محجوب حسين
March 23, 2014
بما انني اكتب من وجهة نظري الخاصة وليست التنظيمية او الاعتبارية حتى لا تنسحب الاراء التي اتناولها على التيار السياسي الذي انتمي اليه، اود الاشارة الى ان ما اود طرحه في هذه المادة قد يشكل نقطة حساسة لاطراف كُثر يشتغلون في دائرة الصراع السياسي السوداني، وتنبع هذه الحساسية من تباين في فهم وتأثير وتفسير كل فريق على حدة من الفعل الجنجويدي الذي له ارتباطات بتقاطعات المحلي/الدارفوري والوطني السوداني والدولي الجنائي.
وليست هناك حاجة للدخول’في تعريفات مفاهيمية تاريخية سوسياسية، الا ان المؤكد او قل المتفق عليه على نطاق واسع، ان ما يعرف بالجنجويد والفعل الجنجويدي ظهرا في دارفور، ثم توسع عالميا ـ كفعل اجرامي مضاد- على اثر الثورة السودانية التي انطلقت من دارفور ضد هيمنة واستبداد سلطة التمركز السياسية، قصد اعادة هيكلة وصياغة الدولة السودانية من جديد، لتؤمن للجميع حقوقهم ومواطنيتهم، والجنجويد جزء من هذا التشكيل العام، جاءوا كشريحة او جماعة او قبيلة وسيكونون حتما ضمن اعادة تشكيل المنظومة السودانية وهذا لا جدال فيه. اما نشاط الفعل الجنجويدي فيصنف من طرف الحكم بزعامة البشير ‘بالعرفان الوطني’، ومن وجهة نظر المجتمع الدولي والقانون الجنائي الدولي بالميليشيات الاجرامية المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة، وهو تصنيف تشارك فيه الحركات الثورية، وبعض المكونات المجتمعية الجماهيرية الشعبية لاغلب قاطنة شعب دارفور وقواعد اخرى من الشعب السوداني.
هذه التصنيفات تخضع لمعايير كل طرف مستفيد او ضحية، وتقع بين شديدة الحدة والمتوسطة والاقل حدة، وفق فعل الـ’مع′ او ‘الضد’، لدرجة من يرى في بعض دوائر الحكم انها تحمل الصبغة الدينية عندما تصف نشاطها بـ’الجهاد الجنجويدي’ لرفع راية الاسلام والسلام، وهو موقف يقابله موقف غربي اخر يتحدث عن جماعات ‘ارهابية’ بدأت تتشكل في ما يعرف بالجنجويد في حزام غرب الصحراء الكبرى، بدءا من موريتانيا الى مالي، مرورا بتشاد الى دارفور، وهذا يتطلب قرارا دوليا امميا يجرم نشاط هذه الجماعات والعمل على تفكيكها، وفق خطة دولية تتزعمها فرنسا ومن بعد تحويلها الى جماعات مدنية غير مقاتلة، بثمن او بدونه، تلبية لطموحات قادتها وزعمائها التي تعطي فائض قيمتها لاخرين، وهي كيانات تنتمي لمؤسسة القبيلة، مصدر الشرعية والفعل والالتزام والاتفاق. وهنا يقينا ان ‘الجنجويد’ تحول الى مصطلح لا يتعلق بقبيلة بعينها، بقدر ما هو عمل اجرامي لجماعات او افراد ينتمون بالطبع الى كيانات اجتماعية مختلفة يتعاطون مقابل عملهم ثمنا!
