الجيش ونظام الحكم في السودان
تعتبر الأحداث التي وقعت في منطقة هجليج وما مهّد لها من مقدمات أو تلاها من تداعيات أجدى وأفعل المحفزّات في إعادة النظر إلى القوات المسلحة السودانية وعلاقتها بالسلطة القائمة أولاً من جهة سياسية، وثانياً وظيفياً وأخيراً التشابك بين الجيش من جهة وبين الوطن بكل مكوناته (تاريخ وجغرافيا) وكما في السجال المشهور بين شارلي ديغول وونستون تشيرشل فإن الحرب أكبر من أن تُترك للجنرالات وحدهم كما كتب الأخير، وكذلك أكبر من أن تُترك للسياسيين وحدهم كما رد معلقاُ ديغول، من هذا الباب ومع طبول الحرب التي تُقرع في كل محليات السودان يبقى الحديث عن الجيش أمر لا مناص منه، فلماذا يُطلب من المواطن أن يقدم نفسه أو ولده أو يستقطع من ميزانية تعليمه وصحته ـ على محدوديتها ـ ليشارك بها في المجهود الحربي إن لم يكن مسموحاً له بالإطلاع على مجريات الأمور والإلمام بمواطن الخلل وكيفية معالجتها، في هذا الفصل نحاول إدارة حوار موضوعي هادئ على ضوء المصادر المنشورة عن مؤسسة الجيش وعلاقتها بالسلطة الحاكمة.
الجيش والدولة:
التلخيص غير المخل لعلاقة الجيش ببقية مؤسسات الدولة يمكن اختزاله في كلمة “الأمن القومي” والأمن القومي بمفهومه الشامل يعني ما هو أكبر من السلاح حيث يتصل باللوجستية والمواصلات والاتصالات والكساء والغذاء والدواء والتعليم والإدارة الرشيدة… إلخ وغيرها من ضرورات المعيشة التي تجعل الحياة ممكنة على أرض الوطن وكما هو معلوم فإن اتصال حلقات هذه الأشياء تجعل مفهوم الأمن القومي أبعد من حمل السلاح أو العمل الشرطي فالشح في التنمية والخدمات الصحية والتعليمية أو غياب التعليم أو تأخر الانصهار القومي يقود إلى حروب أهلية وفوضى وإنهيار للأمن ومن ثمّ يُدعى الجيش للتدخل مقابل سوء الإدارة الحكومية … إلخ ومن ثمّ تجد القوات المسلحة نفسها في خضم الأحداث وتقع المسئولية على عاتقها.
فكل الأحداث التي تقع داخلياً أو خارجياً تعود بصورة أو بأخرى لهذه النقطة. فمثلاً إذا حدث سوء في إدارة علاقات الدولة الخارجية ربما يتطور هذا التوتر إلى أن يصبح عملاً عسكريا فيكون البديل للدبلوماسية هو السلاح والقتال هذا وفق ما قال به كلاوتزفيتس، كذلك سوء إدارة التنوع العرقي والثقافي أو الفجوات والتفاوت في التنمية في أي وطن مع انسداد أفق الحوار الوطني أو إنعدام وسائله يقود إلى حرب أهلية ويكون الجيش هو المتحمل الأكبر لهذا العبء.
أذاً فالجيش هو أمين الشرعية (المفترض) وهو الحرس الوفي والمرجع الأخير لحماية التوافق الوطني الموجز في دستور البلاد كما في النموذج التركي، وهو المدافع عن التهديد الخارجي للوطن، وهو أكبر مؤسسة بيروقراطية في الدولة، ولها الكلمة الأخيرة في كل ما يتهدد أمن الوطن وسلامته ( يُشبه أصحاب المدرسة البنيوية الجيش بالهيكل العظمي في بنية الدولة والذي لا عوض لجسم أي إنسان عنه، ويقول عنه آخرون إنه المؤسسة القومية الأكثر تنظيماً وأقوي تلاحما وإنضباطا). بهذه الصفات فإن كل تحرك شعبي يتجه نحو تغيير أي نظام حكم يذهب صوب القيادة العامة للجيش، هذا ما حدث في انتفاضتي اكتوبر 1964م وأبريل 1985م في السودان على الرغم من أن حكام البلاد كانوا يتقلدون تلك السلطة باسم القوات المسلحة، إلا أن الجماهير كانت تحب ولو غريزياً أن تميز دائما بين السلطة وجيش الوطن حتى وإن كانت قيادات الجيش في تلك الفترة من أخلص أنصار الحاكم. وهي ذات الأشياء التي أدت إلى تعطل انتفاضتي اكتوبر وسبتمبر 1995-1996م اللتين فاقتا بحسب شهادة المراقبين انتفاضة أبريل 1985م إلا أن عدم انحياز القوات المسلحة لجانب المتظاهرين أقعد بهما عن اكتمال المسيرة المرجوة.
النقطة الثانية في تشابك علاقة الجيش بالوطن هو التفاعل الداخلي في بطن مؤسسة الجيش نفسها فكل ما يعرّض جيش الدولة للخطر يجعل مصير هذه الدولة في مهب الريح، وكلما انكسر جيش دولة ما في الميدان فإنه يُرجع السبب في تلك النكسة أو الهزيمة إلى السلطة السياسية أو عوامل داخلية فيها، ومن ثم ينقضّ على السلطة في المركز باعتبارها خانت الأبطال الذين يحمون ثغورها في الميدان. والنماذج في دول العالم الثالث كثيرة ابتداءً من إنقلاب عبد الناصر في مصر الذي تُذرع له بهزائم القوات المصرية في معارك فلسطين 1948، أو إنقلابات البعث المتكررة في سوريا والعراق وليبيا إنعكاسا لهزيمة العرب في 1967م، وحتي إنقلابيّ جعفر نميري مايو 1969م أو البشير يونيو 1989م فإن التراجع والخسائر الكبيرة في ميدان القتال كانت هي العوامل الرئيسية في تحريك الرأي العام العسكري لقبول الإنقلاب على السلطة المدنية وعدم اعتراض القيادات العسكرية الأخرى على المنقلبين أو التصدي لهم بالمقاومة.
الجيش والوطن:
تعتبر القوات المسلحة السودانية من أعرق الجيوش الوطنية في أفريقيا بحيث تعود جذور تأسيسها إلى دخول محمد علي باشا إلى السودان أو ما يُعرف بالغزو التركي المصري (1821-1885م) كجذور متصلة ومتسلسلة غير منقطعة عبر الأجيال. يذهب بعض المؤرخين العسكريين بالتحديد إلى أن تمرد الجنود السودانيين في حاميتي جنود كسلا 1844-1865 ثم وادمدني هو أول تاريخ موثق للقوات المسلحة السودانية(1).
كان الجيش التركي في السودان يضم ست أورط من الأتراك (6000 جندي)، واثنتي عشرة أورطة من السودانيين (12000 جندي)، وقد شاركت هذه القوات بعد نقل جزء منها إلى مصر في حروب الإمبراطورية التركية، مثل حرب القرم التي قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853، واستمرت حتى 1856م. وحرب المكسيك التي قاد الأورطة السودانية فيها البكباشي جبر الله محمد والصاغ محمد ألماظ والتي عملت في ماكسميلايان في عهد نابليون الثالث، وقد نالت أسمى آيات التقدير من الخديوية الحاكمة، وأصدر الأمير عمر طوسون كتيباً صغيراً أشاد فيه بحسن بلائها وعدّد انجازاتها، كذلك كتب عنها أحد المؤرخين الإنجليز كتاباً باللغة الإنجليزية. اتصلت هذه القوات حتى بعد حملة عرابي وتحرير السودان على يد الثورة المهدية، ومن ثم صارت قوات مصرية تتبع للتاج العثماني تحت السيادة المصرية، ولكن تحت إمرة ضباط بريطانيين حتى جاءت حملة إعادة استعمار السودان التي قادها هربرت كتشنر، والتي كان الإسهام المصري فيها هم بقايا الأورطة السودانية السالفة من الجيلين الأول والثاني. ومن ثم أضحت هذه القوات تحت القيادة البريطانية (الإنجليزية ـ المصرية اسماً والبريطانية فعلاً) حتى تاريخ إنشاء قوة دفاع السودان (SDF).
في نوفمبر 1924م في القاهرة قُتل الميجر جنرال سير لي ستاك وتبع ذلك توجيه إنذار شديد اللهجة من المبعوث السامي البريطاني في مصر اللورد اللينبي بطرد الجيش المصري من السودان وما تلاه من أحداث مثل قيام ثورة اللواء الأبيض (1924م) في السودان التي يلاحظ أن بعض قادتها في جناحيها المدني والعسكري نفر من أولئك الضباط ممن كان منهم في الخدمة مثل عبد الفضيل ألماظ أو في التقاعد مثل علي عبد اللطيف. وبعد إكمال خروج الجيش المصري من السودان أصبح التاريخ الرسمي لإنشاء القوات المسلحة السودانية هو العام 1925م تحت مسمى قوة دفاع السودان (Sudan Defense Force)(SDF). ولكن الواقع أنها بُنيت على الجذور السابقة للأجيال التي ذكرناها وفق الأعراف والتقاليد التي وضعت والتي توضح بجلاء عراقة وأصالة هذه المؤسسة (مقارنة مع الدول المحيطة بالسودان جميعاً ربما باستثناء مصر التي تنتسب مؤسسة العسكرية في جذورها المتصلة جيلاً إثر جيل إلى محمد علي باشا وبعثاته العسكرية إلى فرنسا بعد العام 1831م).
صدر قرار التأسيس من الحاكم العام البريطاني الجنرال لي هدلستون ـ وهو في الأصل ضابط انجليزي ـ الذي أصبح أول قائد عام لقوات دفاع السودان، فأُعيد افتتاح الكلية الحربية التي أصبحت تمنح براءة الحاكم العام في السودان عوضاً عن براءة الخديوي الأميرية التي كانت تُمنح في السابق ويؤدي بموجبها الضابط السوداني يمين الولاء لخديوي مصر(2) ويصبح بالتالي ضابطا في الجيش المصري، فأصبح الولاء الجديد لحاكم السودان ـ البريطاني الأصل ـ وتم استيعاب كل الضباط السودانيين من القوات السابقة في الجيش الجديد الذي صدر بموجب قانون جديد وبنفس رتبهم ومخصصاتهم بل جرى تحسين بعض شروط خدمتهم(3). وتم وضع عقيدة قتالية تقوم على أساس الولاء للسودان وحكومته الماثلة والتي كانت هجيناً لا هي حكومة احتلال ولا سلطة إنتداب وتعرف بأنها “إدارة بريطانية تنوب عن السودانيين في تسيير أمور الدولة”.
يرى كثير من المؤرخين أن الاصرار الشديد للموظفين البريطانيين على منح السودان استقلاله عن بريطانيا ومصر، كان عرفاناً للدور الكبير الذي اضطلعت به قوات الدفاع السودانية ـ خاصة في الحرب العالمية الثانية في معارك اثيوبيا وشمال الصحراء في ليبيا (راجع محمد خير البدوي، بطولات سودانية) ـ وممانعتهم لإجراء مقايضة السودان بتركه لمصر مقابل منح امتيازات مصرية لبريطانيا في منطقة قناة السويس، وصل هذا الاصرار في بعض الأوقات إلى تمرد الموظفين البريطانيين في السودان على قيادتهم في لندن، عند تراخي نظرة لندن للسودان في صالح مصر، ويعلل هؤلاء المؤرخون هذا الاصرار والتمسك إلى عهد قطعته الإدارة البريطانية لقوة دفاع السودان (الجيش السوداني) بأنها إذا قاتلت إلى جانب بريطانيا وكسب الإنجليز الحرب فإنها ستمنح السودان (الحكم الذاتي وحق تقرير المصير) استقلاله التام وهو طلب زكاه وقوف كل النخب السودانية الدينية والوطنية إلى جوار حكومة الإنجليز خلال فترة الحرب. فأصبح بذلك الشعب السوداني مديناً لجيشه بالفضل في استقلاله، (راجع مقال “استقلال السودان والجنود المجهولين” في العدد الرابع من مجلة سنار) وتكشف بعض الوثائق البريطانية(4) أن بريطانيا عندما جردت حسابات ما بعد الحرب فإنها وجدت نفسها مدينة بمبلغ مليوني جنيه استرليني للسودان وقتها كجزء من اسهامه في المجهود الحربي، قامت الإدارة الاستعمارية بتحويلها إلى جامعة الخرطوم.
الجيش والسياسة:
بعد الاستقلال أصبح الجيش مؤسسة متداخلة في الشأن العام بطريقة مستمرة إلا أنه لم ترصد أي محاولات اختراق من القوى السياسية المنظمة لكيان القوات المسلحة باستقطاب ضباط أو جنود لتجعل منهم كائناً عضوياً أو امتدادا لها، بل اكتفى الجميع بوسائل التأثير الناعمة والعامة مثل الصحف والكتب ودوريات النشر وغيرها لبناء الأفكار ومن ثمّ قواعد ولاء لهم في الجيش. استمر هذا الوضع حتى ثورة اكتوبر على الرغم من تسلم الجيش للسلطة في نوفمبر بواسطة القائد العام وبطريقة سلسة من رئيس الوزراء المنتخب مما فتح الباب لبعض القيادات الحزبية لإتهام حزب الأمة بأنه فعلها كمؤامرة ضد غريمه التقليدي الاتحادي الديمقراطي الذي توحّد بجهود ناصرية. إلا أن استلام السلطة عن طريق القائد العام وليس ضباط دونه يؤكد خلو المؤسسة من التنظيمات السياسية، حتى الحوادث المتفرقة التي وقعت مثل إنقلاب كبيدة أو علي حامد فإنها جميعاً تصنف ضمن اطار الصراع السياسي داخل المؤسسة ذاتها وبين ضباطها حتى وإن تأثروا أو اتصلوا بشخصيات حزبية فإنه كان اتصالاً فردياً محدوداً، لكنه قطعاً دون بناء تنظيمي عضوي داخل الجيش (أُتهم الرشيد الطاهر مرشد الإخوان المسلمين في احدى هذه المحاولات الإنقلابية وتم عزله من قيادة الجماعة لاحقاً بعد اكتوبر، حتي محاولة برات وحسين دارفور فنها كانتتجارب فردية، كذلك راجع أوراق منشورة على الانترنت في شكل تقرير لحزب البعث العربي الاشتراكي تحمل توقيع كسباوي، لمزيد من الاضطلاع على أثر ثورة اكتوبر واختراق اليسار للجيش).
