيل أنها بادرت بتأسيس المنتدى حيث أقحمت معها جامعة الأمم المتحدة للسلام بأديس أبابا، وبداهة لا يمكن ان تشارك أية مؤسسة لها علاقة بالأمم المتحدة في تكريم رئيس مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بناء على قضية محولة من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة! ولو تمكنت عصابة “غسيل الرئيس” من رشوة أحد منسوبي هذه الجامعة وجعلته يزج باسم الجامعة في مهزلة كهذه سوف يستلم خطاب فصله في اليوم التالي!
سؤالنا الأهم، نحن كمواطنين سودانيين هو عن حجم المبلغ الذي اقتطع من من مالنا العام خصما على كسرة خبزنا وجرعة دوائنا لتمويل هذه المسرحية! فقد أورد موقع الشروق أن “المنتدى انطلق من مبادرة لعدد من الجامعات والمراكز الأفريقية، تشمل جامعة الأمم المتحدة للسلام بأديس أبابا وجامعة أديس أبابا، وجامعات ومراكز بدولتي تنزانيا والكاميرون ومعهد السلام بالسودان وعدد من الشخصيات العلمية والقيادية الأفريقية والتي تهدف لمناهضة الظلم والاستهداف الواقع على أفريقيا ومحاولة استعمارها واستنهاض كرامة وعزة القارة” نتساءل كم هو المبلغ الذي دفع لكل واحد من الشخصيات المفتاحية في هذه المؤسسات أن صح انها شاركت في المنتدى؟ فضلا عن المبلغ المهدر في تنظيم الحفل؟
أما كمواطنين أفارقة فمن حقنا أن نتساءل عن ما تعنيه العزة والكرامة الأفريقية؟ وما المقصود تحديدا بنبرة “استهداف أفريقيا” التي نجح نظام البشير في تسويقها للاتحاد الأفريقي وصادفت هوى في نفوس كثير من رؤساء ولا سيما ذوي الأيدي الملطخة بالدماء في هذه القارة الموبوءة بالفساد والاستبداد؟
في سياق تعالي أصوات معتبرة في الاتحاد الأفريقي داعية للانسحاب من “محكمة الجنايات الدولية” يمكننا استنتاج أن “العزة والكرامة الأفريقية” مقصود بها إعطاء حصانات مطلقة للبشير وأمثاله ضد أي مساءلة قانونية حول الجرائم التي ارتكبوها في حق شعوبهم بل إضفاء المشروعية الأخلاقية على “الإفلات من العقاب” عبر تصوير ملاحقة المحكمة لرئيس ارتكبت في عهده مجازر بشعة في حق المدنيين وجرائم حرب وإبادة جماعية على أنه استهداف للقارة الأفريقية واستعمار جديد زاحف نحوها!
هذا المنطق الغوغائي يعبر عن حالة انحطاط سياسي تتدحرج نحوه القارة الأفريقية وبقيادة الاتحاد الأفريقي بكل أسف، ومن واجب كل القوى الديمقراطية المستنيرة والمنحازة فعلا “لعزة وكرامة أفريقيا” أن تتصدى بصرامة لهذا الانحطاط، وتلحق الهزيمة الفكرية والأخلاقية بمنطلقاته.
إن أكبر مهدد “لعزة وكرامة أفريقيا” هو النظم الدكتاتورية الفاسدة التي تهدر موارد القارة بالفساد وسوء الإدارة ، وتذل شعوبها بالقمع والقهر، وتدمر حاضرها ومستقبلها بالحروب الأهلية، وإن كان هناك استعمار يستهدف أفريقيا فهو تلك المافيات السياسية التي تحكم بالحديد والنار وتهدر حقوق الإنسان الأفريقي وحرياته الأساسية، وإذا كانت هناك أطماع استعمارية تهدد القارة من خارجها فلا سبيل لمواجهتها إلا بعد ان تتحرر أفريقيا من زبانية استعمارها الداخلي، أمثال عمر البشير.
وإذا كانت القارة الأفريقية بكامل عافيتها السياسية والأخلاقية فلا بد أن تصدر استنكارات وإدانات رسمية وشعبية، من مؤسسات وأفراد لمهزلة التكرم بلقب”رمز الكرامة والصمود الأفريقي” على رجل سطا على السلطة بانقلاب عسكري، وعذب معارضيه في بيوت الأشباح، وصوب الرصاص الحي إلى رؤوس وصدور المتظاهرين السلميين، وقسم وطنه وللمفارقة على أساس إثني نابذ للمكون الأفريقي حيث قال بعد انفصال الجنوب (لا دغمسة بعد اليوم)! وما زال يقصف المدنيين في مناطق الحرب الأهلية بطائرات الانتنوف والقنابل والبراميل المتفجرة، ودمر القاعدة الانتاجية لدولته وبدد أموالها بالفساد وترك شعبه على حافة الجوع والتسول حيث يموت الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات بسوء التغذية في بلد النيلين والمائتي مليون فدان الصالحة للزراعة!
هل هذه هي “الكرامة الأفريقية”؟