ضابط سابق في الاستخبارات يروي علاقة الجنجويد والحكومة في دارفور : حاتم تاج السر

ضابط سابق في الاستخبارات يروي علاقة الجنجويد والحكومة في دارفور : حاتم  تاج السر 

 

تم تكليفي ضمن عدد من ضباط الاستخبارات للإشراف على عمليات إخماد التمرد في دارفور فوصلنا الفاشر في 18/5/2003 ولكن بعد انتهاء مهمتنا في دارفور اتضح لي كل حلقات العملية وشاهدت كل ما يمكن أن يشاهده الإنسان من فظائع وجرائم كما اتضحت لي الوجه الآخر للعملية بعد ظهور عناصر أخرى غير القوات النظامية لها من السلطات والصلاحيات تفوق صلاحيات القوات النظامية فقررت توضيح بعض الحقائق .

 

مقدمة

فكرة المليشيات في حروب السودان الداخلية

تعود استراتيجية المليشيات في السودان إلى الستينات من القرن الماضي حيث وظفتها الحكومات السابقة في حرب الجنوب وبشكل ممنهج في سنة 1985م لتكون نموذجا لكل الحروب اللاحقة في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور وبحكم ضخامة التكلفة المالية لتعبئة الجيش للحرب وعزوف الشباب السوداني من الإلتحاق في معسكرات التجنيد الإختياري لعدم قناعة الشباب لمبررات الحرب ولتشكيك الحكومات في ولاء العديد من ضباط الجيش لسياساتها ،عملت إستخبارات هذه الحكومات في تسليح القبائل مثل الرزيقات والمسيرية التي تقطن في خطوط التماس مع الجنوب وشجعتها على تدمير المجتمعات التي يشتبه في دعمها للتمرد مقابل الحفاظ على ما تغتنمها من الحرب بما في ذلك الأطفال والبنات والنساء والماشية والممتلكات المنزلية كما إشتملت على القتل العرقي المستهدف والإفلات من العقاب .

وفي دارفور ظهرت فكرة المليشيات القبلية في الثمنينات ولكن كانت هذه المليشيات ذات طابع محلي ونتاج طبيعي لإنتشار السلاح  والحروبات القبلية التي تحدث من وقت لآخر نسبة للتداخل القبلي والظروف الموسمية لحركة تنقل الرعاة الرحل فتحدث احتكاكات في موسم الأمطار عندما تتجه الرعاة من الجنوب إلى الشمال وعند عودتهم إلى الجنوب في فترة الحصاد وكانت الغاية من تكوين هذه المليشيات هي حماية القرى والمزارع والماشية والممتلكات من أي اعتداء  إلا أن في عام 1987 ظهرت تحالف موسع شملت عدد من القبائل العربية أطلق عليه إسم ( التجمع العربي ) ثم توسع التنظيم لتأخذ اسم ( قريش) وصدرت عن هذا التنظيم بيانات ذات نزعة عنصرية ووجدت الرعاية من حكومة الصادق المهدي حيث تم بموجب هذا التنظيم تعين عدد ممن كانوا على رأس التنظيم في مناصب دستورية وتشريعية في الدولة وكان على رأس هؤلاء عبد الله على مسار الذي تم تعيينه وزيرا للشؤون الاجتماعية ومن الجرائم التي ارتكبها مليشيات هذا التنظيم في تلك الفترة مجزرة الضعين الشهيرة حيث قامت الجناح العسكري لهذا التنظيم في الخميس 17/9/1987م بتدبير مكيدة وتخطيط مجزرة ضد أبنا الجنوب الذين يسكنون بحي البروش بمدينة الضعين حيث قامت هذه المليشيات بمهاجمة الحي بقوة قوامها أربعة ألف والناس نيام وأشعلوا النيران في كل المنازل في الحي وقتل الهاربين من لهب النيران بالأسلحة النارية والسيوف والحراب والسكاكين  وكانت القتل عشوائيا ومن دون استثناء النساء والأطفال والعجزة إلا أن البعض قد تمكنوا من الهروب إلى مركز شرطة السكة حديد بمدينة الضعين فتمكنت الشرطة من إدخال الضحايا في عربات القطار وإغلاق الأبواب لحمايتهم حتى يتسنى لهم فرصة إخراجهم من الضعين ولكن مكيدة المليشيات كانت الأقوى حيث قامت هذه المليشيات بمحاصرة عربات القطار وأشعلوا النيران في جميع العربات فتم حرق أكثر من 1824 من النساء والأطفال وكبار السن فتفحمت جلودهم وأجسامهم مع أخشاب وحديد عربات القطار ولكن اليوم في دارفور أصبحت عمليات الإبادة الجماعية أكثر تنظيما وأوسع إنتشارا رغم اختلاف هوية الحكومات التي تدعم هذه العمليات البربرية .