يعتبر “تنظيم الضباط الأحرار” الذي كان يرأسه محمود حسيب هو النقطة الأبرز في تاريخ إنشاء تنظيمات سياسية للضباط في القوات المسلحة تعمل كامتداد عضوي لتيار سياسي خارج المؤسسة، وتمتد جذور هذا التنظيم إلى ما بعد ثورة اكتوبر كما أورد الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر أحد أبرز منفذي إنقلاب مايو، وإن كان قد حمل على المكون الشيوعي في التنظيم باتهامهم بالتخاذل قبل التنفيذ بحجة أن اللحظة الثورية غير ناضجة(5). ورغم احتوائه على متناقضات بنيوية واضحة إلا أن الصبغة اليسارية أو “مدرسة الاشتراكية القومية” كانت متجذرة في العقل والفكر السياسي والعسكري للتنظيم، لكنه بلا شك يُعتبر التنظيم السياسي الأبرز داخل الجيش في تلك الفترة، ويؤكد ذلك نجاحهم في تنفيذ إنقلاب 25 مايو 1969 بطريقة سلسة دون إراقة دماء، ومن ثم أوصلوا الرئيس جعفر نميري إلى الحكم في سابقة متقدمة مستلهمة النموذج الناصري.
إذاً فاليسار السوداني هو أول من قام بعمل سياسي منظم داخل القوات المسلحة السودانية باستقطاب ضباط يصلون إلى السلطة لحساب فكرهم السياسي والعمل على توجيههم من خارج المؤسسة العسكرية. اتسم البنيان الفكري والسياسي لهذا التنظيم بالهشاشة وهو ما أظهر الفوارق والتناقضات الكامنة فيه والتي قد عبرت عن نفسها في مرحلة لاحقة في صراع الضباط القوميين والمجموعة الشيوعية داخل التنظيم والتي كان وجود جمال عبد الناصر شخصياً كمرجعية لها احترامها عاملاً حائلاً دون تفجّر الخلاف. وهو ما يؤكده اعتقال عبد الخالق محجوب بعد أيام قليلة من جنازة عبد الناصر (حوالي أسبوعين) وعزل الضباط الشيوعيين في السلطة بعدها، مما قاد إلى مواجهات دموية بعدها بأشهر كما هو معروف (في يوليو 1971م) عندما وقع الإنقلاب على النميري ثم الإنقلاب المضاد الذي أعاده إلى السلطة مرة أخرى.
عمد النظام المايوي بعد تلك الأحداث إلى فتح عينيه على أخريهما لرصد أي تيار أو حركة سياسية لبناء قاعدة علاقات لها قوة تتكتل داخل الجيش من أي إتجاه كان، لم تنج من تلك العيون حتى العصبة المحيطة بنميري نفسه والقابضة على زمام الأمور، فلم تسلم من الإتهام والمقابلة بالردع الحاسم متى ما توفرت معلومات كافية عن أي منهم (لم يسلم من مثل هذه الإتهامات حتى وزراء الدفاع المسئولون عن الجيش مثل خالد حسن عباس أو عبد الماجد حامد خليل في مرحلة لاحقة من الإتهام ببناء شعبية خاصة أو قاعدة تأييد مما يمكن توظيفها واستغلالها).
هذه العيون المبثوثه جعلت هامش العمل لإحداث تغيير في السلطة من داخل أسوار المؤسسة محفوفة بالمخاطر ومكلفة في الوقت والجهد، فكان هو ما دفع القوى السياسية الوطنية إلى الإتجاه إلى العمل المسلح من الخارج، وهو ما أثبت فشله في عملية يوليو 1976م التي أثارت حفيظة الجيش الذي هب وثار للدفاع عن كرامته وقد وصمت تلك الانتفاضة المسلحة باسم غزو المرتزقة حتى بالرغم من كون قائدها من أميز الضباط السودانيين (العميد محمد نور سعد)، ولكن لاستخدامه قوات من خارج مؤسسة الجيش التقليدية ومن ثم قيامه بتدريبهم وتمركزهم وتعيين نقاط انطلاقهم من خارج البلاد، أصبح الإجهاز عليهم وتعبئة الشعب ضدهم من أسهل ما يكون وهو ما جرى عندما تم وصفهم بأنهم مرتزقة وأجانب، فطاردت الجماهير من فهمت أنهم غزاة من الخارج يريدون احتلال الوطن، ولم يدر بخلد أحد أن هؤلاء هم طلائع الثورة الشعبية لإخراج الشعب من قبضة السلطة المايوية.
الجيش والحركة الإسلامية
وعت الحركة الإسلامية هذه الدروس مجتمعة فأي تغيير عسكري يأتي من خارج مظلة القوات المسلحة ووحداتها العاملة المعروفة سيكون مصيره الفشل المحتوم، كما أن أي اتصال عبر الوسائل والطرق التقليدية بمنسوبي هذه المؤسسة سيكون مكشوفاً وبالتالي صيداً سهلاً لأجهزة أمن نميري، وخرجت بخلاصة العمل الدؤوب الصابر من داخل إطار المؤسسة العسكرية التقليدية هو صمام أمان التغيير وفق الاستراتيجية العشرية التي وضعتها الحركة في العام 1977م في كافة المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفترة ما بعد المصالحة(6)، فكان العمل في الجيش أحد أركان الاستراتيجية الجديدة للحركة، أو بالأحرى توسيع العمل في تنظيم الحركة في الجيش لأن العمل كان قد سبق هذا التاريخ ببضع سنوات خلت، وقد أشار الكثيرون إلى دور اللواء مهندس الهادي مأمون المرضي في رسم خارطة طريق لبناء قواعد للحركة داخل المؤسسة العسكرية، وصفه د. منصور خالد في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل” إنه أبو الإسلاميين في الجيش وقال إن فارس علي حسني ـ مدير الاستخبارات العسكرية ـ كانت ترد إليه تقارير بانتظام عن نشاطه. ولكنه ابتدع وسائط تواصل غير تقليدية لتجنب الدخول في مواجهة مكشوفة مع أجهزة أمن النظام.
تنظيم داخل التنظيم
اعتمدت الحركة أسلوب عمل الواجهات من باب التعمية (8) فكانت قيادة الحركة مثلاً لا تتصل بكوادرها في الجيش بطريقة مباشرة، بل قامت ببناء جهاز مدني يتولى مهمة الربط والاتصال عند الضرورة، وتم تكليف عدد من كوادر الحركة التي ليس لها نشاط سياسي ظاهر، لإدارة هذه المهمة الشاقة والحساسة.
جرى أول اختبار عملي لأداء هذه التوليفة (المدنية ـ العسكرية) عندما تلقت القيادة السياسية للحركة الإسلامية إشارة من قيادة الجبهة الوطنية في ليبيا بإجراء عمل متزامن للمشاركة في عملية الانقضاض المزمعة على السلطة في الخرطوم (2يوليو1976م أو ما عرف لاحقاً بغزو المرتزقة) وطلبت من تنظيم الحركة بالداخل أن يتم تنسيق عمل مشترك من قواعد الضباط الذين يدينون بالولاء للحركة في الجيش بالداخل، ويصبح محور إرتكاز مع القوة القادمة من الخارج في غزوة يوليو، علي أن تقييم الجهاز المدني الناشئ وقتها هو الرفض بطريقة قاطعة، معللاً بأنهم لن يغامروا بالتضحية بسنوات من العمل الشاق في الجيش مقابل عملية غير مضمونة النجاح، أشاروا أيضاً إلى أن ترتيبات العملية غير كافية ووصفوها بأنها “فطيرة”. وأن لديهم معلومات تفيد بأن أجهزة الأمن ترصدها، بالإضافة إلى غياب عنصر الانسجام والمزاملة بين القوات وغيرها من التفاصيل الأخرى. المثير أنها وقعت كما جرى تحليلها بواسطة الجهاز المدني المشرف على العمل العسكري ـ وقتها ـ من خلال المعلومات التي توفرت إليه من مصادره المتنوعة(7). فكانت النصيحة إلى القيادة السياسية بعدم خلط الأمور والحفاظ على العمل الاستراتيجي الداخلي بعيداً عن ألاعيب الأحزاب المتشاكسة في الخارج. وهو ما قد كان، مما عزز ثقة القيادة السياسية في هذا الجهاز وأصبح يعوّل عليه في كثير من القضايا، حتى التي لا تمت إليه بصلة ولو من باب النصح والاستشارة.
وبعد المصالحة ووفق منظومة العمل الاقتصادي تم اضافة بنوك ومؤسسات مالية واجتماعية وحتى أكاديمية كبيرة لتكون تحت تصرف هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي(9). فنشأ وتضخم هذا الجهاز المدني ـ المشرف على القطاع العسكري ـ وأصبحت له مؤسساته الاقتصادية وميزانياته المنفصلة وعلاقاته الاجتماعية المترابطة وقياداته المتخفية، والتي نأت بنفسها عن العمل السياسي المكشوف أو الواجهات ذات الصبغة المعروفة. ومع توسعها أصبحت حاجتها تزداد إلى تأمين اضافي، فانشأت لها شبكة معلومات داخلية منفصلة عن التنظيم، وتم رفدها ببعض الفنيين من المدنيين على السواء (مهندسين، فنيي حاسوب، أطباء،…إلخ) وتم إنشاء مكاتب لادخال العضوية في الأجهزة النظامية (جيش، شرطة، أمن). وبحلول منتصف الثمانينات أصبح هذا الجهاز الذي انشئ لأغراض استثنائية تنظيما داخل التنظيم نفسه وكان يرد في تقارير الأمانة العامة للحركة الإسلامية باسم الأمانة الخاصة ولم يكن يعرف عنه أحد سوى الأمين العام للحركة د.حسن الترابي أو الذين يريد هو أن يطلعهم أو يستعين بهم دون أي نقاش من مجلس الشورى أو المكتب التنفيذي أو الأمانة العامة أو فروعها المتشعبة، فقاعدة الثقة والولاء التي تعد من أركان البيعة لم تكن تترك مجرد هامش للتشكك أو التردد. كانت كل طلبات الأمانة الخاصة تجاب من ميزانيات إلى كوادر بشرية إلى قرارات إلى فتاوى …إلخ دون عقبات أو عراقيل في سبيل الهدف الاستراتيجي والمركزي الذي تتجه الحركة إلى إنفاذه وهو إقامة المشروع الإسلامي من باب السيطرة على مقاليد جهاز الدولة وتصويب وجهته إلى الإتجاه الذي يخدم هذا الأمر. وتعتبر القوات المسلحة هي الطليعة المحورية في هذه العملية (Vanguard). ويمكن لأي دارس أن يراجع ما أطلقه الدكتور عبد الوهاب الأفندي في كتابه الثورة والاصلاح السياسي وصف السوبر تنظيم على هذه الأمانة الخاصة، أوما ذكره د.التجاني عبد القادر عن دورها لاحقاً في مرحلة المفاصلة مع الترابي في كتابه المشار إليه (ص 72) حيث ذكرها بأنها تضرب سياجاً سميكاً حول الرئيس وأشار إلى الدور المتعاظم الذي قامت به في فترة الانشقاق واقصاء الترابي، ومن ثم التحكم في من جاء بعده.
ما بعد التغيير:
جاءت لحظة الحسم وأتى كل ما سبق أُكله، بعد الاستفادة من كل الدروس والمحاذير التي تقدمت. فجاء التغيير من داخل القوات المسلحة وبعملية عسكرية محضة(10) واستطاعت الحركة أن تبسط سلطتها عبر كوادرها التي جرى إعدادها في المراحل السابقة، لتقوم بعملية التغيير إلى مشروعها الذي تريده، أو ثورة الترابي كما وصفها الدكتور الأفندي. جرت عملية إطاحة واسعة بقيادات أجهزة الدولة المختلفة في شقيها المدني والعسكري وفق خطة إحلال وإبدال القيادات المنتسبة إلى الحركة الإسلامية في كل المؤسسات، مع طرد كل العناصر التي ترى الحركة أنها “مزعجة” إلى خارج الخدمة وفق ما اصطلح على تسميته بـ”الصالح العام”، أشبه بما تسميه الإنقلابات العقائدية عملية التطهير (إنقلابي عبد الناصر أو نميري) وكانت الحجة الظاهرة هي تأمين النظام الجديد والمستترة هي “تمكين” الكوادر التنظيمية من إدارة دفة البلاد لتوجيهها إلى النحو الذي تريده الحركة وفق مشروعها وخططها(11).
من بين تلك المؤسسات كانت القوات المسلحة ذات وضع حساس وخطير، فأولاً هي التي جاءت بالتغيير وفتحت الباب على مصراعيه لمشروع الحركة، وهذا له استحقاق كبير واجب السداد الفوري فالاحلال والابدال هنا لا بد وأن يؤدي إلى جملة تعقيدات حيث إن بعض وجوه هذه المؤسسة قد دفعت بهم الأحداث إلى صفوف المقدمة دون تدريب كافي أو سابق إعداد للمهام القادمة بل تشير بعض الروايات إلى أن عملية الاختيار لبعض أبرز وأخطر المناصب وقعت قبل أقل من 72 ساعة من التحرك (من بينها تحديد شخصية قائد التحرك نفسه) مما يجعل الأمر وكأنه مسئولية تقع بالمصادفة، أنظر قول د. أمين حسن عمر (الرئيس البشير لم يخطط لتولي الرئاسة. ولم يكن طامحاً إليها ولا طامعاً فيها. ولكن توافق الأقدار جاء به إلى هذا المنصب، مقال صحفي بصحيفة الرأي العام يناير2007م)، ثانياً هذه المؤسسة من الواضح أنها ووفق المعطيات الراهنة لن تتراجع أولويتها ضمن مشروع التغيير بل ستتضاعف أكثر الحاجة للإهتمام بها، وذلك لأسباب التأمين السابقة أيضاً لضرورات ملحة تتبدي في الأفق مثل الحرب التي كان الموقف فيها واحدة من طاقات الدفع للتغيير، الذي جعل الرأي العام العسكري يتقبل الإنقلاب بترحيب شديد فلم يتحرك أحد لاجهاض التغيير ومرد ذلك للإحباط الكائن في الجيش من القيادات السابقة الحزبية أو العسكرية(12). كذلك تجدر الإشارة إلى أن روح الثقة والتعاون التي يبديها قادة القطاع العسكري تجعل منهم أمناء بأكثر مما هو مطلوب، واضفاء حالة من الانسجام المعلن بين الشقين المدني والعسكري في الأمانة الخاصة.
القيادة العامة والتغيير:
تلك كانت الحركة الإسلامية وهي تقف على عتبات القيادة العامة للقوات المسلحة في صباح 30/6/1989م تنظر إلى هذه المؤسسة العريقة ـ الجيش ـ بكل ما تحمله من تاريخ ومواريث ضاربة الجذور، فكيف كانت تنظر هذه المؤسسة لمجريات الأمور في ذلك الصباح، يقول السر سعيد في كتابه السيف والطغاه الذي يعتبر وبحق أهم مرجع لعسكري محترف غير مسيس ـ وإن كان أقرب وجدانياً للإسلاميين ـ في صفحة 191 من الكتاب:
(القوات المسلحة صباح الثلاثين من يونيو، كأنما وُضعت في مهب ريح عاصف فاختلطت السبل، وانقسم الضباط إلى أربع فئات رئيسية:
الفئة الأولى/ المنكرون: كان الأمر بالنسبة لهم مفاجأة من العيار الثقيل نزلت عليهم كالصاعقة، ومعظم أعضائها من فئة الضباط اليساريين والاشتراكيين، وكانوا على يقين أنها عملية كبيرة ومبرمجة وتقف وراءها الجبهة الإسلامية.
الفئة الثانية/ الرافضون: وهم من كبار الضباط الذين يشكلون قيادات القوات في الأماكن المنتشرة في كل بقاع السودان وهم في السلم العسكري أعلى من قائد الإنقلاب، ويرون أن الإنقلاب نفسه ليس له مبرر وأن العميد عمر حسن قد وضع نفسه والبلاد والجيش في وضع صعب لا ضرورة له، وأنه جاء بتعقيدات يصعب قبولها حيث أدخل ضباطاً صغاراً ـ رتبة رائد ـ إلى مجلس الثورة مما يخل بالانضباط في مؤسسة عريقة لها تقاليدها ونظمها.
الفئة الثالثة/ الموالون: وهم الضباط الذين نفذوا العملية أو من كوادر التنظيم التي كانت في الخفاء ولم تظهر، فكان موقفهم مراقبة كل تحرك والتبليغ إلى قيادتهم في التنظيم السياسي عبر قنوات فتحت لهم.
الفئة الرابعة: الصامتون: أو ما يطلق عليه الأغلبية الصامتة وهم الفئة الأكبر والغالبية العظمى من ضباط الجيش، وهؤلاء كانت نظرتهم تتحول ما بين مؤيد صامت نكاية وشماتة في الأحزاب السياسية ومواقفها من الحرب في الجنوب، وبين معارض صامت لا يريد أن تتدخل القوات المسلحة بهذا الأسلوب. ويمضي العميد السر في توصيف ردة فعل هؤلاء الضباط وفق التصنيف أعلاه الذي يقارب الحقيقة إلى مدى بعيد: الفئة الأولى غلب عليها رد الفعل الغاضب فلم تحسب الأمور بطريقة صحيحة فكان مصير أعضائها إما الإحالة للمعاش بالجملة ومن الأيام والشهور الأولى بناء على قوائم كانت معدة مسبقاً من أجهزة المعلومات والرصد التابعة للجبهة الإسلامية قبل الإنقلاب، أو سجن أو مطاردة أو مراقبة. الفئة الثانية بعضها تحلى بالحكمة وآثر الابتعاد واعتذر عن قبول المناصب التي عرضت عليهم، مجموعة منهم رفضت هذا العمل وطلبت من قائد الإنقلاب أن يعيد السلطة للجيش حقيقة وأن يتم اختيار مجلس عسكري جديد ليس بالضرورة أن يكون عمر البشير عضواً فيه ـ أشار إلى أن هذا الرأي قال به اللواء مهندس أحمد النميري ـ في لقاء في القيادة العامة مع البشير، آخرون انتهازيون استغلوا الفرصة للصعود إلى أعلى برأي الكاتب. الفئة الثالثة كانت من أنصار النظام فكانت تحرس وتراقب كل من يحاول التحرك وتبلغ عنه. الفئة الرابعة: فئة الأغلبية الصامتة وجدت نفسها بعد أن تمكن النظام عاجزة عن القيام بأي دور فقامت بمسايرة الأحداث.
كان الجيش يمور بكل هذه التيارات فيما يشبه الفترة ما بين مايو96 ويوليو71 والتي انتهى الغليان فيها بالدم والنار، في مثل هذه الظروف كان يجب أن تتحلى القيادة العامة وهيئة القيادة بالإناءة والتعقل وتفادي ردود الأفعال.) انتهى السر.
الحركة الاسلامية والتغيير:
تكشف مسيرة السنوات التي تلت هذه اللحظة جدلية العلاقة التي تشابكت بين الجيش والحركة الإسلامية فالذي يجري حواراً هادئاً مع العسكريين المحترفين الذين لم تتلطخ جلابيبهم بالسياسة ونذروا أنفسهم للعمل العسكري الوطني، المحترفون بتجرد، تجدهم ينقمون على الحركة الإسلامية بسخط شديد بأنها استغلت الجيش مثل حصان طروادة (أو عن طريق رجال في الجيش) لاختطاف الوطن لمشروعها الذي بدأ أول ما بدأ بتدمير الجيش و”إذلاله” باعتباره رمزاً للقديم الذي تود أن تهدمه حتى تبني على انقاضه مشروعها السياسي الذي تنادي به، ويذهب بعضهم إلى اختلاق استراتيجيات موهومة بأن الترابي كان يريد أن يؤلف جيشاً من المجاهدين المدنيين الذين يكونون خفافاً عند الفزع لا تحدهم حجب ولا رتب وأن المؤسسة التقليدية الماثلة تقف حائلا دون هذا الطموح المارد. من جانبه د.الترابي لا يعين على دحض هذا التوهم الزائف بل يزكي تصديقه بكل طريقة وذلك من خلال سخريته المستمرة وإزدرائه الدائم لرجال الجيش والتعريض بهم حتى قبل المفاصلة المشهورة كما في ردوده على رئيس الدولة في جلسات البرلمان الرسمية وغيرها من القصص المتواترة مما خلف في آخر الأمر غصصاً يصعب تجرعها. وكان كثير من المشفقين يوجهون له النصح بأن لا يختصر الجيش في القيادة القائمة ويرمي عشرات الألاف من الذين قد يكنون له الاحترام داخل المؤسسة بجرم هؤلاء ـ إن كان جرماً ـ بل يجب أن يأخذ الأمر في اطاره فلا يجرف نفسه إلى مواجهة مع المؤسسة العسكرية بأكملها مما يسهل على الأخرين عزله ومن ثم ضربه.
على الضفة الأخرى من النهر تجد القيادات الكثير من قادة الحركة الإسلامية “المدنيين” يتحدثون عن أن الجيش قد خذلهم ( أو أخوانا الـ في الجيش هم أس البلاء) فما أن طابت لهم السلطة وتفيؤوا ظلالها حتى نسوا عهودهم ومواثيقهم للحركة، فانفردوا بالأمر وكانت البداية بالترابي الذي أعانهم عليهم ثم ما أن استقر لهم الوضع حتى استقلوا بكل شئ، فما أداروا الدولة وما أداروا حتى الجيش نفسه، وبزعمهم أن الذي ينظر إلى كل المشاكل التي وقعت في البلاد من انفصال الجنوب وانفراط الأمر في دارفور وحتى حوادث هجليج الرابط بينها هو ضعف إدارة مؤسسة القوات المسلحة وتدني فاعليتها في التصدي للأمور والسبب الرئيسي في نظرهم هو ضعفها وسوء إدراتها وقيادتها القائمة.
إذاً، فهناك فجوة واضحة (gab)، أولاً: في الرؤية ثانياً في التعامل مع هذا الخلل، فمن هو المسئول عن هذه الفجوة ـ the gab ـ ؟؟ أو بالأحرى من المستفيد منها؟؟ وفي شرح آخر المسئول هو المستفيد والمستفيد قطعاً سيكون هو المسئول.
الواقعة الأصدق تعبيراً حدثت في مطلع العام 1990م وبحسب روايات متواترة عن شيوخ في الحركة الإسلامية ـ من أعضاء مجلس الشورى المحلول ـ أنهم تنادوا كمجموعة من القيادات الإسلامية التاريخية وقرروا الذهاب إلى الرئيس البشير لمناصحته في بعض القضايا والظواهر التي برزت إلى السطح وتنبئ عن مؤشرات لأمور خطيرة إن تُركت تستفحل لذلك من رأيهم يجب حسمها في حينها، وكان هذا بعد شهور قليلة من نجاح التغيير، وبالفعل تم تدبير لقاء لهم مع الرئيس الجديد وبحسب الراوي فإن الرئيس قابل ملاحظاتهم وتصويباتهم بكثير من الدهشة وذلك كما قال لهم “إنه يشاركهم ذات الرأي ولكنه ـ أي الرئيس ـ اتخذ تلك القرارات باعتبار أنها مشيئة التنظيم ويظنها ما تقتضيه المصلحة من وجهة نظر العارفين وفق الخطط والاستراتيجية التي وضعت وأقرتها مؤسسات الحركة” !!. تكشف هذه الواقعة ومألات الأمور من بعدها إلى حجم وخطورة تلك الفجوة التي كان يحتلها السوبر تنظيم فظلت تتسع وتكبر إلى أن تحولت إلى ما يشبه الرمال المتحركة أو مثلث برمودا الجديد تبتلع كل التنظيم ومن ورائه الدولة وتفتك بكل من يعارضها أو يتقدم نحوها ومن ليس معها فهو بالضرورة ضدها، يروي د.التجاني عبد القادر في كتابه قصة طريفة وهي تعليق لدكتور الترابي على ما أثاره الأفندي في كتابه ابان عقد التسعينات عن قضية تضخم سلطات الأمانة الخاصة وتغولها على بقية الأجهزة الرسمية والشعبية كانت اجابة الترابي (عبد الوهاب يُكثر من المبالغة ومن هم هؤلاء؟؟ أليسوا هم إخواننا الصغار ديل!!) يعلق الدكتور التجاني (ص 124) بأن الترابي لم يدرك “خطورة ما توصل إليه إخواننا الصغار هؤلاء حتى وقعت الفأس في أم الرأس” وذلك باحكام سيطرتهم الكاملة على كل غرف القيادات وأدوات التحكم من سلطة مالية واقتصادية وأمنية عسكرية أو ما أسماه تحالف “الأمن والسوق والقبيلة”.
تغيير..إحلال وابدال:
ومع مرور الأيام كان هذا الجهاز يُحكم سيطرته على الحزب والدولة من خلال ثلاثة خطوط متوازية أساسية، مستفيداً من غياب الأمين العام فترة ستة أشهر قضاها في السجن كتمويه للعملية في فترة التحرك الأول ـ تجدر الملاحظة أن الترابي بقي فترة أطول من صادق المهدي والميرغني ونقد وأطول مما كان مقرراً له سلفا ـ عززت الأمانة الخاصة وجودها الأولي بالسيطرة على الأجهزة العسكرية (القوات المسلحة، جهاز الأمن، الشرطة) واحكام القبضة حولها وتعزيز المواقع من خلال الإحلال والإبدال المستمر باخراج العناصر المناوئة أو المزعجة و “تمكين” العناصر الموالية أو ذات المقبولية في التصرف ـ بصرف النظر عن اعتبارات الكفاءة والكفاية المهنية ـ فهاجس الأمن والتثبيت هو الأولى وقتها، وكان كل المطلوب ابتداءً هو تأمين العبور إلى الاستقرار وتقنين الأمر الواقع وشرعنته، ومن ثم في مرحلة لاحقة تعيين الكوادر التي تنفذ البرنامج الذي جاء التغيير أساسا من أجله، الخط الثاني هو التحكم في الميزانيات والموارد المالية باعتبار أن التعيين في وظيفة عامة لا أهمية له ولا جدوى منه إن لم تتبعه موارد وميزانيات تسند وتعين على التنفيذ مع الضائقة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، المجال الثالث هو التحكم في المعلومات وطريقة تمريرها، ومن ثم كان الاحتفاظ بقدر كبير من الكوادر ذات العلاقات المتداخلة في “الأحزاب الأخرى” أو الاتصال بالسفارات الأجنبية خارج الإطار الرسمي للأجهزة المعنية (جهاز الأمن، استخبارات الجيش، …إلخ) فكانت المعلومات الحيوية والحساسة في بعض الأحيان تُحجب ولا يُطلع عليها إلا بمقدار ( Pease meal) وبالتالي تجعل حامليها باستمرار شخصيات في دائرة الضوء والنفوذ وتفتح لهم الأبواب (وضح ذلك فيما تسرب من معلومات عن قضية كارلوس وكشفت كيف يتم تغييب القيادة السياسية والتنفيذية عن المعلومات الهامة راجع مراسلات تجاني عبد القادر وأمين حسن عمر والمهندس صلاح قوش في صحيفتي الصحافة والرأي العام يناير 2007).
بعد شهور بدأت عملية الانتقال البطيء بادماج هذه الأجهزة وتقنين وجودها في الأجهزة الرسمية، لكنها احتفظت بخطوط إتصالاتها الخارجية ومن ثم علاقات هذه الخطوط دافئة يجري استخدامها عند الحاجة إليها، فعلى سبيل المثال تأخر تولي مدير مركز معلومات الحركة مهام مدير جهاز الأمن لقرابة العام، ولكن بالنسبة للقوات المسلحة كان الأمر جد مختلف فتعيين الشخص الذي جيء به لقيادة التغيير في منصب القائد العام للجيش فيه الكثير من التعقيدات، نسبة لدرجة الانضباط العالية والتقاليد (كما أشرنا تكراراً) الموجودة داخل القوات المسلحة والتي بدونها ينفرط عقد المؤسسة وهو أمر بالغ الخطورة. لم يمر ذلك دون الكثير من التجاوزات التي وصلت إلى درجة العمليات الجراحية حيث اضطرت القيادة العامة إلى إحالة قرابة 450 ضابطاً جلهم أعلى في النظام العسكري والأقدمية من القائد العام الجديد (البشير ينتسب إلى الدفعة 18 وكانت الدفعة 14 ما تزال في الخدمة)(14) أقسي من ذلك كانت هيئة القيادة الجديدة أقدم في السلك العسكري من الفريق عمر الذي أصبح قائداً عاماً (تم تعيين الفريق اسحاق إبراهيم عمر من الدفعة 16 في منصب رئيس هيئة أركان الجيش) وكما هو معروف أن هيئة أركان حرب القوات المسلحة تجسّد أرفع مستوى في قيادة الجيش باعتبار القائد العام أقرب ما يكون إلى شخصية سياسية وعمله سياسي مهمته ربط الجيش بالقيادة السياسية (وزير الدفاع أو رئاسة الدولة ) فعسكرياً هم أعلى منه ولكن مع الوضع الجديد صار هو بحكم القانون والدرجة الوظيفية فوقهم، كانت النتيجة أنه مع هذا تعامل بطريقة حذرة في وضع شديد الحساسية.
