عبدالخالق محجوب ويوسف حسين والتواضع الفكري ؟

ثروت قاسم
عند منتصف ليل الأربعاء الثالث من يوليو 2019 ، ترجل الفارس العظيم الباشمهندس يوسف حسين عن فرسه ، طالباً الإذن بالانصراف .
في مسيرته القاصدة ، سار يوسف حسين على درب استاذه ومعلمه عبدالخالق محجوب ، متوجاً التزامه الحزبي بالتواضع الفكري ، والحكمة ، ومراعاة المصلحة الوطنية .
سوف نركز في هذه المقالة على استعراض جوانب من خاصية التواضع الفكري التي تميز بها يوسف حسين محاكياً الاستاذ عبد الخالق محجوب ، وذلك بشهادة الغريب قبل القريب .
كان يوسف حسين يجسد التواضع ليس فقط الفكري وهو الاهم ، وانما التواضع في الملبس ، والمأكل ، والتعامل بلين مع الضعفاء والمهمشين ، وبكبرياء وشموخ مع الطغاة والفراعنة .
لا يملك شخص على خاصية التواضع الفكري إلا إذا كان واثقاً من قدراته الفكرية ، ومالي يده من معارفه ومفاهيمه ومرجعياته وثوابته . كان الاستاذ عبدالخالق محجوب ذلك الشخص ، وسار التلميذ يوسف حسين على درب معلمه .
كان ليوسف حسين ثوابته التي لا يتزحزح عنها قيد انملة ، وله متحركاته التي يحركها كلما وصلته معلومات مؤكدة وصلدة تستدعي تغيير موقفه . فهو في هذا السياق يميل الى الدينامكية والتحركية ، مبتعداً عن الاستاتيكية والجمود . بل هو النقيض الراسي للغرور وللحقد وللتعصب . فالمتعصب اصولي يظن ان لديه الحقيقة المطلقة ، ويعمل المتعصب لانتصار عقيدته على عقائد الآخرين ، بل يستعين بالعنف لتدمير عقيدة الآخرين . كان يوسف حسين الضد الراسي للمغرور وللمتعصب ، لان تواضعه الفكري يسمح له برؤية الجانب الآخر من المسالة .
في عالمنا هذا الذي تميز بالتقاريرالزائفة من النائب العام حول مجزرة الاثنين الاسود وغيرها من احداث ، وبالاخبار البديلة من اعضاء المجلس العسكري الانتقالي ، الذين يؤشرون شمال ويلفون يمين ، ويفعلون ما لا يقولون ؛ في عالمنا هذا الذي ازدادت حدة انقساماته السياسية والفكرية، تشتد الحاجة للحوار العقلاني الهادئ، وبالتالي الحاجة لقادة كيوسف حسين يظهرون التواضع الفكري .
كان يوسف حسين يسير على نهج استاذه عبدالخالق محجوب في ان رأيه صحيح يحتمل الخطأ ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب. ورحم الله امرئ اهدى الينا عيوبنا . ومن تواضع الى الله رفعه .
بحلول موعد الافطار في رمضان ، كان الاستاذ عبدالخالق محجوب يفرش الابسطة امام منزله ، داعياً السيارة ومن اهل الحي للفطور الجماعي معه ، فهكذا علمته عقيدته الماركسية للتوادد والرحمة والاهتمام بالآخر . وعند الصلاة ، كان الاستاذ ، رغم موسوعيته العلمية في الدين الاسلامي وغيره من معارف ، يرفض ان يؤم الناس ، لان بعض المصلين من غير اهل النظر يظن بالشيوعيين ظن السؤ ، فكان تواضع الاستاذ الفكري يرغمه على ان يؤم الناس غيره ، وإن كان الافطار منه ، والصلاة امام منزله .
وعلى هذا الدرب المستقيم ، سار يوسف حسين .
كان الاستاذ عبدالخالق محجوب منفتحاً على آراء الآخرين . يدرك ً أن هناك جانبين لكل حجة، ولا يصر على حجته رغم ايمانه بصحتها ، بل يقرّ بصحة حجة الغير إذا شعر بقوة دليلهم. وهكذا كان يوسف حسين .
كان الاستاذ عبدالخالق يتميز بالصراحة عند الخطأ ، ويقر ويعترف بذلك لانه يملك على التواضع الفكري ، وهكذا كان يوسف حسين .
تواضع الاستاذ عبدالخالق الفكري حمله على ان يكيف النظرية الماركسية على الواقع السوداني ، ويبتعد عن عملية كوبي بيست العمياء ، وهكذا كان يوسف حسين .
كان الاستاذ عبدالخالق محجوب من القادة المتميزين القادرين على الاعتراف بأخطائهم، وهو أمر يستدعي من صاحبه قدراً كبيراً من التواضع الفكري وسعة الأفق والاستماع لوجهات النظر والآراء الأخرى. وهكذا كان يوسف حسين .
كان الاستاذ عبدالخالق محجوب وسطياً ، لا يمسك العصا من الوسط ، بل يتقبل الحلول الوسطى . فالوسطية ليست مجرد موقف بين الانحلال والتشديد، بل تعتبر موقفاً أخلاقياً وسلوكياً ومنهجاً فكرياً .
لا يستطيع الأشخاص الذين لهم أفكار راسخة تصور احتمال وقوعهم في الخطأ، ومن الصعب عليهم الإقرار بمزايا مواقف أخرى والبحث عن مجالات التسوية .
أما الذين يملكون سمة التواضع الفكري، فيمكنهم زحزحة موقعهم ، والتوصل إلى حل وسط يخدم كلا الطرفين.
