شحنة المخدرات و أصل الحكاية
ميمونة عبدالله فطر
[email protected]
يوم السبت 29 مارس 2014 التاسعة صباحاً، رنّ هاتف مكتب الادارة العامة للجمارك في ميناء بورتسودان الدولي. كان المتصل واحد من ضباط مكافهة التهريب والممنوعات بشواطي مدينة طرابلس الشرق- الميناء الاهم لدولة لبنان- قبالة السواحل الشرقية على البحر الابيض المتوسط. بأن عدد تلاث هاويات زرقاء اللون محملة بالحبوب والهيروين المدمرة والممنوعة مشحونة على الباخرة (س.ش.أ) التابعة لشركة الأورومتوسط العالمية حطت رحالها هنا في ميناء طرابلس واضاف، بأنه تلقى اتصالاً عالمياً قبل ذلك بيوم يفيده بأن على السلطات البحرية السماح لعبور الهاويات المتجهة الى ميناء بورتسودان. انتهت افادة المتصل.
رد الطرف السوداني على الهاتف، وهو ضابط معروف بعدم ولاءه لمحمد طاهر ايلا والي البحر الاحمر من على مكتبه ببورتسودان بان إدارته ليست لديها أية تفاصيل عن هذه الهاويات المزعومة..ولم يسمع بها من قبل. ووعده بأن تتاكد ادارة الجمارك في بورتسودان من الامر، وبعد ساعات فقط تلقى الضابط السوداني اتصالاً آخراً يفيده بأن السلطات اللبنانية سمحت لعبور الهاويات الى ميناء بورتسودان.
أثناء ذلك تلقى مسؤول كبير في حكومة البشير في الخرطوم اتصالاً عالمياً يفيده بان الشحنة عبرت ميناء طرابلس وهي الان في طريقها اليكم، وان الامور كلها مية المية وانه- اي المتصل- قام بما يليه على اكمل وجه.وان المتبقى فقط كيفية استلام الهاويات في بلدكم، وهو امر يخص سيادتكم بعد الان.
رد المسؤول الكبير بأنه على كامل الاستعداد لاستلام شحنة البضائع عبر موفده الى ميناء بورتسودان..لاحظ كلمة ( البضائع)، قالها المسئول لتمويه الرقابة والتصنت على هاتفه. وبعدها قدم شكراً وافراً على المتصل وشركته الذكية وأغلق الخط.
وبينما كانت الشحنة تبحر جنوباً على متن الباخرة عبر البحر الاحمر بإتجاه ميناء بورتسودان، انتهت ادارتي الجمارك ومكافحة التهريب في بورتسودان من وضع كل التدابير اللازمة التي تمكنهم من معرفة الامر.فقد اتصلت ادارة مكافحة التهريب بكل اقسامها بشرق السودان وشددت على الضباط المناوبين بالميناء وامرهم باليقظة على السفن التي ستصل عشية اليوم دون ان يطلعهم على عملية الهاويات المتوقع وصولها ليلاً.واشرف الضابط الكبير الذي ذكرنا انه لا يوالي محمد طاهر ايلا كثيراً..اشرف بنفسه على تفريغ الباخرة التي رست قبيل منتصف الليل بقليل.
في الاثناء ولغرابة القدر، تأخر وصول موفد المسؤول الكبير من الخرطوم لتخليص الشحنة بسلام ، الامر الذي مكّن ضباط الميناء من معرفة الهاويات المحملة بالمخدرات وتحويلها الى ادارة المكافحة ببورتسودان عبر جرارات ضخمة.
نزل موفد المسؤول بفندق الهيلتون المطلّ على كورنيش البحر الاحمر في بورتسودان لليلة واحدة . وفي الصباح اتجه نحو الميناء لتخليص الهاويات بموجب السلطة المخولة له من الخرطوم. فقد كان يحمل في حقيبته كل التصاديق والاذونات التي تمكنه من القيام باجراء الاستلام، وهو لا يعلم ان الشحنة قد تمت مصادرتها منذ عشية امس قبيل وصوله، وان شرطة وادارة مكافهة التهريب الان على وشك ان تعقد مؤتمراً صحافياً لكشف المخطط التدميري الاكبر من نوعه على مستوى افريقيا والعالم العربي.
لم تشفع رجاءات واتصالات المسؤول الكبير بضابط مكافحة التهريب لتجاوز الامر لأن ادارة مكافحة التهريب ادركت ان هناك مسؤولا حكومياً يقف وراء الشحنة. قامت الادارة نفسها في بورتسودان بالاتصال بالادارة العليا لمكافحة التهريب في الخرطوم لتوضيح الامر، لكن اتضح ان الخرطوم لم تكن على علم بالشحنة. كان ذلك قبيل الافصاح الرسمي لإبطال العملية.
اجتمع الضابط بافراد ادارته في بورتسودان وأطلعهم اخيراً على الامر. و قام بتعمييم صحفي وبيان مقروء على التلفزيون المحلى وبعض الاذاعات. وذكر في سياق كلامه ان السلطات اللبنانية اخبرتهم بأمر الهاويات منذ اسابيع من تاريخ وصولها. بعدها عم الخبر القرى والحضر دون أن يتمكن احدهم الافصاح عن اسم المسؤول الكبير الذي أغلق هاتفه في الخرطوم وتظاهر بالحمى. وهي طبعاً حمى متوقعة الحدوث اثر مصادرة بضاعته. والمصدر يقول ان تكلفة الشراء وحدها كلفت المسؤول حوالي مليار دولار، هذا طبعاً خلاف الشحن والنقل والتفريغ لاحقاً.
الضجة التي اثارها الشعب السوداني لاحقاً ازاء الامر؛ اجبرت السلطات السودانية على القيام بتحقيق فوري. لكنه كان تحقيقاً سرياً بحيث لا يجب الكشف عن اسم المسؤول اذا ثبت تورطه. و أول ماقامت به لجنة التحقيق السرية هو الرجوع الى العملية الامنية الروتينية، وهي تتبع مكالمات الجهات المتوقع ضلوعها في الشحنة. وفرغت اللجنة قبل ايام من تقريرها السري بعد تتبعات في غاية السرية. والمتوقع انها عرفت صاحب الشحنة والموفد الذي اختفى ببورتسودان، وكل الجهات الضالعة في العملية.كما يفترض باللجنة اطلاع الناس- كل الناس- بالنتائج. لكن كل هذا لم يحدث. اكتفت اللجنة السرية برفع تقريرها الى مسؤول آخر كبير في الدولة. مع العلم ان عملية اللجنة ليست رسمية وانما عملية تحقيق حزبي تمت بالتراضي بين افراداها والمسؤوليين، فالسودانيين حتى اللحظة لم يكونوا طرفاً في نتائج التحقيق، ولا حتى الحكومة الرسمية، وقد ينتهي الامر هكذا بين المسؤول الكبير والمسؤولين الكبار بالتكتم وقتل القضية بالتراضي وربما بالتحلل.!
التفاصيل التي يدلي بها ضابط البوليس وبعض المسؤوليين هذه الايام لا علاقة لها بالحقيقة. والسودانيين بطبعهم اذكياء ليسوا في حاجة الى نتائج التقارير السرية وخطابات الاعلام. فالحقيقة واضحة لانه ليس من المنطق ان يغامر تاجر عادي بإستيراد شحنة مخدرات قيمتها ملايين الدولارات عبر الميناء الرسمي للسودان. والى أن يفيق المسؤول الكبير- صاحب الشحنة- من صدمته ؛ ننتظر تفاصيل جديدة من مصدرنا ونوافيكم.