مستويات القيادة والسيطرة:
صار هناك الآن ثلاثة مستويات على الأقل للقيادة والعمل واصدار الأوامر، يوجد بحسب السلسلة العسكرية قائد عام هو بحكم القانون أعلى سلطة في المؤسسة ولكن من الأمر الواقع هو أحدث من مرؤسيه في هيئة الأركان العامة التي هي الجهة الفنية التي تدير المؤسسة وفي الوضع الطبيعي تتلقى التعليمات والتوجيهات منه وهناك اعتبار حقيقي هو أنه أقل تأهيلاً وخبرة منهم (سنعرض لذلك لاحقاً لما خلفه هذا الواقع حتى بعد عشرين عاماً)، كذلك هناك هيئة القيادة الجهة الثانية فنياً ورسمياً وهي التي يجب أن تقود وتخطط وتدير الجيش بحكم القانون والسلطة الممنوحة لها ولكنها في حقيقة الأمر لم تكن كذلك بل كانت في حال المتلقي وفي بعض الأحيان “متلقي سلبي”، الجهة الثالثة هي مجموعة الضباط الذين قادوا التحرك وهؤلاء معظمهم من الرتب المتوسطة والأقل توسطاً (ما بين عميد وحتى رائد) وهم عدد كبير يتجاوز المئات لذلك من الصعب ادخالهم مجلس الثورة واعطاؤهم سلطة سياسية واعفاؤهم من العمل العسكري، مع حقيقة أن الحاجة الآن تزداد لاستمرارهم داخل المؤسسة لتثبيت النجاح الذي قاموا به بالاستيلاء على السلطة وحمايتها خاصة في ظل المهددات التي أطلت برأسها وسنشير إليها بالتفصيل. هذه الفئة على أهميتها ـ وبعد اختيار عدد محدود لم يتجاوز أصابع اليد ليكونوا أعضاء مجلس ثورة النموذج الأبرز لهؤلاء هو الرائد إبراهيم شمس الدين ـ فلا سبيل لديها إلى تولي القيادة مباشرة، فأصبحت تتجه إلى ممارسة السلطة عن طريقين الأول من خلال التنظيم السياسي وعبر الجهاز المدني الذي يعمل كوسيط اتصال بين القيادة السياسية ومؤسستهم (صديق فضل، حسن صالح،..إلخ) والثاني تحلق حول القائد العام باعتبار أن هذه أقرب السبل إلى التأثير على هيئة القيادة ويمكننا ان نسمي أيضاً بعض الأشخاص وذلك حتى نعطي صورة للمشاكل التي تفجرت من جراء هذه العلاقة الملتبسة (عبد الرحيم محمد حسين، الهادي عبد الله العوض، كمال علي مختار، …) أثبتت التجارب أن هؤلاء الضباط من هذه الجهة هم الأقدر على محاصرة أي مخاطر تتعرض لها السلطة فمثلاً عند محاولة 28 رمضان لم يتحرك القائد العام أو أعضاء هيئة الأركان لقيادة العمل المضاد،(15) بل جرت عملية اجهاض التحرك بهذه الفئة الوسيطة من الضباط الذين استدعتهم الحاجة في وقت الشدة إلى ركوب المخاطر خاصة عند تعرض مركز السلطة للخطر. أيضاً تجدر الإشارة إلى أن هذه الفئة الأخيرة وعلي خطورتها فإنها ترتبط ارتباطاً وثيقا بـ(السوبر تنظيم) مما يعني ترابط ووحدة المصير المشترك بينهما.
القفز بالزانة:
استمر هذا الوضع لفترة عامين كثرت خلالهما الأقاويل وأصبحت مثار التندر داخل الجيش خاصة كشوفات الإحالة إلى التقاعد التي أصبحت تصدر مرتين في العام بطريقة أقرب ما تكون إلى مفارقة المألوف، ولا يدري أحد من يصدرها حتى داخل هيئة القيادة، فمثلاً احالة ضباط وهم يخوضون معارك في الجنوب (كما حدث لضباط توريت مثل لطفي تربال وفريحة من معهم) تصدر برقيات بذلك وهم على خطوط القتال ويمكن تخيل الأثر المعنوي السيء عليهم وعلى زملائهم وقد كان الأجدر إعادتهم إلى الخرطوم أولاً، بعض الضباط عندما يتساءلون بطريقة رسمية ومن منطلق حقهم القانوني في معرفة الأسباب التي أدت إلى إحالتهم إلى خارج الخدمة كانت ترفض طلباتهم (راجع كتاب السر سعيد: السيف والطغاة، أورد قصة ضابط برتبة لواء التقى مصادفة في السوق بأحد أعضاء هيئة الأركان وجاءهم ضابط آخر أصغر وأبلغ اللواء بخبر مفاده أن برقية صدرت أمس باحالة اللواء للمعاش ولم يجده يعرف شيئاً، وعضو هيئة القيادة الكبير أنكر أنه سمع بمثل هذا، وغيرها من القصص التي لم تكن تحدث في جيش له سمعة ومشهود له بالانضباط، كان الضباط في فترة الرئيس نميري عندما يحال ضابط منهم برتبة لواء إلى التقاعد تتم إذاعته في نشرة الأخبار الرسمية).
وفي فترة قصيرة جاء التغيير في هيئة القيادات (تم استبدال الفريق اسحاق إبراهيم عمر بعد عامين بالفريق حسان عبد الرحمن وبعد عامين تم ترفيع حسان ليصبح وزيراً للدفاع وجئ بالفريق إبراهيم سليمان في رئاسة الاركان، التي مكث بها أربعة أعوام ثم أصبح بعدها وزيراً للدفاع، وحل الفريق سيد أحمد حمد الذي خلفه محله الفريق عباس عربي وتلاه الفريق أول حاج أحمد الجيلي الذي تزامن مع تعيينه تغيرات جوهرية في بنية قيادة المؤسسة (لتصبح لأول مرة هناك قوات برية وبحرية وجوية) من ثم خلفه محمد عبد القادر نصر الدين ثم جاء الفريق عصمت عبد الرحمن رئيس الأركان الحالي، بما يعني ثمانية قيادات في منصب هيئة الأركان العامة مع الإبقاء على القائد العام في مكانه، مرت ثلاثة وعشرون عاماً وهذه التناقضات تتعايش بين هذه الفئات الثلاث ـ التي ذكرناها ـ من السلطة في هذه المؤسسة الحيوية والحساسة، وبالتأكيد تعايشها كان يتم على حساب أشياء كثيرة أولها الانضباط والتسلسل الهرمي والكفاءة المهنية أو الوظيفية للمؤسسة وانعكاس ذلك على فعاليتها في المهام التي توكل إليها وفي مقدمتها الحرب والوضع الميداني على خطوط القتال الممتدة والتي سنشير إليها في حينه. فبعد أقل من عام ونيف ـ كما أشرنا في فصل آخر ـ يكون القائد العام الحالي قد مكث خمسين عاماً في الخدمة العسكرية قضى نصفها كقائد عام للجيش وهي أطول فترة يقضيها شخص في الخدمة العسكرية على الإطلاق في السودان حيث تعادل زمنياً ثلث عمر الجيش نفسه.
القيادة ودورها:
أفرزت البذرة الأولى لهذا الغرس ثمرة مرة فمن ناحية اعتاد القائد العام علي حقيقة أن هناك من يضع سياسات وخطط وهو دوره فقط تمريرها إما إلى مستوى أعلى ليناقشها وينقحها وبالتالي إعادتها له لتصديقها وصرفها كتعليمات (وهو بالطبع مستوى سياسي لأنه في قمة الهرم العسكري كما أنه رئيس الجمهورية) أو إلى مستوى أدني ليقوم بتنزيلها إلى قرارات فعلية تنفذ، ظلت هذه المعضلة أشبه بالعقدة في تكوين عقلية القائد العام بمعنى أنه يمتلك السلطة القانونية ولكنه يبحث دائماً عن من يتحمل المسئولية عوضاً عنه، ومن ثم تحمل الأخطاء عندما تقع وبالضرورة لكل عمل ناجح أو فاشل أخطاء ولكل أخطاء هناك من يجب أن يتحملها وبالتالي تترتب على ذلك محاسبته وهلمجرا (راجع أيضاً أمين حسن عمر الرأي العام يناير 2007 وقوله إن الرئيس يرفض أي انتقاد للجيش حتى وإن كان على صواب، ولم يشر أمين إلى أن تبعات الاعتراف بهذه الأخطاء التي يجب أن يُسأل عنها القائد العام وليس من منطلق عصبية مهنية كما أشار).
الكثير من القصص والروايات التي تتسرب من داخل أروقة اجتماعات القيادة العامة توضح الكثير عن طريقة اتخاذ القرارات خاصة الإدارية منها وما يستتبعها من كوارث سياسية وبشرية أو ما ينتج عنها من تبعات، كلها تعود إلى سبب أو آخر ذي علاقة بالوضع المختل الذي أشرنا إليه، من أبرز الروايات الموثقة تلك التي أوردها السر سعيد عن قرار إعادة الجرارات إلى ملكال، كذلك ما رواه عند حضور القائد العام لـ “اجتماع تنويري” في غرفة العمليات إبان صيف العبور وكيف تم شرح الموقف أمامه بطريقة مرتبكة من ضابط صغير وتساءل العميد السر الذي كان يتولى منصب مسئول شعبة العمليات الحربية في القيادة العامة والذي خدم مع قادة كبار أمثال عبد الماجد وعثمان عبد الله والسر أب أحمد، لماذا لم يقم رئيس الأركان أو أحد نوابه بتقديم التلخيص للقائد العام وسمحوا بهذا المستوى المتواضع من المعلومات التي بدأ فيها التناقض دون شرح أو توضيح؟؟ ثم كيف يقبل القائد العام منهم ذلك؟؟ فرد عليه زميله العميد عبد القادر مهدي وكان إلى جواره (هم عايزنه كده!). كان من الواضح أن القيادة السياسية تريد أن تكون هيئة القيادة مطاوعة حتى لا تتكرر تجربة الصراع بين جنرالات مايو (1982م) الذين واجهوا نميري بالفساد وسوء الإدارة مثل الفريق عز الدين علي مالك وبدوي المبشر وغيرهم وذلك لخوفهم من شخصية القائد العام الذي قد ينصاع أو يركن بعض ما يقوله له العسكريون.
الجيش العمليات:
مع سياسة النظام الجديد التي أعلنها والتي لا تبدو فيها آفاق حلول ناجعة لقضية الحرب في الجنوب بطريقة سلمية، ومن جهة أخرى هناك استمرار المهددات الأمنية والخوف من وقوع تغيير آخر في السلطة من التنظيمات السياسية والأحزاب خاصة تلك التي لها امتدادات (خلايا) داخل الجيش تتحرك بحسب التقارير التي ترد خصوصاً من خارج مظلات الأجهزة الرسمية، كان الجيش يتفاعل ويمور والتبديل في القيادات والأسماء لا يأتي بجديد دون منحهم سلطة كافية أو اطلاق يدهم بطريقة حقيقية لإدارة الأمر دون تدخل. كان الانعكاس الأبرز للتناقضات التي أشرنا إليها في بنية المؤسسة العسكرية بأعلى تنعكس بصورة مباشرة على الأرض في الميدان، فكانت هيئة القيادة في مكان، والقائد العام في مكان، والأوضاع على الأرض تدار بطريقة مختلفة عن المكانين المشار إليهما، حيث يرى الضباط والجنود مثلاً الزيارات المتتالية لوفود لا هي (سياسية ولا عسكرية)، فقطعاً لم تكن تأتي للتوجيه السياسي والحديث عن الاستراتيجيات وتكتفي بذلك بحساب أن هؤلاء الأشخاص يمثلون سلطة سياسية، ولا هي وفود عسكرية تمثل مستويات قيادة الجيش الطبيعية مثل (القائد العام، رئاسة الأركان، …إلخ). فهم أشخاص بحكم الإنتماء المؤسسي عسكريون، ولكن الصفات والألقاب التي يحملونها سياسية، والمهام التي يحضرون إلى الميدان بشأنها عسكرية محضة (مثل المقدم إبراهيم شمس الدين الذي يرافقه في العادة اللواء محمد أحمد مصطفي الدابي والعميد الفاتح عروة) حيث دأب هؤلاء على زيارة المواقع الأمامية وتلقي التقارير الميدانية واصدار التوجيهات والتعليمات للقادة، أما الهيكل التنظيمي الراتب في المؤسسة أو المسئولية المتدرجة فأصبحت شبه متوارية، في مرحلة لاحقة تم تعيين الدابي عضواً في هيئة أركان الجيش وعروة وزير دولة بوزارة الدفاع وإبراهيم شمس الدين مستشاراً لشئون الدفاع وكان ذلك مثار تندر من أهل المعرفة كيف يستشير البشير وهو جنرال برتبة فريق خدمته العسكرية تقارب الثلاثين عاماً ضابطاً برتبة مقدم وكل مدة خدمته في الجيش لا تتجاوز الست سنوات. ولكن هذا التقنين للشخصيات لم يحل مشكلة المؤسسة لأنه منح ألقاباً لأشخاص وأبقى جذور المشاكل والقضايا مواربة دون حلول ناجعة، (من الإنصاف ذكر أن إبراهيم شمس الدين لم يكن يتدخل في خطط القتال أو إدارة المعارك وكان رجل حسن الاستماع يركز كل مجهوده في استغلال موقعه السياسي في دفع احتياجات القتال والإمداد دون عرقلة الإجراءات البيروقراطية المعهودة في الدولة، كما شهد بذلك حتى خصومه من الضباط).
الرهان علي الزمن:
مع منتصف التسعينات استمر هذا الوضع ومع تعذر وصول القيادة السياسية في البلاد إلى حلول سلمية للقضايا الوطنية العالقة (قضية الجنوب، إعادة الديمقراطية، تبني نموذج في الحكم الراشد، إصلاح البنيات التحتية، التحدي لدول الجوار والغرب،…إلخ) انعكس كل ذلك على الجيش ورمت كل تلك القضايا بأثقالها على كاهل هذه المؤسسة التي كانت تعاني بأكثر مما تستطيع أن تقدمه، فاتسعت محاور العمليات من جنوب السودان بمناطقه العسكرية الثلاث (أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية) لتعود جنوب النيل الأزرق مرة أخرى في نطاق الحرب ومعها طول الشريط الحدودي الممتد حتى تخوم البحر الأحمر (مناطق عقيق) على امتداد حدودنا الدولية مع إثيوبيا وإرتريا، لتدخل لأول مرة منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية مناطق شرق السودان كمنطقة عمليات حربية (كما أشار معلق عسكري أن هذا أطول خط مواجهة مسلحة ما يعادل ضعف خط ماجينو الشهير في الحرب العالمية الثانية)، في مرحلة لاحقة دخلت دارفور التي تحولت من عمليات أمن داخلي إلى حروب الدول وذلك من خلال دخول الهجمات المتبادلة بين السودان وتشاد وليبيا ودولة جنوب السودان، كل هذه الأثقال كما أشرنا تجد القوات المسلحة نفسها في قمة الصراع والملاذ الأخير الذي يقع عليه عبئها. فما هي عدتها لمواجهتها وكيف تصرفت في الأمر؟؟
يجب تسجيل ملاحظة مركزية أنه مع بروز تحديات الحرب بتجلياتها المستعرة من تمرد توريت أغسطس 1955 ومروراً بـ حرائق 1964-1968-1983-1989 وحتى سقوط هجليج أبريل 2012م لم تتغير نظرة الجيش ـ الفئة الغالبة فيه ـ للوطن أو العكس مع كل الفوارق التي يمكن أن تحصى في التطورات التي وقعت بين هذه التواريخ أو بين كل على حده، الأمران اللذان يستوجبان النظر معلمين بارزين يغيران من رصد هذه التواريخ وتفاصيل وقائعها، الأول تغير العقيدة القتالية في فترة التسعينات ودخول مفهوم الجهاد والثانية انفصال جنوب السودان مع وقوع الحروب في الأطراف (دارفور ـ النيل الازرق ـ جبال النوبة ـ الشرق،..إلخ) بطريقة تدعو للنظر والدارسة.