وفي عام 1988 سمحت حكومة الصادق المهدي لقوات الفيلق الاسلامي بقيادة الشيخ بن عمر في ليبيا بدخول دارفور لمساعدة التجمع العربي فانتشرت في مناطق شمال وغرب دارفور و انضموا إلى هذا التنظيم وأشعلوا حربا قبليا في المناطق التي تقطنها الفور حول جبل مرة ومناطق المساليت في غرب دارفور حيث قامت هذه المليشيات بقتل السكان وحرق مئات القرى ونهب الممتلكات وتدمير البساتين والمزارع  وتهجير السكان واحتلال أراضيهم وتغير أسماء تلك المناطق لطمس هويتها التاريخية .

واصلت حكومة الحالية استراتيجية الصادق المهدي بعد عام 1989 فدمجت عدد كبير من هذه المليشيات في قوات الدفاع الشعبي وكانت أيديولوجيا قوات الدفاع الشعبي هي نواة لإنشاء جيش حزبي في السودان يحل محل القوات المسلحة من خلال عسكرة المجتمع واستخدمت هذه المليشيات في حرب الجنوب خاصة في منطقة بحر الغزال المتاخمة مع حدود دارفور تحت مسميات عديدة مثل الدفاع الشعبي ، قوات السلام ، القوات الصديقة فضلا عن استخدام هذه المليشيات في عام 1991 تحت مسمى الفرسان لمواجهة حركة المهندس داؤد يحي بولاد في مناطق سرف إبني وكرارو ووادي سندو وكفيا غاجي فارتكبت هذه المليشيات مع الجيش الحكومي مجازر ضد أبناء الفور وحرق قرى بأكملها لمجرد إشتباه في كونها تابعة لقبيلة الفور علما بأن الأسلحة التي جمعت من قبائل دارفور في حملة جمع السلاح التي عمت الإقليم بقرار من الوالي الطيب إبراهيم محمد خير، قد تم صرفها لهذه المليشيات التي تسمى الفرسان  إلا أنهم رفضوا إعادة هذه الأسلحة بعد إخماد التمرد بحجة وجود مهددات من القبائل التي ارتكبوا في حقهم الجرائم أثناء مكافحة التمرد ، كما بدأت الحكومة في ولاية غرب دارفور بتسليح هذه المليشيات العرقية في منتصف التسعينات مع إجراء تغيرات إدارية وإنشاء نظارات جديدة في ديار المساليت بهدف تغير ديمغرافية المنطقة مما دفعت دار المساليت الى الحرب عام 1999 أدت إلى مقتل نحو 1218 شخص من المدنيين وحرق مئات القرى التابعة لقبيلة المساليت بعضها تقع على بعد خمس كيلو مترات من مدينة الجنينة وبمشاهدة الحكومة وقواتها النظامية وكانت هذه العمليات تتم تحت إشراف والي ولاية غرب دارفور محمد أحمد الفضل  وبعد قيام المساليت بمظاهرات ومهاجمة رئاسة الشرطة ومكاتب الوالي توترت الأوضاع في الجنينة مما دفع حكومة الخرطوم الراعية لهذه المليشيات بارسال الفريق محمد أحمد الدابي لاستعادة الهدوء .

   

 

ثورة دارفور 

بدأت بوادر ثورة دارفور في فبراير 2003 وذلك بشن غارات وعمليات عسكرية على مراكز الشرطة  وحاميات الجيش في مناطق جبل مرة خاصة في منطقة قلولو  كجرس إنذار للحكومة المركزية،مع تزايد الهجمات وبعد الاطلاع على التقارير الأمنية والاستخبارية الواردة من دارفور عقد مجلس الأمن الوطني   لقاء مع بعض من مؤسسي نتظيم ( قريش) وهم : الفريق حسين عبد الله جبريل عضو في المجلس الوطني  والفريق ادم حامد موسى والي جنوب دارفور السابق  و اللواء الهادي ادم حامد و واللواء طيارعبد الله على صافي النور والي شمال دارفور السابق  وموسى هلال  زعيم الجنجويد المشهور وعبد الله على مسار والي نهر النيل السابق وعبد الحميد موسى كاشا والي جنوب دارفور الحالي  وعلى محمود حسب الرسول وزير المالية والاقتصاد الوطني الحالي  وذلك بغرض إعادة إحياء برنامج تنظيم (قريش) التفاكر و اتخاذ القرار المناسب حول الوضع في دارفور وبعد نقاش مستفيض خلص الاجتماع إلى الآتي :

1.    إن هذا التوتر فرصة لإعلان الحرب وتدمير الإقليم وكسر شوكة المليشيات قبائل الفور والمساليت التي كونت لحماية القرى والمزارع من اعتداءات الجنجويد 

2.    إن إعلان الحرب وتدمير الإقليم تحقق للقبائل العربية التي ليست لها حواكير الحلم الذي طال انتظاره

3.  بإعلان الحرب تتمكن الحكومة والعرب الرحل من إجراء تغيرات ديمغرافية في دارفور وذلك من خلال إزالة المعالم القديمة بحرق القرى وتهجير السكان إلى المدن وإقامة قرى نموذجية للعائدة بعد الحرب .

4.  بإعلان الحرب تعطي فرصة لوضع الإقليم في حالة طوارئ أي تحت تصرف الأجهزة الأمنية وإجراء تنقلات للموظفين الغير المرغوبين أو فصلهم بعد إلصاق تهم التعاون مع التمرد وتسليم إدارة الولايات للقبائل الموالين للمؤتمر الوطني .

5.  لتحقيق الهدف يجب إعفاء الفريق إبراهيم سليمان من منصبه بسبب رفضه للحرب ومطالبته بالحل السلمي  وتعيين شخص ضعيف من قبيلة البرتي أو التنجر مما يساعد في تنفيذ كل التعليمات والتوجيهات من دون إعتراض  .

6.  إنشاء مركز بأم سيالة شرق مدينة كتم لاستخراج بطاقات عسكرية وجنسية للمليشيات العربية والمليشيات القادمين من دول الجوار

7.    بناء مساكن لقادة المليشيات في الخرطوم وتوفير فرص عمل لخريجي القبائل العربية الموالية للمؤتمر الوطني

8.  لتحقيق الهدف لا بد للقبائل الرحل خاصة في شمال دارفور من تجهيز أكبر عدد من المقاتلين لمساندة الجيش في العمليات ولتأهيل المقاتلين تم الاتفاق على تجهيز معسكر للتدريب في منطقة مستريا في دارفور ومعسكر مرخيات في شمال أمدرمان

9.  لتنفيذ الهدف لا بد من عقد لقاء صوري لأبناء دارفور في الخرطوم ولقاء آخر في الفاشر لقراءة أفكارهم ومعرفة رؤيتهم للحل ومن ثم ترتيب لقاء بين الرئيس البشير والرئيس التشادي إدريس دبي في الفاشر وإعلان الحرب .