وفي ذات السياق تعتبر شبكات الجنجويد السودانية بشكل عام نتاج ضعف سلطة الدولة واجهزتها السيادية تجاه حماية الدولة والسلطة المحتلة اصلا لسيادة الدولة السودانية، بعدم شرعيتها في تدبير وادارة الشأن العام السوداني، هذا من جانب ومن جانب ثان هي احد تمظهرات سلطة القبيلة ‘الوطنية’ في توظيف مؤسسات القبائل لصد ما تعتبره تهديدات داخلية وخارجية جاءت في شكل ‘ ثورة تراها تمردا، عصيانا، تظاهرات…الخ’. ووفق شرعة اتفاق عملي وتنفيذي لا يتعلق ببرامج واهداف سياسية، بل يتمحور الامر في الحصول على وضعية مادية بحتة، فضلا عن هامش في السلطة يبين وضعيتها في المجتمع، والادهى في هذه العملية المعقدة الجوانب ان المقابل يدفع بالجنيه السوداني او العملة الصعبة المستخرجة من خزينة الدولة المدفوعة من الاتاوات التي تفرضها الدولة على المواطنين، في تعطيل مقصود للمؤسسات والقانون والمسؤولية الاخلاقية والدستورية التي انتفت في الحكم، ويتبع ذلك الدعم الحربي والعسكري واللوجيستي، الذي يؤهل هذه المجموعات للقيام بالادوار المناطة اليها من طرف السلطة، لتصبح من حيث الواقع العملي والمشاهدات اليومية ان نشاط شبكات الجنجويد عبارة عن اجهزة شرعية وطنية تحت سلطة تحمي فعل الاجرام والجريمة، كشأن الفساد الذي يحميه الرئيس السوداني نفسه ويشجع عليه، في غياب اي أدلة – على كثرتها- بان هناك فسادا في السودان كما يقول، ويأتي هذا الاعتراف مهما اختلف الناس حول شكل او مضمون مسميات هذه الشبكات، بدءا من الجنجويد الى حرس الحدود الى التدخل السريع المؤطر اداريا تحت قيادة لواء من الجيش ورتب وهمية تقلد على اكتاف مليشيات الجنجويد بدون قانون الرتب العســـكري، والاهم ايا كان الرأي حول الجنجويد كمؤسسة او مليشيات غير منظمة، فان الحقيقة التي تظل ثابتة انها تمكنت اليوم كشأن تمكين اسلامويي الخرطوم على السودان وماله، كما خرجت عن السيطرة واخلت بميزان القوى العسكري مع السلطة بعد تراجع دور الجيش السوداني الذي يعيش مرحلة من مراحل الانهيار، ولو ببطء، لصالح الميليشات القبائلية والمناطقية والجهوية، كمقدمة واعداد مبكر لمرحلة الحرب الاهلية السودانية المنتظرة، وهي اخر محطات اللعبة السودانية وانهاء الدولة، لان استمراريتها – اي الدولة – ربطها البشير بشرط، هو بقاء حكمه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
في اطار هذا النشاط الجنجويدي برز اسم شيخ قبيلة المحاميد العربية موسى هلال ـ استذكر هنا قبل ثلاثين عاما ايام توليه الخلافة وهو شاب بعد وفاة والده الشيخ هلال، الذي كان صديق جدنا الحاج احمد سبيل زعيم طريقة ‘التيجانية’ الصوفية في مدينة ‘كتم ‘ شمال دارفور، والذي يؤم مريدي هذه الزواية كل جمعة، ومنهم الشيخ هلال، الذي يأتي من ‘دامرة ‘الشيخ المجاورة لمدينة ‘كتم ‘ويقيم في منزل عمنا الفاخر السيد ازرق – كزعيم يدير حملات الجنجويد في فترة الحرب الاولى في دارفور، تلك الحرب التي فشل فيها الجيش الحكومي فعوضته عبر حرب الوكالة بمجموعات قبلية لادارة الصراع مع الثورة السودانية في دارفور، مستفيدة من خطأ تاريخي وقعت فيه الثورة بقصد او بغير قصد في مبتدأ التكوين الاول للثورة السودانية، بتجاوز المكونات العربية في دارفور، الذي لو تم لحسم الصراع مع سلطة التمركز منذ زمن بعيد، وبالقدر نفسه كان ايضا من اهم اسباب تعقل واطالة امد الثورة حتى اليوم، كل هذا يدخل ضمن مراجعات نقدية لمشوار الثورة السودانية التي فشلت في استيعاب القوى العربية في دارفور بشكل يشكل لهذه القوى قناعة مكتملة تمكنها من التفاعل بدينامكية معاكسة تخدم الثورة وتسرع في انهاء منظومة الاستبداد المتمركزة في تدوير الجميع ضد الجميع، وهي متمرسة في صناعة الحرب والقتل. تطورات الاحداث في مسيرة الرجل الحليف القوي لنظام الحكم في الخرطوم بقوته التي تكمن في ترسانته الحربية – كمحدد في صراع القيم السياسي السوداني – وفي عطائه ورمزيته في القبلية الممتدة دارفوريا الى الحدود الغربية السودانية، كشأن قبائل اخرى مشتركة، فيها استطاع الاستفادة من بعض المكافآت جزاء لدوره، ولكنها لا تساوي الدور ‘الجهادي’ الذي قام به، او حتى مع المقارنة بالحلفاء القدامى او الجدد للسلطة، وبدون الدخول في تفاصيل معادة او مكررة او مستنتجة او سماعية فان الرجل ‘الزعيم’ يعيش خلافا مع السلطة ومع حلفائه، مما دفعه للهجرة غربا، حيث المنشأ والميلاد، اعني دارفور، والتمركز بين نــــيرانه وقوته الاجتماعية، مرسلا اشارات مناوراتية ومتكئا على خلفية صراع محلي مع احد ولاة البشير في ولاية شمال دارفور، وارسال رسائله الى رئيس البلاد مباشرة، الذي يعمل على امتصاص ضغوطاته بدون المغامرة في فتح جبهات جديدة مع قوى ضاربة ‘القوى العربية’ عمل على تسليحها ويعرف قدراتها، ولم يتوقف حتى عندما اتهم الزعيم القبلي البلاط/ الحليف لعدد من وزرائه بالفساد العلني، مقدما دلائل وشواهد عن بناء اقطاعيات في ارقى احياء احدى امارات الخليج…الخ، وهوالشيء الذي اثار غضب نائب رئيس المؤتمر الحاكم نافع علي نافع ليرد عليه من’ الفاشر’ عاصمة ولاية الشمال، الذي لم يكن بعيدا عن موقع موسى في دارفور وقتئذ بقوله ‘ان المؤتمر الوطني بقدر ما صنع كثيرين فهو قادر على ارجاعهم’، في اشارة الى الزعيم القبلي هلال ومجموعته، الذي يطمح، بعد التشكيل الوزاري الاخير في ان ينال موقعا متقدما في السلطة، وهو موقع يتناسب والبناء الوظيفي لسلطة القبيلة القومية او الوطنية، على الاقل ينال موقع النائب الاول لرئيس الجمهورية، ويسند هذا موجهات التحالف التي بنتها سلطة المركز مع القوى العربية في اقليم دارفور لكسر شوكة التحول والتغيير واسقاط النظام نفسه. في حين قد تعرف وتتجاهل ان هناك عربا اقحاحا كذلك في اقليم دارفور، لتضع القومية العربية في دارفور ووفق التراتبية العروبية في السودان، ليس في موقع متقدم، بناء على خلفيات تاريخية تتعلق باستعلاء الحزام الحاكم على غرب السودان في عمومه، فالقوى العربية في دارفور كانت كلها ضحايا الجغرافيا اكثر من العرق.
ان الشيخ موسى هلال في موقعه وموقفه الجديدين يحسب عليه انه ما زال ضبابيا وبراغماتيا، يعمل برد الفعل ويؤسس لمناوراته بدون رؤية واضحة وهو ما سوف يفقده رصيدا جد مهم، وفي مرحلة حرجة من تاريخ الصراع ومتغيراته ومستجداته وتوليفاته، التي تتطلب تخطيا وتجاوزا ومراجعات شاملة نقدية تؤهل الزعيم القبلي هلال للقيام بدور جديد يدخله اللعبة ببند الشريك، وليس العامل بالوكالة وفقا لموازنات الصراع السوداني في القرن الواحد والعشرين السوداني، الذي يعتمد على بندي القوة والجماهيرية الاجتماعية القبائلية، وهذا يتطلب العمل على اعادة صياغة المشروع الجنجويدي السوداني ان صح القول بما يخدم اهداف وطنية ترتبط بالمشروع الوطني السوداني، وفي تجاوز لحرب الفراغ في اقليم دارفور، ليأخذ تجربته مع القوى الثورية في دارفور في الاعتبار.
ومطلوب منه رفع سقفه في اطار حكم الدولة والسلطة المركزية مباشرة، وهذا يتطلب صياغة تحالفاته وانتقال عتاده وقوته الى مربع مركز الصراع الحقيقي في رسم تحالف المستقبل، الذي يضمن له البقاء تجديدا لتاريخه مع التأكيد الجازم على ان عقلية السلطة السودانية، ان استوعبته واعادت ادماجه مجددا، في اطار اي تسوية حتى لو قام بها الرئيس التشادي، سوف تنتقم منه بأي فعل غير متوقع، لاسيما ان قوة زعيم المحاميد في رمزيته القبلية اكثر من قوته الاجتماعية، واي اختفاء له معناه انتهاء تماسك قواته القبلية، وهو مصدر الخطورة زائدا ان له خيار رسم طريقه وحده او مع الاخرين.
وفي الاطار ذاته على قوى المقاومة الثورية السودانية ان تتعاطى مع مشروع الفكر الجنجويديان ان وجدا- بعقلانية متجاوزة، قادرة على الملائمة وفق مقتضيات شروط الزمن السوداني المختلف ومكانه المعلوم، حتى لا يبقى امام قوى المستغِلين الا الاستسلام لارادة الثورة الجماهيرية الوطنية التي تطمح لاعادة هيكلة الدولة وتصحيح موازين قواها الاجتماعية.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن