13 مايو 2017
قبيل منتصف ليلة الخميس الماضي، جاء الإعلان الذي طال انتظاره أكثر من عامين عن حكومة “وفاق وطني” جديدة في الخرطوم، في تتويج مفترضٍ لمسيرة الحوار الوطني الذي أعلن عنه الرئيس السوداني، عمر البشير، في يناير/ كانون الثاني من عام 2014. دعيت إلى المائدة عندها الأحزاب السياسية، وكذلك الحركات المسلحة التي تقاتل الحكومة في غرب السودان القديم وجنوبه الجديد، واستجاب كثيرون، وبحماسٍة كبيرٍة في البداية. وكانت المفاجأة حضور الزعيم الراحل الشيخ حسن التر
ابي، والسياسي المنشقّ عن حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) غازي صلاح الدين، خطاب البشير الذي أعلن الحوار، ما أوحى بوجود تفاهم مسبق بين هذه الأطراف حول صفقةٍ ما. شاركت الأحزاب الكبرى (الأمة والاتحادي الديمقراطي)، ولكن الأمة، ممثلاً في زعيمه الإمام الصادق المهدي، انسحب، هو وأطرافٌ أخرى، بعد ذلك، بحجة عدم جدّية الحكومة. شاركت الحركات المسلحة الكبرى في حوار مواز في إثيوبيا، برعاية مبعوث الاتحاد الأفريقي الرئيس تابو أمبيكي، حيث أجبرت بضغوط أفريقية وغربية على توقيع مذكرة تفاهم أعدها الوسطاء، إلا أن الاتفاق النهائي على وقف إطلاق النار تعثّر، بسبب خلافاتٍ على الصيغة الدولية المقترحة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع.
وبعد أكثر من عامين ونصف العام من الحوار، يبدو أن الخلاف بين أطرافه الرئيسة اليوم أكثر مما كان عند بدايته، حيث لم تقع أي استجابة لمطالب المعارضة بتعديلاتٍ دستوريةٍ، تضمن الحريات الإعلامية والسياسية، وقوانين وإجراءات انتخابية أكثر عدالةً وشفافية.
لم تتجاوب “حكومة مكثت منفردةً في السلطة 28عاماً، ولم تتخذ أي قرار حاسم، ولم تحلّ أي مشكلة”الحكومة كذلك مع مطالب بتقليل سيطرة الحزب الحاكم، وتقليل صلاحيات الرئيس، وتحويل جزء منها إلى رئيس وزراء يحظى بالإجماع الوطني، ويترأس حكومةً جديدةً تكون أوسع تمثيلاً، أو من التكنوقراط. بل بالعكس، أجاز البرلمان، في أبريل/ نيسان الماضي، تعديلاتٍ ضيقت الحريات، ووسّعت صلاحيات جهاز الأمن. أما معظم المقترحات التي تم التوافق عليها في جلسات الحوار فقد طرحت جانباً، ولمّا يجفّ مدادها بعد. وكان حزب المؤتمر الشعبي المعارض (حزب الترابي) هدّد بالانسحاب من الحوار، ما لم تتم إجازة بنود الحريات، ولكنه في النهاية تراجع، وقبل الدخول في الحكومة بدون شروط.
كانت ثالثة الأثافي تسمية البشير نائبه الأول وأخلص خلصائه الفريق بكري حسن صالح رئيساً للوزراء في مارس/ آذار الماضي، منهياً أي توقعاتٍ بتغيير ذي بال في آلية الحكم وعقليته عبر رئيس وزراء يجسر المسافة بين الحكومة والمعارضة. وقد خلت الحكومة التي أعلنت ليل الخميس من المفاجآت، لأن مجالس الخرطوم وصحفها كانت قد تناقلت أسماء وزرائها، خصوصا أن الأطراف المشاركة في الحوار (عددها كما يقال 40 حزباً و30 حركة مسلحة “تائبة”) قدمت مرشحيها للوزارة علناً. وبينما تم تغيير وزيري المالية والداخلية، كان البديلان من أقطاب النظام. دخل الوزارة مبارك المهدي، ابن عم زعيم حزب الأمة ومنافسه على الزعامة، وزيراً للاستثمار، كما عين أحد أنصار الترابي وزيراً للصناعة، وعين أحد أقطاب الحزب الاتحادي وزيراً للتجارة. والمعروف أن أبناء زعيمي الأمة والاتحادي يشغلان منصبي مساعدي رئيس الجمهورية منذ سنوات!
عليه، انتفى مبرّر الحوار وهدفه في تغيير الواقع السياسي القائم عبر توسيع الحريات، وتحقيق الشفافية في الحكم وإنهاء إقصاء قطاعات واسعةٍ من المجتمع عن المشاركة في الشأن العام، حتى على مستوى التعبير عن الرأي. ويبدو أن كارثة فصل الجنوب، واستمرار الحروب، لم تفرض بما يكفي إعادة نظر في نظام الحكم، ومراجعة الدستور القائم، وإعادة صياغة الساحة السياسية بما يضمن التوافق. بالعكس، تمسّك النظام بقبضته الكاملة على السلطة: فلا هو قبل بمشاركةٍ حقيقية في السلطة، ولا هو سمح بمعارضةٍ حقيقيةٍ عبر فتح مجال التعبير عن الرأي والتنظيم، فلم يزد على استقطاب قطاع واسع من الساحة السياسية، عبر نثر مئات المناصب والترضيات على من قبلوا أن يصبحوا مجرد ديكور في حوار مزعوم، خلا من تبادل الآراء واقتصر على تبادل المنافع.
شملت الوزارة الحالية 31 وزيراً اتحادياً، وثلاثة مساعدين لرئيس الجمهورية ونائبيْن له، ونوابا لرئيس الوزراء، وعشرات وزراء الدولة. كذلك وزّعت أو ستوزع مناصب في البرلمان الاتحادي والبرلمانات الولائية، ووزارات الولايات، وغيرها من العطايا. وهذا لا يعدو أن يكون توسيعاً لسلطة النظام الحاكم، عبر استقطاب داعمين جدد، بكلفةٍ ضخمة على الخزينة العامة في وقتٍ يشهد فيه الاقتصاد تراجعاً كبيراً، تمثل في ضعف الصادر، وانخفاض قيمة الجنيه السوداني إلى أقل من النصف خلال العامين الماضيين. وأسوأ من الكلفة مساهمة هذه الصفقات في إفساد الحياة السياسية، لأن ه “أحزاب تشارك في الحكومة، ومعظمها لا تؤمن ببرنامجها، ولا ترضى عن دورها فيها، لكنها تبيع مبادئها وضمائرها بثمنٍ بخس”، ما يؤدي إلى فقدان الثقة الشعبية في كل الطبقة السياسية، وهي وصفةٌ للعنف. ولعل أبرز مثال على هذا حزب المؤتمر الشعبي الذي زعم، في أول أمره أنه لم يدخل الحوار من أجل مشاركةٍ في الحكم، وإنما من أجل تأكيد ضمانات الحرية. ولكنه انتهى بدون الحصول على هذه الضمانات، وببضعة مناصب.
كانت مشكلة الأنظمة الديمقراطية في السودان هي تحديداً هذا الاضطرار للمساومة على المبادئ، كما حدث عندما اضطر المثقفون للتعامل مع القيادات الطائفية، على الرغم من عداوتهم لها، واستمر في اضطرار الأحزاب الطائفية نفسها للتعايش مع بعضها، على الرغم من خصوماتها. وكان على الجميع أن يقبل بمن ترشحه هذه الأحزاب، على الرغم من افتقاده أي مؤهل سوى النسب. أما الأنظمة العسكرية فإنها تضيف الفساد وتشويه بنية المجتمع إلى القهر. وبالنسبة للترتيب الحالي الذي مثلته الحكومة الحالية، فإنه يجمع الحسنيين: مساوماتٍ لا مبدئية وقهرا وفسادا. والمشكلة أنه، بصفته نظاماً ديكتاتورياً قهرياً، لا يحتاج لهذه المساومات، خصوصا أن الأحزاب التي ساومها لا وزن لها في الشارع، ولا أعتقد أن 99% من المواطنين يعرفون أسماءها ولا قادتها، ناهيك عن أن يكونوا من مؤيديها. فهناك نصف دستةٍ من وزراء ينتمون إلى حزب الأمة في هذه الحكومة، بينما الحزب لا يزال معارضاً هو وغالبية أنصاره. وأساساً تأتي الأنظمة العسكرية إلى السلطة بدعوى الحسم وعدم المساومة، ومن أجل اتخاذ القرارات الصعبة، ولكن هذه الحكومة مكثت منفردةً في السلطة ثمانية وعشرين عاماً، ولم تتخذ أي قرار حاسم، ولم تحلّ أي مشكلة. ولو شاءت، لكانت استغلت احتكارها السلطة في عمل الخير. وما فعلته لا يزيدها دعماً شعبياً، بل بالعكس، يكشف أكثر فسادها وإفسادها للمجتمع، وتخريبها الساحة السياسية. فلماذا تقضي عامين، وهي تساوم من لا يضر ولا ينفع، بدلاً من الانتباه إلى مهامها في حل مشكلات البلاد الملحة؟ ولو فعلت لكانت وجدت التأييد من الشارع بدون وساطة أحزابٍ، لو كان لها رصيد، فإن بيعها إياه في هذه الصفقة يجعلها من المفلسين.
إنه أسوأ ما يمكن أن يقع للمجتمع السوداني، سوى تفكّك الدولة وانهيارها، وما يتبع ذلك صوملة، ولبننة وسورنة. وما نخشاه أن يؤدّي هذا إلى ذاك.