 ولتنفيذ مقررات الاجتماع تم تكليف صلاح عبد الله قوش  لترتيب لقاء لأبناء دارفور في الخرطوم وكان عنوان اللقاء ( التفاكر لاحتواء الأزمة في دارفور) وقد تمكن من جمع أبناء دارفور بكافة شرائحهم وقياداتهم القبلية في قاعة الشهيد الزبير بالخرطوم ، تراوح عدد المجتمعين ما بين 300 إلى 400 شخصية بينهم وزراء وقضاة وإعلاميين وسياسيين و أكاديميين وإدارات أهلية وتوصل المجتمعون إلى أن أساس الإشكال فى دارفور هو غياب التنمية ومن ثم كيفية تنمية إقليم دارفور وحل الصراعات القبلية الموسمية المتكررة و تم اختيار 80 شخصاً من بين الحضور لزيارة الإقليم والوقوف على الأوضاع  وغادر الوفد المختار الخرطوم إلى الفاشر وفي الفاشر اجتمع الوفد لمدة يومين  أي من  24 – 25 /3/2003 بحكومة وولاة كل من شمال وجنوب وغرب دارفور تحت إشراف  وزير الداخلية عبد الرحيم محمد حسين، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات صلاح عبد الله غوش، تناول الإجتماع القضايا الرئيسية للصراع فى دارفور وسمي هذا اللقاء (بملتقى الفاشر التشاوري)  الذي تمخض عنه الاتفاق على أن إشكالية دارفور تكمن فى  غياب التنمية  والتردي التام في الخدمات الأساسية وغياب الأمن والتدهور البيئي وتم تشكيل أربع لجان  لمعرفة أراء الجميع حول ما اقترح من حلول للمشكلات أخذ عبد الرحيم محمد حسين وصلاح قوش التوصيات والمقررات وغادروا الفاشر إلى الخرطوم لدراسة التوصيات والترتيب للخطوة التالية و واصلت اللجان اتصالاتها مع حاملي السلاح بجبل مرة وفي منطقة كرنوي  وتم التوصل معهم إلى اتفاق لإجراء حوار حول المطالب إلا أنه في يوم 13 /4/ 2003 قام  الرئيس البشير بزيارة مفاجئة إلى الفاشر وإلتقى بنظيرة  التشادي إدريس ديبى في الفاشر وخرج لقاء البشير و ديبي بقرار سحق التمرد وتأديب كل من سول له نفسه لرفع السلاح في وجه الدولة،فأعلن البشير الحرب قائلا ( لا أريد جريح ولا أسير )  وقال الرئيس إدريس دبي قولته المشهورة ( على الناشئين من أبناء الزغاوة آلا يلعبوا بالنار في الحدود ) ففوجئ أبناء الذين اجتمعوا في الفاشر واللجان العاملة على الأرض بهذا القرار المفاجئ  وفي يوم 18 إبريل قصف سلاح الجوي السوداني مناطق حول عين سرو بمحافظة كتم في شمال دارفور وتحريك متحركات من الفاشر وكبكابية لمحاصرة الثوار في عين سرو ولكن كان الجانب الآخر له خطة ومفاجئة  ففي 25/4/ 2003 قام القائد العام لجيش تحرير السودان عبد الله أبكر   بهجوم اتسم بعنصر المباغتة والجرأة على مدينة الفاشر تمكن بشجاعته وخطته المحكمة من السيطرة الكلية على المدينة والقيادة العسكرية وسلاح المدفعية والمطار و تدمير  عدد 2 طائرة حربية من طراز انتونوف وخمسة مروحيات قتالية وطائرة شحن عسكرية محملة بقنابل حيث تم تدمير هذه الطائرات بقاذف صواريخ أس بي جي 9 ومدفع دوشكا ومدفع مضاد للطائرات من عيار 120 ملم  و دخول القيادة العامة للجيش الحكومي وقتل أكثر من 70 من ضباط وضباط الصف والجنود وأسر أكثر من 50 عسكريا على رأسهم قائد السلاح الجوي السوداني اللواء طيار إبراهيم بشرى إسماعيل واستيلاء على ملفات الإستخبارات وعدد كبير من الأسلحة والذخائر والمهمات العسكرية ومركبات عسكرية و مدافع هاون عيار 106ملم و120 ملم وأربع قاذفات صواريخ من طراز أس بي جي 9 وإحدى عشرة مدفع مضاد للطيران ونظام مضاد للطائرات ( الربعي ) سوفياتي الصنع صمم لإسقاط الطائرات ،خاصة المروحيات والطائرات الأخرى التي تحلق على ارتفاع منخفض وهي أيضا ذو أثر مدمر ضد الشاحنات والمدرعات الخفيفة إلى جانب تدمير مخازن الأسلحة والذخائر وخزانات الوقود وكبدت القوات المسلحة  خسائر في صفوف حركة التمرد حيث تمكنت من تدمير خمسة عربات وقتل 26 من المتمردين   .

   شكل الهجوم على مدينة الفاشر واحتلالها لعدة ساعات حداً فاصلاً فى تاريخ الصراع  في دافور وغير كل النظريات والمعلومات والتكهنات التي تقلل من خطورة الثورة فما عادت الحرب في دارفور قليلة الشأن ، قبلية الطابع بعد توجيه الضربة النوعية الخاطفة إلى قلب القوة العسكرية الحكومية كما أكسب ذلك الحدث حركة التحرير الثقة بالنفس والبعد الإعلامي  وزمام المبادرة بالهجوم على الجيش السودانى. فترك بذلك  أثراً سالباً لدى الجيش الحكومى الذي ظل يقاتل طوال 50 عاماً في جنوبي السودان بهويات عقدية  تختلف في كل مرحلة من مراحل الصراع .

في الحلقات القادمة  :

·        تعريف الجنجويد

·        سر تحالف الحكومة والجنجويد

·        أقسام الجنجويد

·        معلومات عن مستريا معقل الجنجويد

·        الضباط المشرفين على عمليات الجنجويد

·        تمرد الجنجويد ( دوغلو محمد حمدان “حميتي ” ) نموذجا

·        مراحل دمج الجنجويد في القوات النظامية المختلفة

·        للحكومة أسلحة أخرى في دارفور( الأيدز و المخدرات )

·        الثوار العرب 🙁 جبهة القوى الثورية المتحدة  ) نموذجا

·        مواقف مشرفة من نظار العرب (سعيد مأدبو ، محمدين الدود ، الهادي عيسى ) نموذجا

·        الخاتمة

 

 

                 حاتم تاج السر [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *