شبق الأسلمة نحر قلب ود مدني

صلاح شعيب

مدني أو ود مدني سيان. كانت. ولكن ما بدا من هزيمة أهليها من الهلال العاصمي، قبل أيام معدودات، بنتيجة ستة صفر أن أزمة عميقة تعايشها المدينة التي شهدت أرجاؤها تبلور أجنة اتحاد الخريجين عام 1937. وتنظيم اللواء الابيض نفسه نشأت بذراته الأولى في مدني عقب المواجهة التي حدثت بين علي عبد اللطيف والمفتش الانجليزي الذي توقع أن الضابط العظيم سيترجل من صهوة جواده ليحييه في يوم من أيام 1924. فمن جوف المدينة التي اسهمت في الحداثة الغنائية أكثر من أي مدينة أخرى، خرج العديد من طلائعها الذين عادلوا كفة أمدرمان في كل شيء. وربما دوافع التنافس مظهرت قدرات ابنائها العالية في تمثل ثقافة، وانتاج أمدرمان، وتجاوز معطياتهما.

مدني هي شفاف الحس الذي انعكس في نفس أبنائها الفني. الكاشف، والخير عثمان، ورمضان حسن، ومحمد الأمين، ومحجوب عثمان، وعوض الجاك، ورمضان زايد، وعمر أحمد، وأبو عركي، ومحمد سلام، والتاج مكي، ومحمد مسكين، وعبد العزيز المبارك، وعلي السقيد، وآخرون، مميزون بمتواليات إبداعية. ومدني انجبت الموسيقارين الفاتح حسين وعثمان النو، وأفضل عازف إيقاع فايز مليجي، وآخرين. ووالد مليجي كان هو نفسه معلما للموسيقى. ولا ننسى أن الحاج سرور قد ولد في قرية من أعمال مدني، وهي ود المجذوب. وقضى هو وعلى المساح ردحا من زمانهما هناك. أما خليل فرح بك فقد عمل هناك في البريد والبرق وأنشد:

مالو أعياه النضال بدني وروحي ليه مشتهية ود مدني

ليت حظي يسمح ويسعدني طوفة فد يوم في ربوع مدني

كنت أزور أبويا ود مدني وأشكي ليه الحضري والمدني

آه..على حشاشتي ودجني وحنيني ولوعتي وشجني

أه.. دار أبويا ومتعتي وعجني يا سعادتي وثروتي ومجني

بيد أن كاشف المدينة أذهل مايسترلي. كان أثناء فترة انتداب الوزارة له في نهاية الخمسينات يبقى في دار الإذاعة معتكفا للاستماع إلى غناء السودان منذ همهمات الهمبي، والطنابرة ليقيمه. في كل مرة يأتي إليه مرافقه بأسطوانة جديدة يقول له بعربية مكسرة: ” كاشف مافي..أقين جيب كاشف..كاشف تمام”. فالموسيقار الإيطالي كان يرى في جمل الكاشف الموسيقية تفردا حتى عده عبقري عباقرة النغم في البلاد. ولكن ماذا يقول أوزو مايسترلي لو أنه سمع تجديدات ابن حي ود أزرق محمد الأمين اللاحقة، ذلك حتى يرى الكيفية التي ينافس بها أبناء مدني مبدعي القطر؟. وماذا يقول لو أنه تحسس، لاحقا، السوريالية اللحنية التي ضمخت أعمال أبو عركي؟. فعركي، خلافا للآخرين يضرب في مقام ضيق من جغرافيا العود عشرة تون عند ثوان. ولا تذكر ود مدني إلا وذكر بدر التهامي. هو أول من عزف الكمنجة في مدني العشرينات، ترافقا مع نهضة ثقافية فيها واكبت تلك الانطلاقة لجمعية اللواء الابيض. وقد حكى أن مدني لو بقيت العاصمة ليومنا هذا لما انكببنا على وجوهنا التي رهقتها قترة.

