لم يعد يزعجني عدم الصدق بل بات يؤرقني عدم قدرة العصابة علي تحديث وتطوير آليات الكذب، فالدول البوليسية تعتمد في تحليل توجهات الجمهور علي البيغ داتا، فتستخدم من الإجراءات التصحيحة مايلزم لتفادي الإستقطاب الذي ربما دفع الدولة للإصطدام بالجمهور. من بين هذه الدول دولة الصين التي لم تعتمد فقط علي القمع وسيلة لتجيير إرادة الجماهير، إنما وفرت لهم أيضا من الخدمات ما جعل غالبيتهم توقن أنها تضحي بالحرية لأجل غاية أسمي وأعلي، ألا وهي ريادة الصين الإقتصادية وتفوقها العسكري والسياسي علي صعيدها الإقليمي خاصة، وعلي الصعيد العالمي. نحن في السودان ضحينا بالحرية وبالكرامة الإنسانية دون أن تتحقق لنا أمثولة السيادة الوطنية أو يتوفر لنا الرفاه المادي. بل جنينا من جراء الأيدولوجيا والإندفاع وراء الوهم الإسلاموي حروباً داخلية، إنقسامات،إبادة للجماعات، تردي في الخدمات، تقهقر في كافة المؤثرات (مؤثرات التنمية العالمية)، إنتهاكات وتعدي علي الحرمات كان أخرها جريمة أغتيال المعلم أحمد الخير عوض الكريم (2/ فبراير/ 2019م)، بطريقة بشعه شملت التعذيب وإستخدام الخازوق (آله حديدة تُدخل من الدبر وتسبب تهتك في الأمعاء ونزيف داخلي حاد، وسيلة لإطالة أمد تعذيبه وإمعاناً في هدر كرامته الإنسانية، حسب تعريف أحد الناشطين). كتب أحدهم رثاءً مؤلم وموجع، فهل كانت الأستاذة التي ماتت قبل أعوام في بيت الكنيف أخف قدرا؟ صحيح الطلقة ما بتكتل بكتل سكات الزول …
السلامُ عليك بلون الطبشور الأبيض في يدك ….
بقداسة كل الحِبر في كراريس العالم …
بـنجابة التلاميذ مناراتُ المستقبل وبصوت اناشيد العلم في إشراقة الصباح …
روحك السلامُ والضوء ..
الظلامُ يدُ جلاديك ..
فالترقد بالرحمة والنور والمغفرات ..
لقد ضاقت الدولة ذرعا، اقصد العصابة، من جراء إلتزام المتظاهرين بمبدأ السلمية، فلجأت إلي إستخدام أساليب غير إنسانية شملت إنتهاك الحرمات (دخول البيوت دون إستئذان وضرب كبار السن وإهانتهم أمام ذويهم، وإذا إستدعي الامر قتلهم)، هتك أعراض المعتقلين الذين هم في عهدة الدولة، قتلهم واللجوء إلي أساليب غير إحترافية في تسليم الجثامين إلي ذويهم. لا أود أن أقول أُسساً قانونية. أو مؤسسية، لان الإجراء كله يتسم بالغوغائية ويتعمد إتباع حيل البلطجية، لكنني أريد أن أنوه إلي الأنظمة الاكثر بطشاً في العالم لا تستخدم القوة عارية، وإذا فعلت فهي تحبك من السيناريوهات ما يترك مجالاً للشبهة. فالدولة، أي دولة، تسعي لدرء التهمة ولو أن تكون الحيلة واهية كي لا تفقد مشروعيتها، الاهم ألا تجعل عضويتها (ليس هياكلها وتنظيماتها)، هدفاً للمقاومة الشعبية!
