عذراً أيها المحامون ” حين يكون الزَيْفُ شريعة ”
الذي لا يحتاج فيه المرء إلى دليل أو وكالة أنباء بحجم رويتر هو انهيار القانون ودولته في تلك الأراضي التي كانت تعرف ببلاد السودان , فالقادم إلى الخرطوم ـ خصوصاً هؤلاء الذين يُغيِّبهم الاغتراب ردحاً من الزمن ـ سرعان ما يتملكهم الإحساس بأنهم قادمون إلى بلاد أخرى هم فيها غريبو الوجه واليد واللسان , فرائحة الفساد والجريمة المتدثرين بثياب القانون تصدمانك وتزكمان أنفك منذ دخولك مطار الخرطوم ثم تلازمانك طوال إقامتك تنامان معك وتصحوان بميقات ساعتك التي في معصمك تقاسمانك ما ادخرته من ” شوية ” دولارات في سني غربتك وتظلان هكذا تحرسانك حتى وأنت تبث آلام الغربة في حضرة والدتك ثم لا تنفكان ولا تكلان تلاحقانك حتى تودعانك وأنت تخرج من المطار تارة أخرى ! .
أحد أصدقائي القدامى وهو زميل دراسة لي في المرحلة الثانوية أخذ طريقه إلى كلية الشرطة وأخذتُ طريقي إلى الجامعة وعقب تخرجه بعد سنتين من الشحن ” التسلطي ” , التقينا يوماً وجلسنا نجتر الذكريات فقال لي : ” إذا قدمتَ بلداً ورأيتَ الشرطي فيها ـ منذ دخولك المطار ـ أنيقاً مهندماً مُلَّمع الحذاء مرفوع الرأس فأعلم أن هذا البلد يسود فيه حكم القانون ” , كنتُ وقتها لم أزل طالباً ولم أزل مشحوناً رومانسية وتعجبني كثيراً روايات واسيني الأعرج التي تكسر طوق القانون وكتابات أيزبيل الليندي التي تدمر التقاليد الاجتماعية الخانقة ولحدٍ كبير ماركيز في واقعيته السحرية الرائعة , إذاً مالي ولشرطي مسكين لا يقوى على شراء ثوب العيد لطفلته الباكية تهندم أو ترمد , ثم السنوات تمضي وتتلوها سنوات أكلن اللواحق ما ادخرنه السوابق وإذا بنفسي وذاك الشرطي في سرج واحد عندها تذكرتُ كلمات صديقي ! .
عندما استولى البشير على السلطة وكان لم يزل تضوع من ثيابه رائحة حوش بانقا الزكية ومن قبل أن يعرف هو معنى الهواتف الذكية قال وبعضمة لسانه : ” أعطِ العيش لخبازه إن شاء الله يأكل نصفه ” , وبعد عشرين خريفاً بدل صاحبنا ثيابه وتغيرت العطور وغدا لا يمشي بين الناس ولا يأكل الطعام الذي يأكلونه وهو ليس بحاجة لأن ينزل للأسواق ليعرف أحوال الخباز لأنه صار هو الخباز الذي ابتلع الخبز بطاولته وصار هو الذي يقوِّض أركان القانون بكامل قوته وبرغم كل الذي يحدث في دارفور فإنَّ سيادته قد استعصم إصراراً بأنه تم بغير إرادته , وبعد أن تأملت في كل ذلك أدركت معنى ” شياطين الإنس والجن ” وحرت جواباً كيف تكون العين بغير عين والسنُ بغير سن !
تعلمنا في ثقافتنا السماعية أن ” المحامون قضاة واقفون ” , لستُ أدري على وجه التحديد من هو صاحب البراءة في هذا الاختراع لكن الذي أعلمه : ” قطعاً ليس هو حمورابي ” كما أنه في حكم المؤكد ليس هنالك نصاً قرآنياً أو حديثاً نبوياً يُرجَعُ فيه لهذا الرأي إلا أنه ـ وأياً كان المرجع ـ نحسب إنه قد نسي أن يضيف إليها عبارة : ” وأحياناً موقوفون ” , فبعد عشرين عاماً من التردي القانوني أو القانون المتردي لست أدري ما الذي يبحث عنه محاميي القائمة الوطنية ؟ تُرى أهو خاتم المنى أم الفانوس السحري أو مصباح علاء الدين ؟ وهنا تذكرتُ قول الفيتوري حين يجسد هذا الواقع وكأنه هو نفسه قد قدِم إلينا من الزمن الآتي بوترية الهاجس والحرف التي منها : ” حين يكون الزَّيْف شريعة والضيم وسادة والقائمة السوداء تضم الشرفاء وكل الأطفال , فالنبض الحي النبع الفيض الحب يكون قلادة بصدرك يا وطني , ويكون الغضب عبادة ويكون الموت ولادة ” , وعند هذا المقام كنتُ قد وقفتُ ملياً : فكيف يكون الموت ولادة ؟ وحيث إني قد تذكرتُ أنَّ المحامين قضاةً واقفين وأنهم خطباء مفوهين تصورتُ أنهم ثواراً صامدين قادرين على إستيلاد هذا الموت طفلاً يسرُ الناظرين !
حينما اقتادت سلطات أمن النميري الأستاذ محمود محمد طه وأربعة من تلامذته وقدمتهم للمحاكمة بموجب قوانين الشريعة والتي أطلق عليها هو قوانين سبتمبر ثلاثة وثمانين أتى نقيب المحامين السودانيين ـ وأظنه في ذلك الوقت الأستاذ عبد الله الحسن المحامي ـ وقال للأستاذ ” نقابة المحاميين بكامل هيئتها تحت تصرفكم ” , شكره الأستاذ قائلاً : ” الجمهوريون سيدافعون عن أنفسهم ” , وحينما بدأ القاضي حسن إبراهيم المهلاوي ـ وهو بالمناسبة قاضٍ تحت التمرين على طريقة سائق تحت التمرين ـ في استجواب المتهمين ” المفكرين ” قابلوا أسئلته بالصمت إذ أن الأستاذ أوعز إلى تلاميذه بمقاطعة المحكمة , وحين جاء دوره هو ـ أي الأستاذ ـ وجه مرافعته إلى القاضي قائلاً : ( أنا أعلنتُ رأي مراراً في قوانين سبتمبر ثلاثة وثمانين من أنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه ) , وتحت انزعاج القاضي الذي طفح ودهشة وصمت الحاضرين واصل الأستاذ قائلاً : ” وأنها وضعت واستغلت لإهانة الفكر والمفكرين والتنكيل بالمعارضين السياسيين ” كل هذا والقاضي يبدو وكأنه يرجو الله أن يشق الأرض تحت قدميه فتبتلعه حتى يكون له في ذلك مخرجا من أن يتلظى جالساً لسعات سياط الأستاذ الحارقة الذي ختم هذه الجزئية من الحديث قائلاً : ” هذا من حيث التنظير ” , ليواصل : ” أما من حيث التطبيق فإن القضاة اللذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنياً وضعفوا أخلاقياً عن أن يمتنعوا عن أن يكونوا أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر والمفكرين ” وللكلام بقية والحديث في هذا المنحى ذو شجون , وبانتهاء الجلسة ” المهزلة ” التي قضت بإعدام الأستاذ أتى نقيب المحامين وشد على يدي الأستاذ محمود محمد طه قائلاً له : ” يا أستاذ لقد قلت الكلام الذي تريد أن تقوله نقابة المحامين منذ خمسة عشر سنة وعجزت أن تقوله ” , في تلك اللحظات كان هنالك جمع غفير أمام مبنى ” البلدية ـ أم درمان ” وأظنها المحافظة الآن ـ منتشرون على طول شارع العرضة بانتظار ما ستفضي عنه المؤامرة وأنا وسط تلك الحشود التي كُبحت بالغاز المسِّيل للدموع كنتُ قد تعلمتُ درساً واحداً وهو : ” ليس معنى أن تكون محامياً ولكن معنى أن تكون مناضلاً ” !
حاج علي ـ Sunday, January 03, 2010
[email protected]