ويبدو ذلك الامر مثالياً في اجتماعات المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، حين تصطرع الافكار والمواقف ، وتتجلى عظمة التواضع الفكري ليوسف حسين كما كانت لاستاذه عبد الخالق محجوب .
كان الاستاذ عبدالخالق محجوب ، لمحموله الثقيل في التواضع الفكري ، ولما يتميز به من مرونة في التفكير، يحتفظ بعلاقات طيبة بل حميمية مع أشخاص لا يوافقونه الرأي ، ويتواصل مع مجموعة واسعة من الناس، ذوي وجهات نظر مختلفة.
إذ ينسجم المتواضعون فكرياً ، والذين لا يدعون معرفة كل شئ ، من امثال الاستاذ عبد الخالق محجوب وتلميذه يوسف حسين ، بشكل أفضل مع الآخرين، ولديهم علاقات أكثر ارتياحاً، ربما لأنهم يديرون خلافاتهم بسلاسة ، ولا ضرر ولا ضرار.
كان الاستاذ عبدالخالق محجوب منفتح الذهن ، وفي امتحان دائم وتقويم لاي شعور طارئ باهمية الذات و الأنا ، وينظر الى المواقف المتدابرة بدرجة عالية من الانفتاح ، ويعترف ، قبل أي لقاء، بأن جميع وجهات النظر متساوية . وهكذا كان يوسف حسين .
في يوم حكى لنا الاستاذ عباس محمود العقاد ، هذه الحكاية :
قال :
كان الأسود بن سريع ينشد الرسول، صلى الله عليه وسلم ، المديح من الشعر! وأثناء إلقائه الأماديح ، دخل رجل ؛ فطلب الرسول من الاسود التوقف ، قائلا:
بَيِّنْ ، بَيِّنْ .
قال الاسود :
من هذا الذى يطلب مني الرسول التوقف عن الأنشاد لحضوره ؟
قَالَ:
إنه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ! هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ.
يسأل العقاد:
وهل يقبل محمد الباطل الذى يأباه عمر؟
يرد العقاد:
إن الفارق بين محمد وعمر، هو الفارق بين ( الإنسان) العظيم و( الرجل) العظيم.
إن عمر ، الرجل العظيم ، يعرف دروبا من الباطل ، ويعرف دربا واحدا من دروب الإنكار … وهو السيف . أى الرفض القاطع لكل أشكال الباطل ، مهما صغر أو كبر.
أما محمد ، الإنسان العظيم ، فهو أكثر استيعابا لما فى النفس الإنسانية من عوج وتعريج ، من صحة ومرض ، من قوة وضعف، من صلاح وفساد. فيعرف دروبا من الباطل . ويعرف دروبا من الإنكار.
وقد يصبر الإنسان العظيم على ما يأباه الرجل العظيم !
ونزعم ، وكله حق ، ان الاستاذ يوسف حسين ، كان كما استاذه ومعلمه عبدالخالق محجوب ، إنساناً عظيماً .
وتظهر انسانية الاستاذ عبدالخالق محجوب وعظمته في تواضعه الفكري ، وكذلك الحال مع التلميذ يوسف حسين .
نختم بقصة واقعية جرت احداثها خلال شهر يونيو 2019 ، تصلح كآلية لتقييم شخصية يوسف حسين ومرجعياته الاخلاقية الباذخة . ولا نقول عليه الكذب وهو بين يدي رب رحيم .
اتصل احدهم بيوسف حسين ، وبشره بان ابن اخته المُعجب به وبنضاله الثوري المُستدام طيلة الخمسين سنة المنصرمة ، قد ارسل هدية طلب بتسليمها له ، إعترافاً بفضله ونضاله الوطني الباذخ . طلب يوسف حسين من المتحدث الحضور لدار الحزب ، لتسليمه الهدية امام الآخرين . اعتذر المتحدث بانه لا يستطيع الدخول في دار الحزب الشيوعي خوفاً من عيون البصاصين ، وعواقب ذلك على عمله الطوعي في خدمة النازحين والمهمشين ، ثم ان الهدية ( قروش كاش ) . اعطى يوسف حسين نمرة تلفون دار الحزب للمتحدث ، وطلب منه ان يحول المبلغ كرصيد على نمرة مكتب الحزب ، لتدخل في ميزانية الحزب . اعتذر المتحدث بان المبلغ عشر الف دولار امريكي ، ولا يمكن تحويله كرصيد . ختم يوسف حسين المكالمة بان اصر على حضور المتحدث لدار الحزب لتسليم المبلغ في حضور الرفاق والزملاء ليدخل في ميزانية الحزب كتبرع من سوداني للحزب ، ليتم تسجيله في سجلات الحزب المالية ، واكد انه لا يقبل الهدايا عينية ام مالية ، فماهيته من الحزب تكفيه وزيادة .
طلب المتحدث مهلة للتفكير قبل الحضور لدار الحزب .
للاسف انصرف يوسف حسين قبل انتهاء مهلة التفكير .
الا توافقني ان يوسف حسين كان يمثل الاستثنائية السودانية في بذاختها ، وسموها ، وعزتها ، وشموخها ؟
لقد انصرف يوسف حسين إلى رحمن رحيم يغفر الذنوب جميعا . إن كان محسنا فليزد في إحسانه وإن أساء فليغفر سيئاته .
رحمه الله وأحسن عزاء أسرته الخاصة وحزبه ووطنه المفتقر لأمثاله.
إنا لله وإنا اليه وإنا اليه راجعون .

ثروت قاسم
[email protected]
https://www.facebook.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *