سيناريوهات المشهد السودانى بين خيارات الوحدة ومأزق الإنفصال

 سيناريوهات المشهد السودانى بين خيارات الوحدة ومأزق الإنفصال

 

بقلم / آدم جمال أحمد – سدنى

 

لقد شهد السودان فى الأونة الأخيرة عدة أحداث وتطورات كبرى أثرت بظلالها على مختلف الأطراف الفاعلة في السودان ، فبدأت بموجبها صورة المشهد السياسى فى السودان لكل المراقبين والمتابعين للشأن السودانى بالغة القتامة والتشاؤم ، فالحرب فى دارفور لا يزال لهيبها مشتعلاً وهذا بدوره سوف يؤثر على حياة الملايين من أهالى دارفور فى ظل غياب السلام ، وكما أن إتفاق سلام نيفاشا الذى أنهى أطول حرب أهلية فى أفريقيا بجنوب السودان ما فتئ يصارع الأمواج العاتية من أجل البقاء والإستمرار وسط جدلية تجاذب الوحدة  والإنفصال ، كما أن هناك قنابل مؤقوتة لبؤر التوتر وخطوط التماس الملتهبة بين الشمال والجنوب تهدد بعودة العنف والصراع على نطاق واسع وهو ما قد يفضى إلى تفتيت وتفكيك أركان الدولة السودانية.

 

ولعل أهم هذه الأحداث يتمثل فى قرار المحكمة الجنائية الدولية بإعتقال الرئيس عمر حسن البشير وذلك لإتهامه بإرتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة ضد الإنسانية في دارفور .. ولا شك أن تداعيات هذا القرار على حزب المؤتمر الوطنى الحاكم كانت بالغة الخطورة ، فقد أضحى سيف العدالة الدولية مسلطاً بإستمرار على رقبة النظام ، كما أن المجتمع الدولى منح فرصة سانحة للضغط على الخرطوم بهدف تحقيق مآربه وأهدافه المعلنة وغير المعلنة ، ولكن كان رد فعل الحكومة السودانية على قرار إعتقال الرئيس البشير  جاء سريعاً والتى تمثل فى طرد 13 منظمة إغاثة دولية تعمل فى شمال وغرب السودان ، مما تسبب ذلك فى إشكالية العلاقة بين السياسى والإنسانى فى العمل الإغاثى الدولى ، وهو ما حاولت حكومة المؤتمر الوطنى إستخدامه لتبرير خطة “سودنة” جهود الإغاثة والعمل الإنسانى في السودان ، ولكن قبل أن تفوق الحكومة من ذلك جاءت الأزمة الاقتصادية  العالمية ، والتى لا يمكن الاستهانة بها فلقد عانى منها السودان ، وأثرت بدورها وفرضت قيوداً على حركة الحكومة ، وذلك بسبب تأثيرات الأزمة المالية العالمية وإنعكاساتها على السودان فى كثير من الجوانب ، مما جعل حكومة السودان تستجيب لضغوط قوى الدول من المانحين والمستثمرين الأجانب.

 

ولا يخفى على أحد بأن فهم هذه التحولات والتطورات التي شهدها الواقع السودانى الراهن وإمكانيات التغيرات الناجمة عنها يعد أمراً ضرورياً لصياغة رؤية إستراتيجية ترسم معالم الدولة السودانية في المستقبل المنظور ، ولعل فوز الرئيس باراك أوباما فى إنتخابات الرئاسة الأميركية يعد تطوراً مهماً بالنسبة للمسألة السودانية ، لأنه قد سارع بتعيين سكوت غريشن مبعوثاً جديداً له في السودان بحيث أضحت أزمات السودان ولا سيما ملف دارفور وتنفيذ إتفاق السلام الشامل مع الجنوب تحظى بأولوية ملحوظة فى أجندة إدارة أوباما الجديدة ، مما يعطى فرصة لتغير الواقع السودانى المتأزم حول قرار التحكيم الدولى حول منطقة أبيى والذى جاء في جوهره توافقياً ليدفع باتجاه تحقيق السلام والتعايش المشترك ، وإذا كان السودان بموروثاته الثقافية والحضارية يختزل فى مكوناته الإجتماعية والمادية ملامح عوالم ثلاثة تجمع بين العروبة والأفريقية والإسلام فإن منطقة أبيى تمثل بالنسبة للوطن السودانى الجامع الخيط الناظم لنسيج الأمة السودانية الواحدة ، وقد أكد هذا المعنى دينق ماجوك الزعيم التاريخى لدينكا أنقوك بقوله “إن الرباط الذى يصل شمال السودان بجنوبه يمر عبر أبيى”.