أزمة القيادة (السياسية والعسكرية):
يجب أن نسجل حقيقة وهي أننا لا يمكن أن نأخذ الجيش بمعزل عن ما يجري في مؤسسات الدولة الأخرى أو تقاطعات الصراع السياسي خارجه بل هو يعتبر وبصدق أبرز ما تتجلى فيه هذه الأزمات ويكون بالتالي الضحية الحقيقية لها، إن أزمة القيادة السياسية للدولة أو الحزب والتي تجلت في تغييب مبدأ المحاسبة والمساءلة والتي هي إنعكاس طبيعي لتوزع وتنوع مصادر ومراكز القرار في الحزب والدولة أيضاً مما أدى إلى تمييع شديد في المسئوليات والإسراف في استخدام المبررات (كما أشرنا إلى هذا في أكثر من فصل من هذا الكتاب، راجع فصل أزمة القيادة). على النطاق العسكري جاءت البداية بعمليات صيف العبور التي جرت فيها أفاعيل، ترقى إلى مستوى جرائم الحرب لولا أن الضحايا كانوا من أفرادنا وجنودنا، إن كان العرف والقانون يطالبنا بالمحاسبة على أي إنتهاكات تقع على المدنيين أو العزل أو الأسرى فمن باب أولى جنودنا وضباطنا ومن يقاتل في صفنا. القضية الثانية في أزمة القيادة هي إنعدام المرجعية وغيابها التام حيث القائد العام هو نفسه القائد الاعلي-رئيس الدولة ولمدة تصل الي ربع قرن، لتكون العلاقات الشخصية هي العاصم وبالتالي التي توفر الحماية الذاتية وليست المؤسسة أو لوائحها ونظامها الداخلي.
إن القائد العام الحالي وقد أمضى قرابة ربع القرن في منصبه ونصف قرن في الخدمة العسكرية جرت عليه عوادي الزمن بما يجري على البشر وسارت فيه السنن بما يستوجب التوقف والتدبر فأصبح ولاء الأشخاص أهم من كفاءتهم وتأمين السلطة فوق فاعلية المؤسسات وحماية الوطن، ولكن القضية هي أن القيادة الحالية ولا حزبها هو من يدفع ثمن ذلك بل يقوم بدفع الضريبة نيابة عنهم الوطن والشعب والأجيال القادمة، إن تفويض القائد العام مهامه بالثقة الشخصية إلى أشخاص ليس لديهم الخبرة الكافية أو الحد الأدنى من المؤهلات المطلوبة، هي قضية تستوجب النقاش والمراجعة ان لم يكن المساءلة والحساب فوصول فني هندسة جوية أو ضابط مظلات من رتبة المقدم إلى رتبة الفريق أو الفريق أول دون صقله بدورات تأهيل قيادي أو زمالة حرب أو دفاع تصبح ظلماً وذبحاً له قبل أن تكون جريمة في حق المؤسسة التي يراد منه قيادتها، فقد غادر هؤلاء سلك العسكرية وانشغلوا بالسياسة فلم يعد لهم في الجيش مكان، وحتى في الفترة التي كانوا فيها ضباطاً كانوا في رتبة وسيطة ولا يوجد في سيرتهم ما يبشر بملكات قيادية أو تميز مهني. وقد كان النميري يرفض اعادة أي ضابط إلى الجيش إذا غادر السلك العسكري إلى أي منصب سياسي أي كان في المحافظات أو الوزارة أو غيرها، لذلك ظل رجال أمثال زين العابدين عبد القادر وأبوالقاسم هاشم وغيرهم برتبهم التي كانوا عليها ليلة الإنقلاب إلى أن غادروا الحياة، وذلك لأمر جوهري وهو أنهم بعد أن تذوقوا السلطة واصدار التعليمات وما داخلهم من روح مدنية في النقاش والحوار لن يستطيعوا العودة إلى سلك الجندية الصارمة التي تستوجب الطاعة العمياء والعمل دون نقاش (وفق شعار العسكريين أنفسهم نفّذ ثُم ناقِش) بعكس السياسي الذي يريد أن يناقش كل كبيرة وصغيرة وهو ما يخل ويؤثر على منظومة “الضبط والربط ” داخل الجيش وهو عماد استمرار المؤسسة.
النميري ربما كان لديه اعتبار من الخطأ الفادح الذي قام به عبد الناصر عند اعتماده على الثقة الخاصة في عبد الحكيم عامر دون النظر إلى كفاءته المهنية، فعامر الذي وجد نفسه قائداً عاماً للجيش المصري بكل ثقله وواجباته الوطنية والقومية (من تأمين سلامة الأراضي المصرية إلى دفع خطر قومي يتهدد الأمة العربية) وهو كل مستوى علمه العسكري ضابط برتبة الرائد ـ الرتبة التي كان يتقلدها عند قيام ـ ترقى عبد الحكيم كما هو معلوم من رائد إلى رتبة اللواء بقفزة واحدة ثم رتبة المشير في سنوات معدودة، فكانت النتيجة خسائر مادية وبشرية مصرية مهولة في حروب اليمن وفي انفصال سوريا وجاءت الطامة الكبرى في نكسة يونيو 1967م التي كانت خطأً فاصلاً في نهاية الحماية السياسية التي كان يوفرها له جمال عبد الناصر فاضطر إلى ابعاده وجئ بالضباط المحترفين من أمثال محمد فوزي وعبد المنعم رياض ومحمد أحمد صادق. إن العلم والخبرة يجب أن تكون عمدة الترجيح في اختيار القادة كما يقول سعد الدين الشاذلي (راجع مذكرات الشاذلي أو مذكرات عبد المنعم واصل عن 67)، بالنسبة للجيوش فإن منطق الولاء لا يفيد لأن النتيجة تكون خسائر مادية والخسارة في البشر لا تعوض (يمكن تعويضها عدداً ولكنها بالتأكيد لا تعيد الحياة لمن رحلوا رجال أمثال العميد عبد المنعم الطاهر أوالعميد عبد الجليل أو مختار محمدين أو خميس انجليز أوغيرهم من خيرة من أنجبت الأرض السودانية)
بيان بالعمل:
تجلت نكسة القيادة الحالية للجيش في ضربة أم درمان (10 مايو 2008) التي كشفت بجلاء ـ بصورة أكبر مما وقع في هجليج ابريل 2012 ـ الانكشاف الواضح في القيادة والتخطيط للعمل العسكري الذي ترك إلى غير أهله، والحقيقة أن هذا النموذج تكرر في عدة مدن سودانية من قبل حدث ذلك في هجومي جوبا المعاكس (يونيو ويوليو على التوالي1992م)، أيضاً حدث في الهجوم على مدينة كسلا في عام 1998 الذي نفذته حركة قرنق مع تجمع أسمرا وقاده توماس سيرليوا، كذلك هجوم الفاشر الذي قاده مني أركو مناوي في نوفمبر 2004م.
إذاً النتيجة في محصلتها النهائية ليس خطأ فردياً معزولاً يمكن تجنب تكراره بل سلسلة أزمات مستمرة، إن وقوع ذلك في منطقة عمليات تمتد خطوط القتال المتواجهه فيها مع العدو الذي قد يركز هجماته بالضغط علي نقاط ينتخبها يُعتبر مما هو متوقع ويمكن ان يقع فيه اختراق هذا ليس بدعاً عن كل جيوش العالم، إلا أن حدوثه في مركز السلطة وعاصمة البلاد التي تبعد الالاف الكيلومترات من الحدود كان يستوجب أكثر من التبرير الفطير الذي قدمه وزير الدفاع للبرلمان عندما جرى استجوابه (لقد استدرجناهم إلى العاصمة حتى نسهل القضاء عليهم داخلها). أو تبريره لقصور الدفاع الجوي في سماء ثغر البلاد “ان الكهرباء كانت مقطوعة وان الضربة تزامنت مع أداء صلاة العشاء”.
لقد كشفت التحقيقات التي أجريت بعد ذلك والتي أريد بها قتل الموضوع الكثير من التفاصيل المثيرة عن سوء إدارة الوزير للقوات ـ الذي يقوم بأعباء القائد العام بالوكالة ـ وطريقة تعامله مع مرؤسيه وعدم انقيادهم له مما اضطر بعض القيادات السياسية إلى الاتصال بالرئيس عدة مرات لطلب عودته للبلاد في هذا الظرف الحرج لأن كبار الضباط لا ينصاعون لتعليمات الوزير ولا يضعون وزناً لكلامه، من ناحية أخرى أوضحت هذه الأزمة مؤشرات لو تدبرها أهل الرأي في السلطة لكان خليقاً بهم تجنب مزالق وفواجع تلت أبرزها ما وقع في هجيليج، لن يكون آخر الكوارث بكل المؤشرات لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه، ومن أهمها الخلل البائن في منظومة القيادة السياسية واتصالها بالعمل العسكري، وأوضح نموذج لذلك تلكؤ الرئيس في العودة إلى الخرطوم حال كشف معلومات عن هجوم وشيك على عاصمة سلطته حتى بعد إذاعتها في الراديو والتلفزيون وركونه إلى نصائح غير أمينة من مقربين منه، بعدم الاكتراث ومواصلة الرحلة التي كانت بالأساس لغرض غير رسمي، بل وفي درجة ثانوية جداً من الأهمية (من بين هؤلاء مسؤولون كبار جداً في الخرطوم نفسها). النموذج الثاني هو تصرف القيادة السياسية الموجودة التي تولت إدارة الأزمة ـ نائب الرئيس ومساعد الرئيس ووزير المالية ولحق بهم وزيرا رئاسة الجمهورية والدفاع ـ واتخاذهم مقر جهاز الأمن كمركز قيادة ومتابعة أثناء سير العمليات على جسر أم درمان، وهم كانوا بالأساس في القيادة العامة للقوات المسلحة ولكن مع بداية الإشتباك غادروا مباني القيادة العامة للجيش إلى مقر جهاز الأمن، وما مثله ذلك من لجوء إلى قوة ثانية أثناء سير القتال مما فتّ في عضد القوات التي كانت تقاتل، كذلك وبطريقة غوغائية تُركت وسائل الإعلام الرسمي والشعبي تتحدث عن دور القوات الضاربة لجهاز الأمن في صد الهجوم والمباهاة به، وهذا في الحقيقة غير دقيق أو غير أمين. صحيح أن قوة جهاز الأمن المسلحة كان لها الفضل الأكبر في عمليات التمشيط ومطاردة العدو خارج المدينة واستفادت في ذلك من خصائص تكنولوجية تعمل بالأقمار الصناعية كانت متاحة لها ولم يكن الجيش علي علم بها، وصحيح أيضاً أن قيادات في الجيش في ظروف الارتباك تلك تأخرت في تحريك قواتها في الوقت المناسب، وصحيح أيضاً أن بعض القوات التي تمركزت خارج المدينة لتقوم بأعمال اعتراضية كانت في مواضع غير مناسبة تماماً، مما مكّن العدو من تخطيها بسهولة شديدة في طريقه نحو هدفه الرئيسي الذي كان ينشده، وصحيح كذلك أن التموضع غير المناسب هذا جاء نتيجة لقراءات خاطئة من إستخبارات الجيش التي فشلت في تقدير “الافتراضات العدائية” الصحيحة للخصم المتحرك كما يقولون. ولكن غير الصحيح وغير الأمين هو أن صد الهجوم قامت به قوة جهاز الأمن!! ولو كان هذا صحيحاً لتم خارج المدينة التي دخلها العدو بكل سلاسة وفي وضح النهار وظل يتنقل ويتقدم داخلها، إلى أن تحققت فيه المفاجأة الاستراتيجية والتي عكست إتجاه حركته وجعلته يولي الأدبار، ألا وهي ضربة المدرعات التي قامت بالعمل الاعتراضي الرئيسي على مداخل جسور المدينة بطريقة باهرة وأحدثت في العدو تلك الخسائر الفادحة ومن ثم أجبرته على التشتت والتراجع غير المنتظم وبذلك الفشل العسكري للعملية التي حققت أهدافها السياسية تماماً مثل عملية هجليج الحالية، وفي كل عبرة أن القيادة العامة تعاني من خلل أساسي أولاً يتمثل في القائد العام فكراً وممارسة، فغياب مبدأ المحاسبة والتحقيق النزيه غير المغرض كما أشرنا والذي لو قام به في العام 1992 في ضربة جوبا الأولى لما وقعت الثانية ولا كسلا ولا الفاشر ولا أم درمان ولا هجليج ولا ندري ما بعدها، هذا ما يمكن أن يقال عن أحداث عايشها الناس وسمعوا بها في العلن وكان التقصير فيها كالشمس في رابعة النهار، اما لو أردنا أن نتدبر الأحداث الأخرى مثل حادثة طائرة C130 التي كانت تقل سرية المظلات وتحطمت على مدرج مطار جوبا في عام 1992م، وتمت مكافأة الجناة فيها بالترقية إلى دخول هيئة القيادة والاستوزار، كذلك عمليات الأمطار الغزيرة والخسائر التي وقعت فيها وكيفية معالجتها ـ إن كانت قد جرت معالجة ـ في نوفمبر وديسمبر1995م كيف وصلت خسائرنا في كمين واحد يوم 16/11 إلى مئات الشهداء والجرحى؟؟ أو انسحابات النيل الأزرق والاستوائية في عمليات العدوان الثلاثي 1997م، أو متحركات دارفور المتكررة التي أصبحت مثار حديث القاصي والداني بطريقة موجعة ومؤلمة تخدش في كبرياء أهم مؤسسة ضامنة للوحدة والسيادة الوطنية فيما تبقى من وطن(16).
إفرازات الوضع:
لقد بدأت تظهر أشياء لأول مرة في تاريخ القوات المسلحة مثل مسألة تشتت الأطواف (القوات المتحركة) وافرازاتها فيما يسميه العسكريون “المفقودين” فمثلاً في دارفور وما صاحبها من قضايا مذلة للكرامة الوطنية، من مساوات عصابات النهب بقواتنا الوطنية بل وتجرأ بعض الحركات المسلحة هذه على أسر ضباط من الجيش بينهم ضابطان كبيران، الأول برتبة لواء في أثناء ضربة الفاشر 2004 والآخر عميد في اكتوبر 2006 قامت قبائلهم (الأول من قبيلة المسيرية بكردفان، والثاني من قبيلة البطاحين من وسط السودان) بالتوسط لإطلاق سراحيهما في ظاهرة تكاد تكون مهينة للدولة والشعب وغياب تام للقيادة العامة التي أصبحت مشغولة بالمباني وشراء المعدات فقط وكأن ذلك يغنيها عن القتال ويردع العدو المتربص، إن تجارب التاريخ تعلمنا أن مثل هذه التصرفات تفقد أفراد المؤسسة الثقة في قيادتهم وبالتالي تنعدم لديهم الرغبة في القتال وتلك أول الخطوات نحو الهزيمة.
تماسك القيادة:
الصراع بين الفئة الأولى والثانية انتهى تدريجياً ومع الوقت لمصلحة الفئة الثانية وذلك تحت جناح وحراسة القيادة السياسية، ولكن النتيجة كانت وبالاً على المؤسسة العسكرية التي فقدت الكثير من هيبتها بصعود من لا خبرة ولا دراية لهم بالعمل الإحترافي إلى أعلى سلطاتها، يتمتعون كما ذكرنا بحماية السلطة الفوقية، فأصبحت المحسوبية والقفز بالزانة والفساد غير المرئي سمة غالبة في مؤسسة أعدمت في يوم من الأيام أحد ضباطها في مخالفه مالية ـ في العام 1994م حكم القضاء العسكري بإعدام ضابط برتبة عقيد لإختلاسه مبالغ مالية كبيرة مع إقرار الشئون المالية بوجود ثغرة في النظام المالي أتاحت له ذلك إلا أنه جرى تنفيذ الحكم عليه ـ لقد كان لهذا الوضع ـ وجود قيادات فوق المحاسبة ـ والنهج في الإدارة انعكاسات سلبية للغاية على النظام (System) فلم يعد الإرتباط بين أفراد المؤسسة ومنسوبيها كما كان، وباختلال النظام تصبح الغلبة للاقوى، وتعريف القوة هنا يرتبط بمستوى السلطة الأعلى وطريقة التواصل معها ومقدرة الموارد المالية في الاختراق وغيرها من أدوات السلطة الميكافيلية التي صارت تشكل قانون اللعبة، بقى كل العالمين ببواطن الأمور يترقبون لحظة الصدام الوشيك بين الفئتين المشار اليهما بأعلى، اللتين تشكلان عظم الظهر في سيطرة قيادة الإنقاذ على الجيش وبالتالي الدولة، الأولى أضحت بحكم القانون تمثل قيادة المؤسسة (عبد الرحيم، بكري،..إلخ)، والثانية تمثل بحكم الأمر الواقع القوة الفعلية المسيطرة في الأرض على الجيش، وتقاطعت الطرق بينهما في مساء الإثنين 28 من مارس 2011م حينما قام ضباط سلاح المدرعات بالخرطوم منطقة الشجرة العسكرية بإغلاق بوابات السلاح ووضع كل القطع المدرعة في وضع الاستعداد الأقصى للتحرك القتالي بما في ذلك المواقع الخارجية للدبابات داخل إقليم العاصمة والتي تنتشر في المرافق الاستراتيجية (18) (يقسم الجيش العاصمة القومية ولأغراض التأمين إلى مناطق عسكرية هي: القيادة العامة ومنطقة الشجرة وجبل الأولياء وسوبا، وشمبات وشرق النيل في الخرطوم بحري، وادي سيدنا والقاعدة الطبية أم درمان، راجع السر سعيد) بما يتفرع من ذلك من مداخل ومخارج العاصمة والجسور والقصر الجمهوري ومجلس الوزراء والمطار وكل المرافق الحيوية. شمل التحريك ووضع الأطقم المدرعة في الجاهزية القتالية الأعلى مع تشوين الدبابات من الساعة السابعة والنصف مساءً وحتى السابعة صباح اليوم التالي، وذلك على أثر خلاف بين قائد السلاح اللواء صديق فضل والوزير عبد الرحيم حسين، اللواء صديق هو الشخص الأول في التنفيذ لعملية 30 يونيو 1989م في سلاح المدرعات جنباً إلى جنب مع ابن دفعته الرائد إبراهيم شمس الدين، ويُقال إن مفاضلات جرت ظهر الثلاثين من يونيو لاختيار أحدهما ليكون عضواً في مجلس قيادة الثورة، ورجحت كفة إبراهيم لأن الأولوية كانت لتأمين سلاح المدرعات، بالتالي كان اختيار صديق ليبقى بالسلاح، فإبراهيم رغم دوره الكبير في عملية التغيير إلا أنه كان قد عاد للخدمة العسكرية قبل أقل من ثلاث سنوات بعد إتهامه بمحاولة إنقلابية احيل على إثرها للتقاعد في مطلع الثمانينات، في حين أن صديق لم يترك الخدمة مما جعله يعرف كل أفراد السلاح ذوي الأهمية الاستراتيجية في “تأمين الثورة”، بهذه الوضعية كان صديق وضباطه من حوله ينظرون لوضعهم شركاء في الثورة وما تستتبعه هذه الشراكة من مسئولية وسلطة في حين كان عبد الرحيم يرى أنه لا يجب أن يملوا عليه تصرفاتهم.
تصاعد الخلاف فقامت القيادة العامة بنقل صديق إلى حامية خشم القربة مما اعتبره ضباطه استفزازاً من عبد الرحيم بأن يرفع سيف السلطة في مواجهتهم وهم الذين يحمونه، حينها ارتفعت حرارة الموقف لتصل إلى درجة التهديد وإنذاره من عدم الإقتراب من أسوار السلاح، تصادف في ذلك الوقت أن بعض المنشآت الخدمية كانت على وشك الإنتهاء وتقرر أن يقوم الوزير بزيارة للسلاح لافتتاحها وجرى تحديد يوم الثلاثاء 29 مارس 2011 للزيارة، الذي يصادف نفس يوم سفر كان مقرراً للرئيس أن يغادر فيه فجراً إلى دولة قطر. عقب صلاة المغرب حوالي الساعة السابعة والنصف مساء وصلت معلومات بوضع الدبابات في حالة الاستعداد القتالي إلى القيادة العامة (19) مساء الاثنين تحسباً لزيارة الوزير في الظاهر، ولكن الأمر والحركة النشطة في معسكر الشجرة والمواقع الفرعية التابعة لها كانت تنبئ بما هو أكثر من ذلك، على الفور جاء تقرير نقله ضابط من جهاز الأمن إلى الوزير بأن هناك مخططاً لإعتقاله صباح غد عند دخوله بوابة سلاح المدرعات وفي غياب رئيس الدولة ـ الذي سيكون صباح ذلك الغد في طريقه إلى الدوحة ـ يصبح هناك “فراغ” يمكن أن يملأه من هو جاهز. جرى اخطار الرئيس بتلك المعلومات التي توفرت فقام بإلغاء زيارته إلى الدوحة وباشر اتصالات بنفسه بالضباط الثائرين على وزيره، نجح بعد وساطات عديدة قام بها وزيران كانا أعضاءً سابقين في الجهاز المدني الذي ذكرناه بالأعلى في اقناع اللواء صديق بمرافقتهم للقاء الرئيس في بيته وذلك حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. استمر اجتماع الرئيس واللواء صديق منفردين لأكثر من ساعة ونصف الساعة، استمع الرئيس خلالها إلى مظلمة هؤلاء الضباط ووعدهم كما هي العادة بأنه سيقوم بحلول عاجلة ناجزة ـ لم يتحقق أي وعد من ذلك بل ذهبت أدارج الرياح ـ وطُلب من صديق العودة إلى وحدته وتخفيض درجة الاستعداد إلى الوضع الطبيعي وقال له الرئيس إنه سيقوم بافتتاح المنشآت بنفسه بعد غد وهو ما قد كان.
هنا لا بد أن نتوقف لنعيد قراءة المشهد الذي يكشف كل أزمة القيادة التي أشرنا إليها في هذا الفصل والفصول الأخرى من الكتاب وبالتحديد أُنظر إلى ضباط في وحدات عسكرية ثائرين مدافعهم معبأة بالذخيرة الحية في حالة تشبه التمرد على قيادتهم العسكرية، وعن طريق شخصيات مدنية لا يثقون في غيرها يقابلون الرئيس وبعد نهاية اللقاء يخرج قائد التمرد المزعوم ليستقل سيارته ويعود إلى بيته الذي تحول في تلك اللحظات إلى قيادة عامة أخرى. ثانياً هل كانت هذه المعلومات التي نقلت للرئيس دقيقة؟؟ بلا شك كان فيها شئ من الصحة مثل مسألة رفع درجة الاستعداد ووضع الآليات موضع القتال والتذمر الذي ساد سلاح المدرعات في تلك الليلة كامتداد لحالة القلق المتبدية في البلاد وانعكاسها في الوضع بصورة عامة داخل الجيش، لقد كان ضباط الجيش يحسون بضعف قيادته وتبعات ذلك في تدهور موقف العمليات في دارفور والانسحاب المهين من الجنوب بعد كل القتال الضاري الذي خاضه الجيش فيه وبعد سيل الشهداء والجرحى، كذلك الحراك الإقليمي المتمثل في ثورات الربيع العربي في ليبيا ومصر وتونس، بالاضافة إلى الضائقة الاقتصادية الخانقة التي كانت تضرب كل الشعب والإحساس الرهيب بأن القيادة السياسية للبلاد قد غُرر بها في سلام ساذج ولم تنل منه غير قبض الريح والجنوب الذي هو في طريقه للانفصال بعد إنتهاء عملية الاستفتاء واليأس من المعارضة المدنية والتوق العارم للشارع للتغيير ولكن دون عودة للوراء، كانت تلك أبرز سمات المشهد العام الذي وقعت فيه هذه الأحداث لذلك كانت بقية المعلومات التي أوصلها ضابط جهاز الأمن إلى الرئاسة تلك الليلة بها قابلية كبيرة للتصديق وإن كان قد خلط بصورة فيها الكثير من الحذق الحقيقة بالوهم والخيال الأقرب للواقع فلم يكن لدى هؤلاء مكتوب أو مسودة لأعضاء مجلس عسكري أو غيرها من مؤشرات الإنقلاب، كذلك قوله بأنهم سيتحركون لملء الفراغ وغير هذا من إفادات ضابط جهاز الأمن التي جاء بها فلا شك أنها كانت محض اختلاق بدليل أن اللواء صديق اجتمع بالبشير في بيته تلك الليلة واستقبله بنفسه في مركز قيادته بالشجرة في اليوم الذي يليها، ومرت الأزمة بسلام ولو كان هذا التحرك يتجه نحو التغيير لما استطاع اجتماع في الدقائق الأخيرة توقيفه والقضاء عليه بهذه السهولة. فالتحرك الإنقلابي يشبه التمرد العسكري على السلطة القائمة ما أن تدور عجلته فلن تتوقف وتأخذ صاحبها إما إلى القصر أو القبر لا خيار ثالث بينهما، واللواء صديق ليس بالرجل الساذج الذي لا يدرك هذه المعضلة البسيطة، بل أي قراءة عجلى لسيرته الذاتية تؤكد أنه من العارفين ببواطن هذه الأمور فقد شارك في انقلاب ناجح وهو انقلاب الثلاثين من يونيو الذي جاء بالبشير إلى السلطة، وساهم في اجهاض إنقلاب 28 رمضان الذي ظلت قوة المدرعات المشاركة فيه تحت قيادة اللواء الكدرو مسيطرة ومتحفزة حتى ظهر اليوم التالي من التحرك، أي أنها ظلت متمسكة بمواقعها لأكثر من عشر ساعات بعد إجهاض التحرك والقبض على كل المنفذين وعلمهم بذلك.
لقد بدت القصة وكأنها تكرار لذات الذي حدث في زمن نميري فقد حاول ضباط سلاح المدرعات إظهار التمرد بعد عزل النميري للواء خالد حسن عباس الذي كانوا يعتبرونه ممثلهم في قيادة الثورة ولكن النميري وبطريقته المباشرة استطاع أن يصب ماءً بارداً على الأزمة وذلك باسراعه إلى قيادة سلاح المدرعات بالشجرة دون حراسة واجتماعه بالضباط وشرح الأمر وقام بتفويت الفرصة عليهم. بالنسبة للبشير مرت الأزمة بسلام ـ على الأقل عسكرياً ـ ولكن بقيت ظلالها السياسية تتجه عميقاً وتضرب في البعيد فقد قام بعض المرجفين ودعاة الفتنة بوصف الأمر بأنه تآمر من قبيلة الشايقية التي ينتمي لها صديق تريد الإطاحة بالبشير، وهو ما سنناقشه في فصل أزمة القيادة في الإنقاذ.
الإنقاذ والجيش والدولة:
حتى العام 1982 كانت القوات المسلحة السودانية هي ثاني أكبر متلقي للدعم العسكري من الولايات المتحدة الأمريكية في أفريقيا ـ بعد مصر ـ وفي الحقيقة أن ذلك أسهم في بناء قوات مسلحة فاعلة ومقتدرة جعلت من القوات المسلحة السودانية في فترة الثمانينات واحدة من أكثر الجيوش انضباطا وسمعة في العالم الثالث(20) حيث جرى الإهتمام الأبرز ببناء المقاتل الذي هو محور الإرتكاز وأساس المؤسسة قبل المباني والمعدات التي تعتبر ـ مع الإعتراف بأهميتها ـ في مرحلة ثانية بعد المقاتل الفرد الذي سيقوم بتشغيلها وربما يقدم روحه إلى جوارها. لقد استحق الفريق أول عبد الماجد خليل بحق أن يلقب بأنه أبو العسكرية السودانية(21) وذلك من خلال الحواجز التي قام بتحطيمها في سبيل بناء مؤسسة عسكرية قوية في البلاد ودوره في التخطيط وإعادة بناء الجيش السوداني حيث أدخل الكثير من التعديلات على العقلية العسكرية والعقيدة القتالية (مثل شعار دماء التدريب توفر دماء المعركة، فقام بتحويله إلى عرق التدريب يوفر دماء المعركة) أيضاً إهتمامه بإقامة المناورات العسكرية لأول مرة في تاريخ الجيش الوطني والتي أُطلق عليها أسماء (همشكوريب، دقنه، شيكان، تحدي)، بفضل ذلك أصبح الجيش السوداني مثار احترام ونظر كل المنظمات الدولية فقد انتدب مجلس الأمن الدولي قوات سودانية لتعمل كقوات حفظ سلام دولية تحت مظلة الأمم المتحدة ثلاث مرات في أقل من خمس سنوات ( ناميبيا ـ انغولا ـ سيراليون ـ ليبيريا) “يوجد الآن في السودان قرابة الخمسة عشر الف جندي من تسع دول كقوات سلام دولية” فكيف انعكس الحال إلى هذه الصورة ومن المسئول، بعض هذه الدول مثل رواندا وسيراليون لم يتجاوز عمر جيوشها العشرين عاماً بعضهم مثل نيجيريا ساهم خبراء سودانيون في وضع تنظيم لدولهم مثل وضع دستور أو قوانين أو غيرها، فإذا بهم يُنتدبون من مجلس الأمن الآن لحمياتنا.
أيضاً عندما وقع تمرد الكتيبة 105 في بور والبيبور وفشلا تم اجلاؤها في ساعات محدودة وإعادة السيطرة على هذه المناطق ولم يكن ذلك حدث وليد اللحظة بل بسبب البناء والرعاية التي امتدت لأكثر من عشر سنوات استفادت منها القيادة السياسية والعسكرية للبلاد في بناء قواتها المسلحة وتوفير الأجواء لها. تجدر الإشارة إلى العقل الاستراتيجي الذي أدار به نميري حسم التمرد حينما وجه اللواء صديق البنا بأن يجعل قائد القوة التي تعيد تطهير المناطق من التمرد ضابط من الجنوب حتى يعلم المتمردون أنهم يقاتلون دولة قومية، حيث كلّف البنا العقيد دومنيك كاسيانو بخيت (أصبح فيما بعد عضو مجلس ثورة في إنقلاب يونيو).