إن مدينة الشيخ السني، والذي يقال برواية عمنا بدر الدين يوسف إنه يتحدر من غرب أفريقيا، وهو أحد حفدته، كانت حقا عاصمة التفويج التركي الأول في مطلع القرن الثامن عشر قبل أن تتحول القيادة العامة إلى الخرطوم. وربما وجدنا الأعمدة التي قامت عليها المدينة، أوان تلك الريادة مقابل مدن أخرى، جعلتها تثبت مساهمتها في قيادة الإبداع الفكري، والسياسي، والثقافي، والرياضي. فالمدينة المزيج وهبت ابناءها حسا مرهفا في النظر الى أي شي. فالملفت أن ابنها أحمد خير مفكر الخريجين كان مثقفا طلائعيا قبل أن يستوظفه الفريق عبود، ومثلت مقالاته رؤية متقدمة للمثقف بطابعه الغرامشي. ولم يكن النضال ليعيي بدنه لولا التآمر الطائفي الذي قضى على فكرة مؤتمر الخريجين، إذ منذ ذلك الوقت بدأت ثقافة التسييد تقضي على ثقافة التجديد للأولاد الطموحين من الخريجين في ذلك الزمان، وكل زمان أعقبه.

-2-

“كرة قدم” ود مدني ظلت منذ الاستقلال منافسة للخرطوم، وكان الأهلي مدني إلى زمن قريب يمثل الند الأقوى للهلال والمريخ، وإذا كانت الموردة تمثل الضلع الثالث في منافسة الدوري العاصمي، فإن الأهلي مدني كان يمثل الضلع الثالث على مستوى كأس السودان مع حي العرب بورتسودان. الأكثر من ذلك فإن فرقها بدء من جزيرة الفيل، والهوارة، والشعلة، والنيل، والأهلي، والنيل، يمثلون الدعامة الاساسية لناديي القمة. فنذكر حموري، وبابكر والفاضل سانتو، وحمد، والديبة، وسامي عز الدين، والطاهر هواري، وأبو عبيدة، ومرتضى وعبد العظيم قلة، وآخرين. إذن تبقى هذه الهزيمة النكراء لأهلي مدني تدهور في سيوسيولجيا المدينة أكثر منه تدهورا في مهارات اللاعبين وتكتيكات ابن المدينة، و شيخ المدربين السودانيين سيد سليم. ولكن من هو الناقد الرياضي الذي يغوص وراء هزيمة الأهلي ليبلور لنا إلى أي مدى أناخ الخراب بكلكليه في فضاء المدينة التي كانت آية في الجمال. ومواطنوها بحق أهل ظرف، وذوق، وفصاحة. وفنادقها بما فيها من امبريال، وكونتنتال، نماذج لنظافة الضيافة. وإدارة مشروع الجزيرة نسق للإدارة جيد. وأحياؤها مثل دردق، والنهضة، وحي الزمالك، وحي الموظفين، نهج من التسامح متضام. لا بد أن وراء هذا التدهور عوامل تتصل بطبيعة المشروع السياسي الذي طبق وجعل بورتسودان، وكسلا، وعطبرة، وسنار، والأبيض، هياكل لمدن كانت تحكي قصة الازدهار النسبي في الوعي السياسي، والثقافي، والرياضي. ونكاد نجزم أن أهل هذه المدن الحقيقيين لا قبل لهم بما يجري من تخريب لبنياتها في ظل الهجرات المليونية لأبنائها، وتوطن الانتهازية، وتفشي الرجوع إلى العشيرة.

إن المسألة لا تتصل باستثنائية الخراب الذي شمل مدينة الممثل الراحل إبراهيم خان. ولكن كونها كانت نموذجا من نماذج السودان المصغرة التي كانت تتطور باتجاه لصهر الأصول السودانية مع التركية، مع الأرناؤوطية، مع المصرية لمبدعي وسكان المدينة لخلق مجتمع هجين، على أن يتم النظر إليه وفقا لعلاقات انتاجه التي تبين أنماط الفكر، والثقافة، والاجتماع، والاقتصاد، إلخ. غير أن الإسلام السياسي لا يهتم بدراسة هذه المكونات وإنما هو أصلا يملك فكرة مسبقة للدولة تتنزل من عل، بدلا من أن تنبثق من القاعدة. فحكومة المؤتمر الوطني لا يبدو أنها مهتمة إلا بدمج هذه المكونات في قاطرتها حتى إن ادلهمت بها الخطوب وظفت هذه المكونات الحساسة لضرب وحدة هذه المدن وتخثيرها لصالح الطبقة السياسية، والرأسمالية، التي تتبنى الإسلام، وتحطم قيمه في الوقت نفسه. ولذلك فإن الإسلام السياسي لم يكن حريصا على المحافظة على هذه المعطيات المدينية لهذه البقاع. ولا يبدو له الاهتمام  بتدهور رياضة مدني إلا ترفا إن لم يجد فيه مدخلا لتجييش، أو ربحية، أو تشطير لصالح منعته. فالهلال والمريخ المدعومان ماليا من المؤتمر الوطني هما الدلالة على عدم أهلية وديموقراطية الحركة الرياضية التي أطاحت بشداد، ووظفت استاذ الرياضيات محمد الشيخ مدني وكفته مع أبنائه شر الفقر. والسودانيون كتاب مفتوح يا أبو القوانين الرياضية. وذلك الدعم الذي يتلقاه الناديان القوميان ليس إلا هدف للتحشيد.

-3-

لقد تجسدت الليبرالية السودانية في مدني حتى إن شواذها، وعاهراتها، كانوا مقدرين بظرف الموقف. ولسان حال العامة يقول: كل ميسر لما يرغب في هذه الدنيا. ولم تكن المدينة بدعا في هذا. فشواذ كل المدن السودانية كانوا جزءاً من المجتمع الذي يخلق قاعه الذي يأوي إليه خلسة ليستريح، ويتسلى، ويفرغ عواطفه. إنها العضوية المركبة للسيوسيولجي السوداني التي ظلت فيه ممارسات الحرية الفردية، والجنسانوية، مواءمة مع حركية المجتمع في مده وجزره المتكامل، كما حركية أعضاء الجمل. إذ لا يتخلف عضو عن آخر في المسير الذي يخلق إيقاع الجمالة البطئ. ولعل المسكوت عنه في مجتمع مدني، ومجتمعات القضارف، ونيالا، ومروي، وكسلا، وكادقلي، كان يعالج بالصمت الذي يستبطن تسامحا ليبراليا، ودينيا، في الوقت نفسه.

فليبرالية المدينة لم تكن عموما عاملا للقول بتفسخها كلية، أو جزئية، أو بتخييب المجتمع. وإنما كان ذلك الشكل من التسامح الطبيعي هو الذي يناسب الإنسان، أيما كان، ما دام أن الإصلاح المتصور اجتماعيا، أو دينيا، يأتي بالحرية، وليس من خارج أقنومها. ولعل تلك الليبرالية قد جعلت المدينة تزدهر آنذاك في جميع أركانها، بل إن مدننا تسامحت بها، وعززت مسارها في ثبج الزمن. هذا إذا تيقنا أن هذا الازدهار تم، وما يزال، بناء على المعطيات المجتمعية المركبة فترة سودان ما بعد المهدية. كما أن مقارنة الازدهار ممكنة إقليميا إذا نظرنا إلى المجتمعات المماثلة من حولنا. فكثيرون يسقطون مناهج خارجية خلافا لإمكانية قراءة هذا المجتمع أو ذاك وفق ماكنيزماته العشائرية، والنفسية، والفكرية، والتعليمية، والدينية، إلخ. وربما الذي يغنينا من كل ذلك هو إحداث المقاربة بين منتجات ذلك الزمان، وهذا الواقع الذي نحياه. فواقع مدني الآن هو شهادة على تمكن النفاق، والحضيض السياسيين، والدينيين، من الامساك برقاب هذه المدن السودانية، بوصفها تمثل موائل الطبقة الوسطى التي تحدث التغيير، ومعناه. بل وتمثل أداة مقاومة طموحة ضد الوعي التناسلي للطبقة الحاكمة. ولهذا يفهم معنى تحطيم إرث حنتوب، التي كانت تضم ستة وعشرين مدرسا إنجليزيا. وكذلك يفهم معنى تحطيم وادي سيدنا، وخورطقت، والفاشر الثانوية، وبورتسودان العليا. ونذكر أن هذه المدارس كانت بوتقة لصهر الطلاب السودانيين ليسهموا في بناء الوطن. وتبعا كان لا بد أن يعطب جهلاء السياسة الجدد حركة هذه المدارس النموذجية ليقيموا فيها جامعات فشلت في أن تخرج طلابا قادرين على إجادة العربية والإنجليزية معا.

لم تكن مدني، في الحقيقة، معنية بتطوير الابداعية الانسانية لمواطنها فحسب، وإنما كان لها ايضا القدح المعلى في إبراز العديد من الاصوات الإعلامية. فقد خرج من أحد أحيائها الإذاعي المخضرم عبد الرحمن زياد، والذي ما يزال عطاؤه الإعلامي يتدفق شلالا رويا في إذاعة سوا، وقبلها عمل لـنصف قرن في (صوت أميركا). وهناك أبنها الإذاعي والصحافي محمود ابو العزائم، وشاعرها الصحافي فضل الله محمد، ونطاسي حرفها معتصم الأزيرق، مثالا. ويتفاوت أداء هؤلاء الرموز بحسب المواقف السياسية، والوجهات الفكرية، والثقافية، التي اتخذوها. ولكن الإيجابي في عطائهم يعود إلى لوازم الوعي الباكر الذي تشربوه في مدني. ولقد كان لهم تأثيرهم في العمل الصحفي، والإذاعي، والتلفزيوني، واضافوا للأجيال حرفيا. ويحكي لنا الهرم الإذاعي عبد الرحمن زياد أن مدني الأربعينات كانت أكثر تمثلا لمزيجها الإثني والثقافي من أمدرمان. ويضيف أن غياب التنافس على مؤسساتها غير السيادية، والدبلوماسية، والوزارية، على خلاف أمدرمان، أفرز نظاما حرا، ومضبوطا للترقي في ذات الوقت. وحكى للكاتب أن والده عثمان زياد سر تجار مدني كان رقما في المدينة التي احتفت بمقدم جدوده من صعيد مصر. وزياد يمت بصلة قرابة إلى الأستاذ فاروق أبو عيسى الذي ولد في مدني. وتمتد قرابته أيضا إلى أسرة رجال الأعمال الراحل عبد المنعم محمد، وهؤلاء كلهم قد قدمتهم المدينة وعرفوا قوميا بعطائهم. ومع ذلك يتساءل رئيس البلاد عن أصول هؤلاء الرموز، وكأنه بذلك يريد تجريدهم من الانتماء إلى البلاد التي قدموا لها أكثر من أسرته.

رصيد مدني الاجتماعي، والثقافي، والفني، الذي انقضم بسبب الضربات الأيديولوجية الموجعة للتراث المديني السودانوي، ونكرر أنه نسبي في كل الأحوال، ينم عن جهل الرهان علي الأيدلوجي، لا بوصفه ركيزة لتفسير الحياة بالحياة، وإنما بوصفه يحيل الشمول إلى القصور، أو الجماعي إلى الفئوي، أو الكلي إلى الجزئي. فمنذ ان بدأت علاقة الإنسان مع الأرض ظلت الأيدلوجية تعصر دم المجتمع في زجاجات تغذي جسد الاستبداد حتى تنهيه في ذاته. ومثقفو مدني، وطبقتها الوسطي، مثلهم مثل مثقفي المدن الأخرى دفعوا ثمن تجاهل الهوس العقدي، وبالتالي فقدوا حياتهم الليبرالية التي لم تقم علي أسس عفوية. والشاهد أن المثقف الفاعل في مدني كان أفنديا هروبيا بامتياز، وفقا لشهادة خالد الكد. إذ ركز على تحقيق الذاتي على حساب الموضوعي. ولذلك ضاع تراث الصناعات الكبيرة والصغيرة، وحنتوب، ومشروع الجزيرة، وغاص نبع المواهب التي كانت تتفتح بين فترة وأخرى. بل، في الحقيقة، ضاعت المدينة في لجة شبق السوس الإسلاموي، وعليه كيف لا يضيع سيد الأتيام في ليل الأسى الوطني البهيم؟. وهنيئا للكاردينال والوالي هذا المجد الزائف.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *