على مدار أكثر من عامين، انطلقت أشغال ما عرف في الأدبيات السياسية السودانية بحوار «الوثبة»، وهي الرؤية التي طرحها مطبخ الحكم في البلاد لمناقشة قضايا خمس، من حكم وهوية وثقافة واقتصاد وحريات.
حددتها واعتبرتها أهم الإشكاليات في أزمة الدولة السودانية التاريخية أو بالأحرى حلا لأزمة نظام الحكم السياسي في البلاد لغاية تكريس بقائه وهمينته على حقل الصراع السوداني الراهن والمتغير وبوقائع هي الأخرى مختلفة، إن كان على مستوى الفاعلين او المجال، إلا أن العنوان المشترك هو الأزمة المستمرة والمعاد إنتاجها وهندستها وفق متطلبات كل مرحلة و بدقة متناهية.
أجندة «وثبة» الرئيس السوداني، التي سميت حوارا وطنيا، لم تلامس شيئا من أزمة البلاد التاريخية، رغم الإنشاء والسواد الذي وضع على بياض الورق المزين بالألوان، ومظاهر الديكتاتوريات في صناعة وتركيب الحشود والبهرجة والرقص والخطب، لشرعنة جديدة للنصب والمزايدة، والمضي جهرا بدون وازع في تراكم السوءات التي بنى بها البشير عهده، بعدما اختار فن التلاعب وإقبار البشر خيارا نهائيا حدد مساره، مدعوما بطروحات النخبة التي يتولى حمايتها وحماية مصالحها واستمرارها.
ما عرف بنتائج «حوار الوثبة» البشيري، جوهره، هو شكل من أشكال استمرار منهج القوى المهيمنة في البلاد التي تفرض شروطها وفق موازين قوى الصراع السياسي السوداني، الذي هو تاريخي ثقافي اجتماعي تحدد سياقاته القوى المسيطرة تاريخيا، ما أفرز وضعا شبيها بانتصار دول الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، التي بموجبها تمكنت منظومة الحلفاء من فرض شروطها على النظام الدولي، الذي نتج عنه تأسيس الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في فرض النظام الدولي القائم على العالم أجمع. إنها رؤية الدول المنتصرة،و رغم الكوارث التي حصدتها جراء أحاديتها المفرطة،إلا أن جزء منها مبنية على رؤية أخلاقية، علي الأقل في نسبية حفظ الأمن والسلم الدوليين، وقف الحروب والصراعات والجرائم الكبرى التي ترتكب ضد الإنسانية، التي راح ضحيتها الملايين في الحرب العالمية الثانية.
إن أعمدة صراع المجال السياسي العام السوداني، في الغالب أو ما هو سائد، لا تحكمه أخلاقيات معينة أو نظم قانونية أو أعراف اجتماعية، بقدر ما تحدده نزعات «الأنا» الشوفينية التي أنتجتها بنيات العقل المهيمن في البلاد على مدى التاريخ الحديث، وإن شئت القديم أيضا. عقل الهيمنة، لا يرى أي ضمان لبقائه إلا بهيمنته السياسية والاقتصادية و بأدوات اجتماعية وثقافية عديدة ، عبر توظيف ماكر لمتناقضات المجتمع الواقع تحت الهيمنة وأدوات الإكراه والقهر المعنوي والمادي والرمزي.
صراع المجال السياسي السوداني، صراع لإرادات مجتمعية، جهوية،قبائلية، طائفية،،،،إلخ، ترى في القيم الحداثية التي تستند إليها الدولة الحديثة، من ديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون، والمرتكزة على مبدأ المواطنة الصارم، هو المخرج الوحيد الذي يضمن لها التوافق الاجتماعي، وهذا لا يقع عمليا في إطار ثقافة الصراع السياسي السوداني التاريخي إلا بتوازن قوى جديد في المجال السياسي بين القوى المهيمنة و الموازية لها، وفي هذا لا يفيد التوازن الكمي ، لأن الثابت تم توظيفه ضدها وضربها وتفتيتها كما جرى ويجرى تاريخيا في كل ارجاء البلاد.
الحديث المثالي لما يريده السواد الأعظم من تغير، عند البعض هو موقف مشروط، لا يسمح بتغير بنيوي في أدوات اللعبة وأدوات الإنتاج السائدة، بعقلنة وموضوعية، بقدر ما أن الأمر يتعلق بتغير يضمن بقاء مؤسسات الهيمنة السائدة وبانفتاح يسمح باستيعاب ما، بدون شراكة حقة، باعتباره ممنوعا من الصرف، لذلك تجد على سبيل المثال لا الحصر، التفاعل حول إفرازات المحن السودانية التي يديرها مطبخ الحكم متفاوتة، بل عند جماعات، غير معنية بها، طالما هي على ارتباط معها و ذلك يفرض عليها التزامات.
مركز الحكم السوداني، يرى أنه «حسم» مبدئيا أجندة صراع المجال السياسي وبأخلاقيات فاعل لا يكترث بأي نظام أخلاقي، وهنا تكفي حالتا التطهير والإفراغ التي يتعرض لها جزء كبير من السودان، وكانت واضحة، الجاهزية الإجرامية المكتملة الأركان، مثل تنفيذ جرم الإبادة، و تقارير السلاح الكيماوي المحرم دوليا، والانتهاكات الواسعة النطاق والفساد المنظم، لإرساء وتثبيت الهيمنة المقدسة، حيث لا يقبل بمعاكسها ولا بتقسميها ولا بأي مس بنظامها التاريخي.
بينما نجد القوى المقابلة في مجال ثنائية الصراع السوداني، تمكنت من النهوض و خيار الرفض وتحمل أعبائه، إلا انها لم تتمكن من إدارة الصراع بشكل يوازي ألاعيب الآخر في القوة و الإتجاه، بحيث تعمل علي تحويل معطى الكم العددي إلى قوة تفاعل حقيقية وبأدوات جديدة. إن صراع المجال واضح، كل شيء فيه مبرر، وما يتطلبه، هو توازن جديد يفسر ويضبط اللعبة ومن ثم يجبر مركز الهيمنة على التنازل عن مصادرة حقوق الآخرين وإقراره بشرعية مغايرة قوامها التراضي حول العام المشترك واحترام المختلف الذي يجب أن يكون كذلك ، بعيدا عن وعي الإخضاع والحملات.
الأزمة تكمن في أن المنظومة المستبدة لا ترى لها طريقا، إلا ببقائها في القمة، وغير مستعدة لأي تسوية ولا حتى أي مساومة معها. مشهد الحكم مع نفسه هو مشهد صراع المجال بين الحكم والمعارضة ، كما هو مشهد المعارضات السودانية.
كاتب سوداني
” القدس العربي”