ويرى كثير من المراقبيين أن الجيش الذي قاتلت به الإنقاذ أول الأمر ـ خاصة معارك صيف العبور الأولى والثانية ـ هو هذا الذي وضع لبناته جعفر نميري وكان في قيادته عبد الماجد خليل. وربما كان الجيش السوداني هو الوحيد في دول العالم الثالث الذي يتمتع ـ وقتها ـ بإتفاقيات تعاون عسكري مع دول المحور الاشتراكي الشرقي والدول الغربية على السواء لم يتأثر ذلك بموقف نميري من الشيوعيين.
الجيش والدعم الخارجي:
أفرز هذا الواقع بعض الأفكار المضللة التي عشعشت في عقول بعض القادة العسكريين فأصبح موضوع الدعم الخارجي وكأنه لا يتم الواجب إلا به فيصبح في حكم الواجب، وفي مذكرة الجيش الشهيرة التي رفعتها القيادة العامة إلى السلطة السياسية (20 فبراير 1989م) كان أبرز نقاطها بعد قضية توحيد الجبهة الداخلية إزالة أسباب انقطاع الدعم الخارجي للجيش، قد يحتج البعض بمسألة السياق الزمني لهذه القضية، والتي وقعت في وقت كانت فيه ميزانية الدولة كلها، تقوم على المنح والقروض وبالتالي معدات القتال واحتياجاته وما تستلزمه من عملة حرة وغيرها وقد يكونون محقّين في التذرع بشماعة القدرات المادية واحتمالية الميزانية العامة للدولة، لكن هذه العقلية ما تزال مستمرة وهذا يجعل هذا الإدعاء باطلاً بالتذرع بمشجب الإمكانات فقد تضاعفت ميزانية القوات المسلحة إلى أن وصلت حوالي ستة مليار دولار في العام 2006م (ستة بليون ونصف بليون دولار أمريكي) في ذات الوقت الذي يتلقي فيه الجيش المصري حوالي 1.8 مليار معونة عسكرية أمريكية مع كل الفارق الكمي والنوعي بين الجيش السوداني والقوات المسلحة المصرية التي تضم ثلاثة جيوش (الجيش الأول، الجيش الثاني، الجيش الثالث) واختلاف حتى مستوى التهديد وطبيعة المهام الموكلة لكل منهما. هذا يثبت وبجلاء ضعف القدرات القيادية وتأخر المستوى العلمي لدى القيادة المتواجدة على رأس الهرم بتوفير هذه الإمكانات غير المسبوقة، يتساءل البعض وحق لهم (ترى كيف يكون حال هذه المؤسسة لو تُرك الفريق عبد الماجد خليل قائداً عاماً لمدة ثلاثة وعشرين عاماً وبميزانية تعادل قرابة الأربع مرات حجم المساعدات العسكرية الأمريكية للدولة الأولى في أفريقيا) (راجع هزيمة السياسة للسلاح في فصل سابق من هذا الكتاب).
لقد أصبح لكل هذه القضايا انعكاساتها على القوات المسلحة في مختلف تدرجاتها على المستوى الاحتياطي أو المستوى التعبوي أو عند الحشد أو القتال، مما أثر وانعكس على أدائها في الميدان فأصبحت العسكرية التي هي بالأساس علم واحتراف قبل أن تضحى رمزيات للسلطة والتحكم، أقرب ما تكون إلى إدارة المظاهرات والحشود الجماهيرية وهو عين ما يحتاج إلى رؤية جديدة وبقيادة جديدة تقدم الاحتراف والمهنية على الولاء.(22) .
ملحق لا بد منه:
الجيش وترتيبات سلام الجنوب:
في سبتمبر 2003م وقّعت حكومة السودان بروتكول الترتيبات الأمنية والعسكرية والذي أصبح لاحقاً جزءاً مكوناُ من إتفاقية نيفاشا للسلام الشامل (Comprehensive Peace Agreement) والتي تعرف اختصاراً بـ (CPA)، كان توقيع هذا البروتكول غريباً للغاية فأولاً المعتاد في قضايا النزاعات المسلحة أن يكون الإتفاق الأساسي على القضايا محل النزاع والتي قامت الحرب أساساً بسببها مثل (الموارد الطبيعية، الأراضي، قسمة السلطة، قسمة الثروة ..إلخ) وفي ختام ذلك يوضع ملحق إتفاق للترتيبات العسكرية والأمنية أوضح مثال على ذلك إتفاق أديس أبابا 1972م وكل تجارب فض النزاعات في القارة.
وتعتبر الخطيئة الكبرى في إتفاق سلام نيفاشا هذا البروتكول، الذي أثار شخصيات مقربة من الرئيس لم تكن تجرؤ على نقده، فهذا الإتفاق كما وصفه الطيب مصطفي “وصمة عار تاريخية” في جبين القيادة السياسية الحالية هو هذا الإتفاق وذلك لما جره من قضايا فرعية أخرى بنيت عليه وحطمت كل ما سبق من إنجازات تحققت في هذا الملف (راجع فصل سجالات السلام والحرب من هذا الكتاب). فهذا البروتكول قد قام بالحط من قدر القوات المسلحة التي هي مؤسسة عريقة كما أشرنا ولم تنشئها الإنقاذ ومساواتها بمليشيات لا قيمة لها وهي ما عرف لاحقاً بالجيش الشعبي (لم يكن يحتل الجيش الشعبي أي مدينة رئيسية في الجنوب) كذلك قامت بتسليم المليشيات المتحالفة مع جيشنا إلى عدوهم في تجاوز واضح لكل الأعراف والأخلاق، والتسليم بالانسحاب من الجنوب وتركه لمليشيات الحركة الشعبية لتديره، وغيرها من التفاصيل الواردة أدناه، تجدر الإشارة إلى أن هذا التحليل طبع ووزع وجرى تداوله على مستوى واسع خاصة داخل الجيش وكما هو معلوم فقد صدر قرار من السلطات بحظر النشر أو التعليق على إتفاق الترتيبات الأمنية بعد التوقيع عليه، مما حرم الجمهور من نقاش حر يجري تداول الأراء وبسط الرأي والرأي الآخر حول هذا الموضوع الخطير والحساس.
سأكتفي هنا بإيراد هذا التحليل الذي كتبه الاستاذ محمد المهدي لموقع مفكرة الإسلام (23) وقام بنشره عقب توقيع الإتفاق أي في اكتوبر 2003م:
ــــــــــــــ
وضع القوات المسلحة للطرفين:
[أ] هذا الشرط الأساسى لتكوين جيش السودان [الجديد] من قوات الطرفين على قدم المساواة والتكافؤ والذي يعني ببساطة موازاة القوات المسلحة السودانية بكل إرثها مع حركة تمرد مهما استطال فرعها وهو بعبارة أخرى Demotion للقوات المسلحة إلى قوة مسلحة و Promotion لحركة التمرد إلى مصاف القوات المسلحة النظامية وتكمن خطورة هذا الأمر إذا قُرئ مع الشرط الخاص [فقرة 4 و فروعها] بالوحدات المشتركة التي ستشكل نواة جيش السودان الجديد. هذا ببساطة إلغاء القوات المسلحة السودانية و شطب تاريخها وإرثها إلى غير رجعة. [أنظر تصريح قرنق في رمبيك في 30/9/2003 حيث قال قبلنا بالترتيبات العسكرية لأن جيشنا سينظر إليه كقوات قومية] رافعاًً علامة النصر [V]
[ب] تعريف القوات المسلحة الوطنية السودانية [الجديدة]:-
شرط بقاء القوتين منفصلتين أمر إجرائى سيكون على الورق إذ أن سحب القوات المسلحة سيكتمل قبل تكوين هذه القوة النواة [24 ألف جندي] وهي القوة السيادية بعد إضافة كلمة الوطنية إليها [راجع مهام القوة المشتركة والهدف منها ـ فقرة [4] وفرعياتها]. وبقراءة هذا الشرط مع ما ورد بالتخفيض المتناسب [ج] ، فإنه يعني تسريح القوات المسلحة فعلياً وتقوية جيش الحركة بأعداد متزايدة من أفراد قواتنا المسلحة ممن قاتل معها و تدرب كجندي وطني وحدوي في صفوفها، يرمى هكذا لقمة سائغة [بعد تسريحه] لحركة التمرد الأمر الذي يعني تقويتها بعناصر مدربة جاهزة.
ــــــــــــــ
[ج] و هنا خداع واضح إذ أن التسريح سيتم على أساس عرقي من القوات المسلحة [أنظر الفقرة 3[د] فأي شعور بالغبن و رد فعل سيتولدان لدي المقاتل في الجنوب من أبناء الجنوب و أي معاملة سيقابل بها [بوصفه كان خائناً لقضية الجنوب] من قواد الحركة و أفرادها الذين ستكون لهم اليد الطولي في إدارة الأمور كلها في جنوب السودان؟!!
[د] القوات المسلحة الوطنية لن يشرع لها قانون داخلي أو نظام لوائح إصدار الأوامر و التوجيهات انتظاراً لتطوير العقيدة العسكرية الجديدة و ما يتبعها من عقائد قتالية و نظم إدارية إلخ خلال الفترة الانتقالية … هذه ركلة البداية لتحقيق السودان الجديد سلماً و خداعاً بعد أن عجزوا عنه حرباً … و لكن هل الحرب إلا خدعة؟! … فالحرب مستمرة! ثم إن هذا يؤسس لتقنين الفوضى وعدم الانضباط داخل كل القوات النظامية. و هذه الفوضى حتما ستعقب التخفيض و التسريح.
3. إعادة انتشار القوات:
[أ] سحب القوات المسلحة من الجنوب شمال حدود 1/1/1956م عند الاستقلال وهي المديريات الثلاث بالكامل خلال مدة عامين ونصف العام من تاريخ سابق لبدء الفترة الانتقالية ولم تحدد الإتفاقية المدى الزمني لفترة قبل الانتقالية!! في إتفاقية مشاكوس محددة بـ [[6]] أشهر وهذا يعني بدء الانسحاب من الجنوب مباشرة بعد توقيع الإتفاقية النهائية.
[ب] بقاء قوات الحركة في مواقعها بل ودعمها في الجنوب بوحداتها من جبال النوبة والنيل الأزرق والشرق ـ إذا سحبت. و نقول إذا سحبت من الشرق لأن الأمر فيه فسحة وسنبين ذلك لاحقاً في موضعه.
زيادة على ذلك ربطت انسحابها من هاتين المنطقتين بتكوين الوحدات المشتركة تحت الرقابة الدولية ومساعدة الأطراف الخارجية مع العلم بأن تاريخ تكوين الوحدات المشتركة أغفلته الإتفاقية بل تركته هكذا {خلال الفترة الانتقالية} دون تحديد مدى أو قيد زمني.
هذا يعني أن القوات المسلحة ستبدأ فعلياً في الانسحاب قبل بدء الفترة الانتقالية أي قبل تكوين الوحدات المشتركة. هب أن الفترة الانتقالية ستبدأ في 01/06/2004م و أن الإتفاقية النهائية قد وقعت في 01/01/2004 ، فهذا يعني أن انسحاب القوات المسلحة من كامل الجنوب ينبغي أن يكتمل في 31/12/2005 كحد أقصي. و ربما لا تكون الوحدات المشتركة قد تم تكوينها في ذلك التاريخ و إذا دارت عجلة الانسحاب تحت الرقابة الدولية فلن تتوقف.
“Once the process of attrition has started, it is very hard to reverse”
Political historian Anthony Howard
[ج] انظر التعليق أعلاه في 1[ب] و نضيف الآتى:-
لماذا النص فقط على تسريح أبناء الجنوب فقط من أفراد القوات المسلحة العاملين بجنوب السودان؟! و معظمهم من قبائل غير الدينكا التي تهيمن على الحركة؟! هل هي بداية هيمنة أخرى على الجنوب وبالتالي إلقاء بذرة جديدة للتمرد الاستوائي ضد الهيمنة؟!
4. الوحدات المشتركة/ المدمجة:
يراجع التحليل للبند 1[أ] و [ب] و 3[ج] ، و ما يلي:-
بما أن قيادة هذه الوحدات موكولة لمجلس الدفاع المشترك و الذي أيضاً من مهامه الأساسية التنسيق بين القوتين المنفصلتين فهو بطبيعة الواقع سيكون [هيئة أركانحرب القوات الوطنية السودانية] و بما أن هذه الوحدات هي نواة القوات المسلحة الجديدة التي ستكون من القوات المسلحة والجيش الشعبي بالتساوي في حالة خيار الوحدة فإن هذا يعني عملياً أيلولة قيادة القوات المسلحة المستقبلية لحركة التمرد!!!… لماذا؟!
ستتم الإجابة عليه لاحقاً عند الحديث عن المآلات. و لكنه يفسر قول قرنق في رمبيك المذكور آنفاًً.
4/1/أ الصفة والعقيدة العسكرية:
[أُنظر أيضاً البند [6] أدناه]
[ب] المهام: ـ
بوجود الوحدات ـ إذا أنشئت ـ يعني إلغاء صفة رمزية السيادة عن القوات المسلحة وجعلها فقط مجرد قوة مسلحة خاضعة للتسريح كلياً وفقاً لنتيجة الاستفتاء وربما قبل نهاية الفترة الانتقالية، إذا وضعنا في الاعتبار التخفيض [Downsizing] المنصوص عليه في الفقرة 1[ج] بالرغم من الإبهام الواضح فيه حول القيد الزمنى ولكن هذا التخفيض يبدأً بعد التوقيع على إتفاقية وقف إطلاق النار الشامل دون انتظار حتى لبدء الفترة الانتقالية.
[ج] الحجم و الانتشار iv – i]]
تحليل هذه البنود ينبغي أن يتم بحذر -:
كم تبلغ نسبة الأفراد [جنود وضباط صف] الجنوبيين حالياً في القوات المسلحة؟
المعلومات التي بطرفنا منذ [3] أعوام أن هذه النسبة لا تقل عن 90% غير الضباط ونسبتهم قليلة. هذا يعني إذا تحفظنا حول هذه النسبة وقلنا أنها لا تقل عن 75% بالتأكيد فهذا يعني الآتى:
جنوب السودان مثلاً:-
القوات المسلحة 12.000 × 75%
نسبة الجنوبيين 9.000 فرد
قوات الحركة 12.000 فرد
21.000 فرد
هذا يعني عملياً أن قوة الجنوبيين في نواة القوات المشتركة المقترحة والقوات المسلحة الوطنية المستقبلية ستكون حوالي 87.5% وقس على ذلك تكوين أحجام القوات لبقية المناطق الثلاث.
و مع هذا الاختلال العرقي لتكوين القوات المسلحة فإنها ظلت متماسكة البنيان والانضباط. وما ذلك إلا لقوة المؤسسية فيها على الرغم من الإضعاف المتعمد أحيانا الذي أخضعت له القوات المسلحة ـ حفظها الله.
v. أما بالنسبة لشرق السودان فبالرغم من أن ظاهر الإتفاق يوحي بانسحاب الحركة من الشرق خلال سنة فإن البند الفرعي [ب] يلغي هذا الإيحاء و يعادله بأن يترك الباب مفتوحا للنقاش للتوصل أيضاً إلى تشكيل قوة مشتركة مثل جبال النوبة أو جنوب النيل الأزرق.
هل يمكن فهم الشعور بالأسف لدى جون برندرقاست لوصول مشكلة دارفور متأخرة بعض الشي عند حضوره للخرطوم مهدداً ومتوعداً عقب انهيار المفاوضات بسبب وثيقة ناكورو؟!! [التي لم تبل ولم تشرب مويتها]!!
5. القيادة والتحكم/ مجلس الدفاع المشترك:
تبعية هذا المجلس لرئاسة الجمهورية تلغي مهام وزير الدفاع ورمزية بقية القوات المسلحة للسيادة الوطنية، هذا إذا أضفنا إليها قيادته المباشرة للقوات المشتركة رمز السيادة ونواة المستقبل للقوات المسلحة الوطنية [المقترحة] بعد الاستفتاء
6. العقيدة العسكرية المشتركة:-
هذه العقيدة العسكرية [Military Doctrine] ستحل محل العقيدة العسكرية وبالتالي العقائد القتالية للقوات المسلحة طوال تاريخها وخلال مراحل تطورها. وستصبح هذه العقيدة الجديدة الأساس لـ:-
* تدريب وبناء القوات المشتركة حتى الآن عددها المقترح 39.000 جندي إذا لم تضف قوة مشتركة لشرق السودان.
* بناء وتدريب جيش المستقبل للسودان من الوحدات المشتركة.
* بناء وتدريب بقية القوات المسلحة التي لم تضف إلى الوحدات المشتركة مع العلم بأنها معرضة للتخفيض حسبما ذُكر أعلاهـ.
* بناء وتدريب بقية قوات الجيش الشعبي مع العلم بأنه في حقيقة الأمر سيزداد حجم الاحتياطي الجاهز له بعد التسريح من القوات المسلحة وإعادة الاستيعاب للجنوبيين المسرحين من العاملين بجنوب الوطن.
و السؤال الأول: ما هو تعريف العقيدة العسكرية؟
الإجابة ببساطة: هي مجموعة القيم والمفاهيم التي تبنى على أساسها الجيوش وتحدد مهامها الاستراتيجية العليا بناءً على منظومة مفاهيم الأمن القومي وعليها تؤسس العقائد القتالية والنظم الداخلية للقوات المسلحة في أي بلد حسب موقعه ودوره في خريطة العالم.
ومن هنا يفسر إصرار التمرد على ذلك وآثار تغيير العقيدة العسكرية على المدنيين البعيد والقريب وخصوصاً في ظل اختلال التركيبة العرقية للقوات المسلحة حالياً؟! لأن الهدف هو إنشاء جيش السودان الجديد وإلغاء إرث القوات المسلحة السودانية التي ما كانت عصابة متمردة يوماً بل كانت جيشاً مؤسسياً نرجو أن تظل كذلك.
7. المجموعات المسلحة الأخرى:
أجهزة الأمن الوطني وقوات الشرطة، هذه البنود في مجملها تعني الآتي:-
حل جميع المجموعات المسلحة دفاع شعبي/ إلغاء خدمة وطنية حل المجموعات المسلحة الجنوبية المتحالفة ويعني ذلك تخلي القوات المسلحة عن حلفائها. وهذا إضعاف عسكري واضح وعلى الرغم من أن البند 7[ب] يؤسس لإمكانية استيعاب بعض ـ وليس كل هذه المجموعات ـ في القوات النظامية لأي من الطرفين، فإن الأمر من طرف واحد إذ ليس للحركة أي إدارة للشرطة/ السجون إلخ ـ مع العلم بأن هذا البند يلغي عملياً بشرط البند [8] الذي يشترط أن تكون القوات النظامية وأجهزة الأمن ضمن سياق ترتيبات قسمة السلطة في الجلسات القادمة. ولا يعارض ذلك أو يخفف منه شمولية الحل أو المعالجة للمجموعات المسلحة المنصوص في البند 7[ج] ، فقد تقتضي المعالجة تصفيتها [Physically] الأمر الذي يبذر لتمرد جديد ولكل ساقطة لاقطة.) إنتهى محمد المهدي ويمكن للقارئ الكريم المقارنة بين الواقع وهذا التحليل الذي كتب قبل تسعة أعوام.
(1) راجع دوقلاس جونسون،Sudanese Military Slavery Douglas Johnson, أيضاً كذلك Gerard Prunier, “Military Slavery in the Sudan
(2) كان عدد من الضباط السودانيين ـ من الذين شهدوا تلك الفترة ـ ظلوا يتلقون معاشا مستمراً من الجيش المصري (حقوق ما بعد الخدمة) حتى بعد استقلال السودان من مصر.
(3)راجع محمد خير البدوي بطولات القوات المسلحة السودانية في الحرب العالمية الثانية.
(4) راجع قسم السودان بكيو قاردنز لندن Kew garden-Sudan section London
(5) راجع مذكرات زين العابدين عبد القادر مايو سنوات الخصب والجفاف
(6) راجع عبد الوهاب الأفندي، السودان الثورة والاصلاح السياسي (فكرة إنشاء جهاز للعمل السري (على السواء في المؤسسة العسكرية أو في القطاع المدني العام) في الحركة الإسلامية السودانية تعود إلى بواكير السبعينات ـ وان كانت الحركة الام في مصر قد سبقت بأكثر من ثلاثين عاماً على ذلك ـ إلا أن السودان وبظروفه المختلفة مع التداخل والترابط الاجتماعي بين المدني والعسكري سنح للعمل بحرية)
(7) نقل الرسالة الأستاذ محجوب عروة ـ الصحفي المعروف ـ من طرابلس إلى الخرطوم التي وصلها بعد رحلتين من ليبيا الأولى إلى لندن ثم القاهرة في أبريل 1976، وتلقي الرد من الدكتور ياسين عابدين مسئول العمل الخاص وقتها.
(8) راجع كتاب المحبوب عبد السلام الحركة الإسلامية دائرة الضوء ـ خيوط الظلام.
(9) يشير الكثيرون إلى الدورات التي كانت تنظم في المركز الإسلامي الأفريقي لضباط الجيش والتي كانت تمنح درجة الزمالة أو الدبلوم في الدعوة مع مخصصات اضافية وسفر لأداء شعيرة العمرة مما كان له عامل اسهام في بناء الثقة بين الجيش وبعض قيادات الحركة الإسلامية، راجع الجيش والسياسة للعميد الركن عصام الدين ميرغني المعروف بابو غسان. ويكشف أبوغسان في بحثه القيم هذا أن الحركة الإسلامية لم تكن وحدها التي تتحرك في الساحة، بل القائد العام فتحي أحمد علي كان جزءاً من تنظيم سياسي عسكري إنضم إليه قبل الانتفاضة يضم إلى جانبه هو ـ أي عصام ميرغني ـ ضباطاً آخرين أبرزهم العميد عبد العزيز خالد سمي هذا التنظيم بـ “الوطنيين الديمقراطيين”. ومع ذلك يتباكي الكثيرون على قومية القوات المسلحة وقائدها العام الذي كان يوصف بأن “إيمانه بالديمقراطية والدستور كان بلا حدود”، هو نفسه بشهادة عصام ميرغني كان عضواً في تنظيم سياسي!!
(10) أورد د.عبد الرحيم عمر محي الدين في كتابه “الإسلاميين وفتنة السلطة” أن بعض كوادر مدنية من الحركة الإسلامية شاركت في عملية التغيير يوم 30/6/1989م، وذلك على شكل افادات للأستاذ يس عمر الإمام والعميد عبد الرحيم محمد حسين. وأشار لبعض الأدوار مثل ما قام به المهندس محمود شريف من تركيب شبكة اتصال للربط أثناء التحرك وبناء إذاعة احتياطية ذات كفاءة عالية، وغيره من الجنود المجهولين.
(11) يشكك مفكرون كبار من الحركة الإسلامية أن هناك خطة من الأساس، بل إن الأمر في مجمله كان إنقلاب تقليدي للاستيلاء على السلطة ومن ثم بعد فترة زمنية يصبح د.حسن الترابي رئيساً للجمهورية، وأن الحركة الإسلامية قد غُرر بها في قطاعيها المدني والعسكري لتعمل كرافعة لايصالهم إلى هذه المنصب، راجع التجاني عبد القادر في كتابه نزاع الإسلاميين في السودان مقالات في النقد والاصلاح.
(12) راجع كتاب السيف والطغاة للعميد الركن السر أحمد سعيد.
(13) يروي صحفي مصري مشهور زار د.الترابي بعد خروجه من المعتقل في سبتمبر 2003 بعد توقيع برتوكول الترتيبات الأمنية والعسكرية في نيفاشا بين الحركة الشعبية والحكومة، وكانت مصر قلقة من مسألة انسحاب الجيش السوداني القومي من جنوب السودان، فقال له الصحفي بعد إنتهاء الحوار، في سؤال ودي – Off record – (يا دكتور ما هو رأيك في اتفاق الترتيبات الأمنية؟)، فقال له د.الترابي (إن أي اتفاق يوقف الحرب نحن نرحب به)، فأردف الصحفي ما نصه (بس بموجب هذا الاتفاق الجيش السوداني سيخرج من الجنوب) فأجابه د.الترابي بطريقته المعروفة ( يا أخي الكريم ليتهم خرجوا من الشمال كذلك) ولا يخفى أن الضمير في “هم” هنا عائد للجيش.
(14) تولى العميد عمر حسن بعد ترقيته إلى رتبة فريق أربعة مناصب كبيرة في وقت واحد، الأول رئيس مجلس قيادة الثورة “رأس الدولة والقائد الأعلى” والثاني القائد العام للجيش والثالث وزير الدفاع والرابع رئيس الوزراء باعتبار المراسيم الجمهورية التي صدرت وجعلت النظام رئاسي.
(15) راجع العميد عصام ميرغني، الجيش والسياسة، فصل إنقلاب رمضان ذكر بالاسم إبراهيم شمس الدين، كمال علي مختار، عبد الرحيم حسين كقادة عملوا على محاصرة المحاولة الإنقلابية واجهاضها والتي كانت قد استولت على السلطة فعلاً، وأحكمت سيطرتها على المواقع الاستراتيجية والحيوية في العاصمة.
(16) في اكتوبر 2006م كتب الهولندي ينك برونك ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في الخرطوم على صفحة مدونته بالانترنت بطريقة مهينة أن جيش السودان قد وقعت فيه خسائر كبيرة على خلفية هجوم وقع على احدى متحركات الجيش بدارفور. مما أدى إلى ابلاغه بواسطة وزارة الخارجية أنه شخص غير مرغوب فيه.
(17) راجع غازي عتباني مجموعة مقالات منشورة عن مستقبل السياسة السودانية ابريل 2007م.
(18) تم رفع الاستعداد إلى درجة 100% وهي تعادل حالة الحرب والقتال، نشرت صحيفة حريات الإلكترونية الخبر ولأنها لم تكن تملك التفاصيل الكاملة للحادثة فقد أضافت من عندها الكثير، وإن كانت الحادثة في حد ذاتها ودلالاتها من بعد أبعد أثراً في مسيرة الحزب وتماسك القيادة.
(19) تشير دلالات واضحة إلى أن المعلومات تسربت عن طريق ضابط يُدعي (م.أ.أ) كان يعمل كمصدر لجهاز الأمن ويتلقي منه أموالاً، وهو أمر مشين داخل القوات المسلحة كما هو معروف. قبل مثول الكتاب للطبع تم احالة اللواء صديق فضل الي التقاعد.
(20) راجع السر أحمد سعيد، السيف والطغاة، حيث أورد الكاتب ص(48) ملخصا عن تقرير لفريق أمريكي عسكري وآخر هندي زارا السودان في نهاية السبعينات وقاما بعمل احصائيات كشفت بالأرقام أن نسبة تدريب الضباط والافراد بالجيش السوداني لا مثيل لها بين دول العالم الثالث أو القارة الأفريقية.
(21) بعد هجوم مسلحي دارفور على مدينة أم درمان مايو 2008م قام وزير الدفاع عبد الرحيم حسين بتريتب زيارة للفريق عبد الماجد حامد خليل إلى الرئيس عمر البشير، واهتم أن يتم إبراز ذلك في الإعلام حتى يتم بث شئ من الطمأنينة في الرأي العام خاصة العسكري ـ كما قال بذلك عبد الرحيم بنفسه ـ وذلك لما يتمتع به عبد الماجد من سمعة مهنية عالية.
(22) علق أحد العسكريين المحترفين بمرارة على ظاهرة أصبحت متكررة وهي إفراغ الرتب العسكرية من مضمونها وبالتالي هيبتها، فمثلاً منح ضابط إداري لم يخدم في العسكرية ولا يوماً واحداً رتبة فريق (طه عثمان مدير مكتب البشير)، كذلك انتشار ظاهرة تعيين ضباط برتبة لواء مديري مكاتب “سكرتيرين” للمسئولين، حيث يوجد الآن في رئاسة الجمهورية عدد كبير من الموظفين برتبتي “لواء وفريق” في وظائف سكرتيرين ومدراء مكاتب، وما يتبع ذلك من إساءة للنظام العسكري وامتهان للرتب، وهؤلاء ما يزالون في الخدمة العسكرية (بصرف النظر عن المؤسسة التي ينتسبون اليها: جيش أو شرطة أو أمن فالرتبة العسكرية لها وقارها). ودلل على ذلك بوجود الفريق عصمت السكرتير التنفيذي القصر، واللواء محي الدين السكرتير الصحفي للرئيس، واللواء الهادي مصطفي مدير مكتب د.نافع وغيرهم. ويقول المعلق إن البشير جاء إلى الحكم واصبح رئيسا وهو برتبة عميد فكيف يصبح شخص برتبة فريق أو لواء مجرد سكرتير. أيضاً يثير بعض العسكريين مسألة شديدة الحساسية مرتبطة بالكرامة المهنية في الجيش وهي أن جهاز الأمن وبموافقة من القائد العام يقوم بارتداء زي القوات المسلحة، وقد كانت هذه واحدة من ضمن أسباب تفجر الخلاف بين قيادة الجيش وعمر محمد الطيب في الأسبوع الأخير من أيام نميري، ومن ضمن استفزازات السلطة التي حملت ضباط الجيش علي تأييد الانحياز للشعب(راجع عصام ميرغني، مصدر سابق).
(23) http://www.islammemo.cc/print.