إن أجهزة الأمن في دولة من دول أمريكا اللاتينية دفعت بإحدي الناشطين مؤخراً ورمته من الطابق العاشر لكنها سرعان ما إستدعت الإسعاف وأبلغت الإعلام بأن الناشط المدني والذي كان يعاني من مرض نفسي إنتحر نسبة لما ما أحسه من مسألة قد تكون تعسفية أثناء جلسه الاستجواب. فالعالم لم يعد يهتم بالأخلاق أو الإنسانية قدر إهتمامه بالإخراج المنطقي غير المكلف سياسيا، كحالة خاشقجي. لم تكلف أجهزتنا الامنية نفسها جهد التفكير في إخراج “منطقي” لفعايلها الإجرامية، مما سيجعلها من الأن فصاعداً جهة خارجة عن القانون يجوز للمواطن التصدي لها بكافة السبل، يشمل ذلك الإغتيال. لا أستبعد أن تبدر ردود فعل إنتقامية، ولو بصورة إنتقائية، تجعل أفراد الأمن يفكرون مراراً قبل أن يعتدوا علي أي شخص أو يقتحموا أي دور. فالجريمة لم تعد جماعية كما يحدث في الهامش، لأن الافراد الذين قتلوا الاستاذ أحمد خير وأخرين من أبناء المدن باتوا محاصرين، ينتظرون ساعة الرصد ويتهيبون ملاقاة الحشد.
يجب أن لا يعتبر هذا إنحرافاً عن مسار الثورة السلمي، لأن الثوار لا يترصدون أفراد الأجهزة النظامية في هيئاتهم ولو أن يكون جهاز الأمن إنما يترقبونهم لينظروا ما قد يصدر من ذواتهم. يجب أن يقاوم المواطنون من الأن فصاعداً محاولات الإعتقالات غير المسنودة بلائحة قانونية (أمر إعتقال مثلا)، مشفوعا ببطاقة شخصية لتعريف جهة الإعتقال. هذا من الناحية النظرية، اما من الناحية العملية، فإن التجاوز عن هذا الحق يفهم لكنه لا يبرر في إطار الفوضي التي نعيشها الأن.
أذكر أن أفراد الأمن الذين إعتقلوا والدي مباشرة بعد تسليمه مذكرة الاساتذة للقصر الجمهوري أبان إنتفاضة شعبان 1973م عرّفوا أنفسهم، قدموا بطاقتهم لوالدي وخاطبوه بلقبه العلمي، بعد أن قدموا له أمر الإعتقال والذي صدر آنذاك من عبدالوهاب محمد إبراهيم، وزير الداخلية، إذا لم تخن الذاكرة. إختلف الامر أيما إختلاف أول أيام الإنقاذ التي تولي زمام أمرها الهالك إبراهيم شمس الدين. لم يستنكف المجرم المعتوه، الذي انتقم الله منه شر انتقام، محاصرة المنزل من ثلاث جهات بعسكر إعتلوا السور رافعين رشاشاتهم وعلي كامل الإستعداد لضرب النار إذا ما إقتضي الأمر. كان يُغني عن هذه البطولة المفتعلة إرسال جواب بريدي، وطلب بالحضور في المكان والموعد المحددين، لكنه أراد أن يبرز هيبته فأشرف بنفسه علي الإعتقال وأمعن في المحاولة لإذلال أستاذ جامعي، سياسي وطني وأول وزير دفاع سوداني، بعدم السماح له بإحتلال المقعد الأمامي في البوكس، وأوصى بل أصر علي إجلاسه في حافة البوكس الخلفية، رغم تبرم أفراد الوحدة التي كان معظمها من عامة السودانيين وسوادهم.
في غمرة الفرحة التي أعترت الشعب في ثورة أبريل، إلتفت إليّ رجل خمسيني وقال لي: لو كنت يا ولدي بعرف قبر جعفر بخيت لذهبت للتبول عليه في هذه اللحظة. ليتني التقي ذاك الرجل اليوم فاذكره بما قال، لعله يسترجع، فأحط رجل في مايو أعظم قدرا من أشياخ هؤلاء الإنقاذيين. لن يمض وقتا علي إنتصار الشعب الذي لن يكتفي بالتبول على قبور هؤلاء السفلة، لكنه أيضاً سيسعي لمحوهم من ذاكرته. هذه الثورة، يقول الدكتور النور حمد، “ظلت تعتمل في نفوس السودانيين، منذ مقدم نظام الانقاذ. ولم تكن الأزمات المعيشية الخانقة، الأخيرة، سوى الشرارة التي أشعلت فتيلها. فالثورة، في حقيقتها، ثورةٌ من أجل الحرية، واحترام الذات، والكرامة الشخصية، إضافةً إلى إعادة الاعتبار لمنظومة القيم السودانية، الفاضلة، المتوارثة، التي تعرضت للضعضعة، والإهانة، بمحاولة فرضِ نمطٍ، وافدٍ، من التدين المظهري، الزائف. فهي، ثورةٌ من أجل كرامة الثقافات السودانية، التي استُهدِفت بالمحو. وهي ثورةٌ ضد الصلف، والاستبداد، والغلو، الذي ظن أصحابه، أن في وسعهم محو ثقافة شعبٍ، عمرها خمسة آلاف عام، محوًا كاملًا، واستزراع ثقافةٍ جديدةٍ، مكانها” (السودانيون والثورة على نظام الإسلاميين،4 فبراير 2019). أنا أعجب بعد ذلك من الذين يقرأون لهم، يتداولون سخافتهم، ويستمعون لإفكهم المبين.
إن التعبئة الشعبية والجماهيرية يجب أن تشدد علي مبدأ “السلمية” (الذي لا يعني الإستكانة والسماح لأجهزة الامن بهتك الحرمات)، أما الجهات الثورية والتي تعمل في المناطق المستعمرة فوجب عليها تغيير تكتيكها ليشمل حرب العصابات التي لا تكتفي فقط بإختطاف الضباط، إنما تجعل أيضاً من القادة الأمنيين هدفاً للمقاومة الشعبية. مثلاً، إن والي الضعين الحالي (وأخرين من عيال أم شطيطة طغوا واستبدوا وقد كانوا في أهليهم صيعا وصعاليك لا قيمة لهم)، له صبغة دستورية قد تعفيه من الإستهداف الذي يستثني المدنيين في حالة حرب العصابات، لكنه أيضاً يندرج تحت قائمة الأمنيين الذين شاركوا ومازالوا يشاركون في حرب الإبادة بدارفور. هذا مما يجعله، هو وكل الأمنيين، هدفاً للمقاومة العسكرية في دارفور وفي كل أقاليم السودان من الأن فصاعدا.
كاد هذا الأمر أن يكون عسيراً لولا تبدل المناخ السياسي الذي هيأ لكل الفاعلين تجاوزخانة الإستقطاب الإثني، والعمل سوياً لتحقيق غاية وطنية هامة، تحرير البلاد من الماسونية والعصابة الأخوانية الإجرامية. مثل هذه الدعوة وإذا شئت الفتوي، كانت يمكن أن تلاقي رفضاً أو تفسر علي أنها تعنصراً، قبل 19 ديسمبر. أما وقد إنجلي الأمر وإستبان، فإن الكل بات مقتنعاً أن العصابة لا تريد فقط تحكماً إنما تنشد محواً لكيان هذا الشعب وتبتغي هدماً لموروثاته. هيهات أن يغتال الشعب أو أن تستاصل قيمه وفيه من فيه من النساء والرجال الكُمَّل. أيهم أشد خطراً: إغتيال شخص أم إبادة أمة؟
قبل يوم من تاريخ إغتيال المعلم أعلنت السلطات موت المعتقلان فائز عبدالله عمر آدم، وحسن طلقاً بالمعتقل بجنوب كردفان، وهنالك أخبار مازالت تتوافد عبر الاثير عن حالة تحفظ علي إطلاق المعتقلين في الخرطوم، لان بعضهم قد قتل ودفن في قبور جماعية (العدد في حدود 35 شخص) بأطراف الخرطوم وحالات إغتصاب لناشطتين في الجنينة. لا شئ يعدل حجم الإستضعاف الذي حدث للزرقة في غرب السودان، لكنّا يوم أن نجرؤ على التكلم عن “ستيلا الدارفورية”، نٌتهم بأن أعمالنا تخيلية لأن “الألمان يخافون الحفر في سرديات الفترة النازية” (رواية ستيلا للكاتب اللألماني تاكيس فورغر).
فزعت يوماً لسماع خبر وفاة إمراة من النازحات تحت آثار التعذيب الذي شمل إدخال عصاة من رحمها أخرجت من بلعومها، وذلك أثناء زيارتي لمدينة نيالا قبل عشر سنوات. أبلغني أحد جلسائي أن هذا الامر يتم بصورة روتينية في مكاتب الجهاز الذي صار من بعد جهاز الأمن الوطني، إمعاناً في البعد عن المعني والمقصد.
إخترت هذه الحادثة لتكون موضوعاً لخطبة جمعة أقمتها فور رجوعي للخرطوم. تبرم حينها بعض المصلين، بل أتهموني بالمبالغة وطالبوا إدارة المسجد بالإعتذار لي لاحقاً، لأنهم رأوا أنني أقحمهم في شأن سياسي (أنظر كيف أنهم لم يروا فيه الوجه الإنساني)، لا طائل منه، وأكرر لهم الحديث عن بقعة جغرافية إن عرفوا موقعها في الخارطة، فلن يخبروا تاريخها، دعك عن الإلمام بحيثيات الإقتتال وقد يكون ذلك تصرفي يوماً وتصرف أخرين حيال جنوب السودان، الذي لم نعرف عن معانته شيئا حتي أذاقنا المركز “جرعة مركزة من الكراهية” في دارفور وفي بقاع أخرى.
ما كنا نجهله جميعاً أن العنصرية ترتكب بدوافع إجرامية محضة قد يقف صاحبها حيال الضحية بحياد بل قد يشعر ببرود، يتطلبه القتل بإنسانية كما قال الشاعر، لكن العصبية مطلقاً لن تقف حائلاً دون تعدي ذات الشخص علي أفراد قبيلته أو أبناء جلدته. بالإضافة إلي كونه شرير وجاهل، فيجب أن ندرك أنه خائف.
إن هذ الوعي المتحصل –إدراكنا جميعا بأنه لا مروءة لقاتل ولا عصمة لمناضل – يجعل من الصعب تقبل فكرة المؤمراة أو إستصاغة خطر العدو الخارجي لأن المواطن ببساطة يري وطناً مستباحاً وحرماً يُدك بأيادي العصابة نفسها التي تدعي صيانته، إنفاقاً من ضريبته وإذا شئت إهداراً لماليته، بل قد تُقْسِم أنها لن تعطي الدنية في دينها حفاظاً علي شرفها وشرف الآمة!
ليس أدل مما قاله المناضل جاتيقو دلمان في مقالته الرصينة على هذا الواقع (أيها الثوار الأحرار .. الجيش السوداني، مليشيا مأدلجة) والتي أقتبس منها ما يلي:
“منذ عهد ما يسمي بالتمكين ، فان النظام عمل الي إفراغ المؤسسة العسكرية ، من كافة العناصر الوطنية ، وتم استبدال العقيدة العسكرية ، والادبيات العسكرية ، حتي ، البروتوكول العسكري تم استبداله ، وتحول سلام القائد الي سلام المجاهد ، وبعد الدفعة (40)، فان الكلية الحربية لم تعد كما كانت في السابق ، والان رغم ان النظام يصرف اكثر من (2) مليار دولار علي الإنفاق العسكري ، ولديه اكثر من (200) الف جندي في الخدمة العسكرية النشطة ، ومثلها في الإحتياطي ، وله تسليح من أربعة دول كبري في مجال التسليح ( روسيا ، الصين ، بلاروسيا ، أوكرانيا) بجانب ما تحصل عليه من ترسانة عسكرية من إيران و الدبابات الامريكية T85 من عاصف الحزم عندما استلم عشرة منها من السعودية لاغراض التدريب ، ثم أدخلها في منظمومته التسليحية ، رغم كل ذلك ، تستطيع اي سرية من جيش محترف هزيمة لواء كامل من القوات المسلحة ، ونحن فعلنا ذلك مرارا كجيش شعبي في جبال النوبة والنيل الازرق ، والقوات المسلحة الحالية لا تستطيع الدفاع عن اي ارض سودانية ، لا قدر الله اذا أعتدت عليها اي قوي أجنبية، والادلة كثيرة، لذلك هذه القوات غير مهنية ولا احترافية ، وهي عبارة عن مليشيا مأدلجة، مهمتها حماية هذا النظام، الذي تنتمي إليه، وليس لها علاقة بالوطن والمواطنين” (31 يناير2019م).
لا أريد أن أصدق المقولة أعلاه بحرفيتها لكن الوقائع تحاصرني بصدقيتها، فأقف مغتما لأن كافة المبادرات السياسية قد إنتهت دون الوصول إلي غايتها. وها نحن ننتقل إلي مرحلة المواجهة العسكرية والتي لن يكون الشعب طرفاً فيها رغم محاولات النظام لإستدراجه إلي هذه الخانة المقيتة. لا ننسي أن نظام بشار الاسد عندما حُصر سياسياً ودبلوماسياً أطلق المجرمين والإرهابيين الذين إلتحقوا بداعش، ليبرر حرباً لا تبق ولا تذر علي المدن.
تعلم الأنظمة كافة والإستبدادية منها خاصة، أن إستخدام القوة عارية يغري بالمقاومة، ولذا فهم يلجئون للبحث عن عدو وهمي يبرر لهم إستخدام القوة المفرطة. تماماً مثلما يفعل غوش، الذي زعم أن هنالك خمسة جيوشاً، تبحث عن ثغرة أمنية كي تستبيح الخرطوم وقراها المجاورة. لاأدري عن أي إستباحة يتكلمون، وأي جهة يترقبون،لعله يشير إلي “الغرابة” أو “الزرقة” الذين ظل يتخذهم فزاعة حتي جاء الوقت الذي أيقن فيه الكل أن الوسيلة المثلي للتخلص من هذه العصابة الإجرامية، هو بالتغلب علي تلك التصدعات التي كانت تحدثها من جراء التلاعب بالكرت العنصري، الجهوي والقبلي. بل إن أمل الشعب الوحيد بات معلقا بالجيوش غير المؤدلجة كافة، بعد أن كانوا يهابونها ويرونها بعبعا، ومن تقدم منها الأن لإستئصال العصابة صار بطلا قوميا لا يضاهيه في المجد باسل.
بعد ان فشلت كل محاولات “الجنرال الخائر” لفك الحصار المضروب عليه داخلياً وخارجياً، لجأ إلي كافة الحيل لتأمين وضعه عسكرياً، وذلك بالتنسيق مع كل جهة متفردا، والتأكيد علي عدم تواصلها مع الأخرين، كي يتثني له التحكم في جميع الجيوش إنطلاقاً من محورية يقننها بوصفه “القائد العام”. هنالك مجموعتان: مجموعة مُؤدلجة ومجموعة غير مُؤدلجة، كما أن هنالك ثلاثة أنواع من الجيوش داخل هذه المجموعات: مليشيا عقائدية تتحرك بدوافع مصلحية (أ)، مليشيا قبلية يستدفعها الطمع في المزيد وتأمين ماهو محرز (ب)، وجيش منزوع السلاح تتهدده المخاوف وتغري قادته المطامع (ج). يستمد “الجنرال الخائر” قوته من توازن الضعف الماثل بين هذه المجموعات، إذ أن كل مجموعة تخشي تكالب الجهتين الأخريين عليها، فتؤثر البقاء علي حالها حتي تحين ساعة الصفر. متما أصبح الجنرال الخائر عبئاً يهدد كل مجموعة بفقدان مصلحتها، حينها ستتحرك المجموعة (أ) صاحبة المصلحة الكبري في بقاء منظومة الحكم، والأكثر تضرراً حال فقدانها. لن تجد المجموعة (ج) بدا من التعامل مع المجموعة (ب)، لدحر المجموعة (أ) لأن المجموعة (ج) تمتلك الشرعية القومية رغم فقدانها لهياكلها ووحداتها بالإضافة إلي الدعم اللوجستي والإعلامي،فيما تمتلك المجموعة (ب) مقدرة قتالية فائقة بيد أنها تفتقر إلي الصبغة الدستورية رغم المحاولات العديدة التي جرت لتقنين وضعيتها قانونياً. فليكمل بعضهما البعض، ولتتواثق الجهود في هذا الظرف الإستثنائي الذي قد تحدث فيه لحظة إفاقة تجعل الكل يستشعر قيمة الوقوف لجانب الشعب الأعزل .
يجب أن لا تُؤخذ مواقف القيادة العليا للجيش والتي صدرت مؤخراً علي لسان الفريق بن عوف علي أنها مواقف للجيش، فهذه المؤسسة العريقة الباسلة قد كانت هدفاً للإسلاميين منذ اليوم الأول، شردوا كوادرها، شلوا قدراتها، أفسدوا قادتها، لكنها تظل عصية علي الإستتباع الكامل، فجدرانها يحكي قصة البطولة ودهاليزها تدخر قيم الأولين في الإنضباط، الأمانة والإيثار. إن الإفاقة التي حصلت للشعب فوقف شامخاً ورافضاً للإستكانة، ستحدث لكل الأجهزة،حتي جهاز الأمن الوطني، في لحظة ما. فعلينا أن نعول علي وعينا بالقضية، وأن نبعد قدر الإمكان عن محاولة إستعداء للأخرين. فهنالك مجموعة من الوطنيين في كل القوات النظامية وغير النظامية تظل مرابطة يمكن أن يُعَّول عليهم يوم الكريهة.
رغم أن الإسلاميين إعتمدوا “الإنسجام العرقي” خاصية لتكوين كل مليشياتهم ومليشيات الأخرين، إلاَّ إن المواجهة لن تكون مواجهة قبلية بالطريقة التي تريدونها ولن تتلبس روح الكراهية التي ظل إعلامهم يبثها في وجه الأخرين. ستكون مواجهة بينهم وبين الشعب بكل فصائله السياسية والمدنية والعسكرية، وإذ ظنوا أن جهة ما ستاتي لإنقاذهم فإن ذلك لن يحدث، لأن الريف سيراقب لكنه لن يقف محايداً تجاه معركة إدخر لها كافة المقدرات الروحية والفكرية وحتي العسكرية. ولن يرضي الا بحسم المعركة لصالح الشعب السوداني، صوناً للقيم ومراعاة للوفاء. يكفي أن تعرف أن واحدا من كل خمسة أفراد في دارفور يمتلك بندقية اوتامتيك، واهم من ظن أنها قد جمعت، هي قد دفنت وأدخرت لهذا اليوم، يوم الزحف الأكبر. هذا قبل أن يأتي الفزع من “الغبش كلاب الموت” من كل أنحاء السودان لإستئصال هذه العصابة الماسونية كما حدث في المهدية والتي لم تكن أول إنتصارتها من قبيل الصدفة من غرب السودان وفي جبال النوبة خاصة. إن المواطن في هذه اللحظة أعزل، ألاَّ من إيمان بالله العلي القدير وترقبه لنصرته عز وجل وقد علم ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ) (سورة الروم: 47).
لا عجب أن غوش مسكون بالعدد خمسة (جهاز أمنه، الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، الجيش، الدعم السريع)، ولذا فهو يُهَضْرِب ظناً منه أنها قادمة من الخارج، علماً بأنها موجودة بالداخل. رغم التقاطعات بينها، ألا إنه يصعب إستمالتها لجهاز الأمن الوطني، الجهة الاكثر سفكاً بالمدنين في سائر انحاء السودان. لولا وجود الدعم السريع في اطراف الخرطوم، لما ترددت الحركة الإسلامية – بإعتبارها الجهة صاحبة السجل الإجرامي المتفرد – في إغتيال عمر البشير، وهذا ما ستفعله لاحقاً مجبرة لا بطلة لأنها قد علمت أن طبيعة التوجيهات التي تلقاها الجنرال من المجتمع الدولي لن تكون حتما في صالحهم. فقد كان أن ينتهي زمن المناورة وهي تحس أن من الأفضل لها أن تبادر بالفعل، علي أن تتربص منتظرة ردود الأفعال. هم كما وصفهم القدال في قصيدته العصماء (عقارب الدمع العريس): والفضائح ممشى عارهُـم … والفضائح يا ها هيلهُـم … والفضائح يا ها كارهُـم …
إن الجيش سيظل مراقباً للحادثات، ومقلباً للإحتمالات، ريثما تتضح بعض الأمور ذات الصلة بالتوازنات الإقليمية التي ماعادت تحتمل وجود الإسلاميين في السلطة علي راس الهرم، ولم يمتلك تنظيمهم العالمي حتى هذا اليوم شجاعة للتبروء من نظام خان كل المواثيق الدينية والإنسانية إلا ما قاله الشيخ القروضاوي مؤخرا (أن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي). أما الأخرين منهم فلا يأبهون بالشعب ويفضلون بقاء نظام يمكن أن ينفذ لهم مشاريعهم الوهمية والقذرة في آن واحد في المنطقة. حتى إن أحد أذكيائهم إقترح إستبدال حكام السودان الحاليين بتكنقراط إسلاميين، وكأن بقية السودانيين مجوس، أو لكأن المجوس لا يحسنون تخريج علماء لتسيير بلدة غراء وملئية بالخيرات مثل السودان.
لقد سعت كل محاولات الاسلاميين السودانيين لشيطنة “الغرابة” أو إستخدام الدعم السريع كفزاعة، حتى كادوا يجعلونه كوشة يرمون فيها قاذوراتهم التي مافتئوا يرتكبونها منذ اليوم الأول حتي وصلت البلاد الي هذه الخانة. لولا تصدي قائد الدعم السريع لهم وحرصه على تبرئة ساحة جيشه من هذا الإفك المبين في برنامج الأمنجي “المستنير” الطاهر التوم. فلم يلبثوا أن جاؤوا بالصوارمي متحدثا رسميا ليتلافى مثل هذه الهفوات، وهذا ملكي أمضى عمره في مسوح المؤسسة العسكرية الهاملة. والان يمكنهم أن يعولوا علي ضعف القدرة التنظيمية لدي المجموعه الأخيرة. وعدم تملكها لمشروع سياسي يمكن أن تقنع به الأخرين، لا ننسى حروباتهم مع الزرقة. إلا إن التجارب قد أثبتت علي أننا كشعوب قادرين علي تجاوز الإحن وتجرع المرارات في سبيل تحقيق المصلحة القومية.
إن تربص هذه الجيوش ببعضها البعض منشغلة عن الهدف الاسمى (نصره الطاغوت وتوطيد أركان عرشه المتهالكة)، وتخليها عن نصره الشعب الأعزل في هذه اللحظة التاريخية الحرجة هو بمثابة الخيانة التي لن تلبث أن تندرج في خانة الخيانة لمن لم تحدثه نفسه بالإقدام، وقد تندرج حتماً في خانة “التولي يوم الزحف” لمن خاض غبار معارك، ولم يأبه بنصره المظلوم. إن من أحسن منا فيما بقي لم يحاسبه الله بما مضي، أمَّا من أساء منا آخذه الله بسالف فعله وحاسبه.
إن توازن الضعف لدي هذه الجيوش هو مصدر القوة لدي الشعب الذي ستوقظ “الهبّة العسكرية”، بعد تلكم الشعبية، ضمائر افراده المجندين، ومن بقي منهم من أحرار لم تسطع العصابة إستمالتهم أو إغرائهم. حينها يمكن أن نتكلم بصوت واحد، بل أن نردد شعار “شعب واحد جيش واحد”. وذلك بعد إلتحاق كافة الجيوش الثورية التي لها سبق التصدي وأجر الصمود؛ لولاها ما إستطعنا أن نبلغ هذه اللحظة إستبصارا لوجهة حضارية سامية وإستمساكاً بوحدة شعورية ووجدانية خالدة.
ختاماً، لقد فشلت أو كادت أن تفشل كل محاولات التمليش والتجيش، وها نحن قد إستعدنا ثقافتنا الديمقراطية، وما زلنا نناضل لتحرير ساحتنا المدنية، كي نقوى علي مواجهة الأفات الخمس (وليس الجيوش الخمس): الفقر، البؤس، الجهل، الخوف والمرض. إن الخمسة الأخيرة لها علاقة مباشرة بالفساد، غياب السلم الإجتماعي، إنهيار الإقتصاد الوطني، المقاطعة الدولية، الجنائية، والاهم من ذلك عدم وجود آلية يمكن أن نعمل بموجبها علي إعادة تركيب المجال السياسي، وعلي إنبعاث الديمقراطية الفدرالية بوصفها “تمثل مجمل الضمانات التي تتيح الجمع بين وحدة الفعل الوسائلي وبين تنوع الذكريات” (ماهي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الاقلية، ص:8، الآن تورين).
لقد أثبت الشعب إمتلاكه لذاكرة ومخيلة خلّاقة تؤهله لصناعة التاريخ، كذات فاعلة ترفض منطق الأجهزة المسيطرة (حزبية وسياسية، دينية كانت إلي آخره) ، وتعمل علي إعادة تعريف الديمقراطية وإعتماد شروط مؤسساتية تمزج بين الوحدة والتنوع الثقافي.لم تمض أياماً منذ إندلاع الثورة حتي إنبري كل منا باحثاً عن وسيلة يدعم بها الثوار، وعن فكرة يرفد بها نهل الحرية. فقد أيقظت الثورة فينا أحلاماً قد ماتت، وفجرت طاقات قد همدت. لا سيما أن العصابة بعجرفتها قد دفعتنا إلي حالة من اللا إنتماء، أما الثورة بأريحيتها فقد خاطبت فينا قلوباً صمّاء ولامست فينا شجوناً حسبناها قد فارقت في ذات مساء. فإذا قلب الكهل عند الفجر يخفق وعروسه تتهيأ وإذا أفئدة الرفاق تتوهج، وإذا الضغائن تنسرب من بين أيدينا ومن خلفنا فيصبح العناق عناقاً وتسير الأمور الي غايتها دون عناء.
لا أجد أفضل من إبتهال المادح كمال الصادق (أبو البرعي) ختاما لمقالتي:
يا هلالا أبيضا قد توسطت السماء * وملأت آفاق الخليج بالضياء مرسما * عرج على السودان أرض الخير والحق والنما * إني تركت هناك أهلا نعتهم صافين لما * هلا رأيت عيونهم ترنوا إليك تبسما * هلا رأيت منازلا بالضيف ملئ أينما * هلا رأيت لهم أياد طائلات تكرما * لكنه قد شامهم ليلا بهيما أبلما * مستوحش القسمات فتاك عقيم مظلما* قد طال شوقهم لشمس قيدتها مآثما *