 

لكن هناك العديد من التحديات التى سوف تظل تواجه المشهد السياسى السودانى القادم والتى تتمثل فى الآتى:

الإنتخابات الجزئية المؤجلة والمشورة الشعبية فى جنوب كردفان:

 

شهدت العملية الانتخابية فى ولاية جنوب كردفان تأجيلاً جزئياً عن الموعد المقرر ، بعد عملية شد وجذب ما بين الحكومة والحركة الشعبية وذلك فى عدم حسم بعض القضايا المرتبطة بها مثل الإحصاء والتعداد السكانى المشكوك فيه ، والذى يعد محورياً فى تحديد حدود الدوائر الإنتخابية والسجل الإنتخابى ، وهذا بدوره يؤكد حقيقة بأن توقيع إتفاق السلام الشامل بين شريكي الحكم في السودان ( حزب المؤتمر الوطنى بزعامة البشير والحركة الشعبية بزعامة المرحوم جون قرنق ) لا يزال هذا الإتفاق هشاً ومراوغاً كما لو كان يعكس حال الوضع السودانى العام ، إذ لا تزال العديد من الجماعات المسلحة تنتظر من ينزع سلاحها ، كما أن بعض مؤسسات الدولة الحيوية بحاجة إلى إعادة بناء أو إصلاح ، بالإضافة الى ذلك قضية الإنتخابات الجزئية المؤجلة والمشورة الشعبية فى جنوب كردفان وإجراء إستفتاء حق تقرير المصير في جنوب السودان ، ولم يقتصر الأمر على تأخير الإحصاء والتعداد السكانى عن موعده وإنما أضحت نتائجه موضع تنازع وعدم إتفاق ولا سيما من جانب الحركة الشعبية بجنوب كردفان ، ولا شك أن لهذا التأخير وعدم الحسم بالنسبة للإحصاء وعدم قبول قيادة الحركة الشعبية بجنوب كردفان بنتائج التعداد ، والتى تعتبر نتائج سلبية على عملية تسجيل الناخبين وإجراء الانتخابات للمجلس التشريعى بالولاية ومنصب الوالى وكذلك الاستفتاء فى الجنوب.

 الصراعات فى ولايتى دارفور وجنوب كردفان:


 الصراعات الكامنة والمشتعلة فى مناطق أخرى من السودان مثل دارفور وجنوب كردفان تحتاج الى تسوية حقيقية لتدفع بعملية السلام وتحقيقه على أرض الواقع في هذه المناطق ، التى تنذر بحدوث عكس هذه التوقعات ، فالصراع الدارفورى يهدد بتحويل كافة الموارد الدولية والإقليمية إليه وهو ما قد يغطى على المكاسب التى حققها إتفاق السلام الشامل فى الجنوب ، وتحاول معظم فصائل التمرد في دارفور تعظيم مكاسبها السياسية بكافة الطرق بما فى ذلك الأداة العسكرية وهو ما يجعل التفاوض بشأن التسوية السلمية عملية شاقة ومعقدة.

وعلى صعيد آخر فقد ظهرت بؤر التوتر مرة أخرى في مناطق الصراع السابقة فى شرق السودان وعلى طول الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب ، كما ظهرت صراعات جديدة حول الموارد الطبيعية شمال وادي النيل ، بالرغم أن إتفاقية السلام الشامل تطرح نموذجاً تفاوضياً مهماً لكافة الأطراف بهدف بناء مؤسسات جديدة أو إستخدام تلك المؤسسات بهدف الوصول إلى سلام يجمع بين الشمال والجنوب في إطار دولة واحدة ، ومع ذلك فإن شريكى الحكم في السودان قد أهملا هذا الجانب الذى يعظم من مبدأ إقتسام الثروة والسلطة بما يجعل خيار الوحدة جاذباً لجميع المناطق السودانية سواء كان فى الشمال أو الجنوب ، وعوضاُ عن ذلك تم تكريس كافة الجهود لدعم سلطة المؤتمر الوطنى في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب.

وتشير التقديرات الرسمية إلى أن 40% من إنفاق حكومة الوحدة الوطنية قد ذهب إلى مجالات الدفاع والأمن والنظام العام فى عام 2006 م ، كما أنفقت حكومة جنوب السودان نحو 30% من ميزانيتها في عام 2008 م على الأمن والدفاع ، بل إن بعض التقديرات غير الرسمية ترفع من هذا الرقم ليصل إلى 60% ، ويلاحظ أن دخول المحكمة الجنائية الدولية طرفاً في أزمة دارفور بإصدارها قراراً يقضى بإعتقال الرئيس البشير قد غير من ملامح المشهد السياسى السودانى بشكل كبير وذلك من عدة نواحى:

 

۱-  لقد أدت إلى تعنت فصائل التمرد وحركات دارفور وعدم رغبتها في العودة إلى طاولة المفاوضات وذلك على أمل الاستقواء وتنظيم صفوفها بالخارج وتغيير النظام الحاكم فى الخرطوم.

٢-  لقد إضطر المؤتمر الوطني الحاكم إلى تقديم بعض التنازلات بهدف الحصول على الدعم الداخلى كما فعل مع حزب الأمة والحركة الشعبية.

۳- حاول البشير إتخاذ بعض الإجراءات الرمزية مثل الإعتراف بمعاناة أهل دارفور والإستجابة لبعض مطالب حركات دارفور مثل إقامة صندوق للتعويضات والنظر فى مسألة توحيد ولايات دارفور الثلاث.

 

ويبدو أن إستراتيجية نظام البشير في مواجهة هذه الضغوط الدولية تتمثل في المحافظة على بقائه في السلطة ، وفي سبيل ذلك يبدى النظام مرونة واضحة لتقديم تنازلات فى سعيه للحصول على أصدقاء وحلفاء فى الداخل ، وقد رأينا ذلك الموقف الحكومى فى أكثر من مناسبة واحدة مثل موافقته على تسوية ملف أبيى عبر التحكيم الدولى والقبول بنتائج ذلك التحكيم ، كما أنه أعطى الضوء الأخضر للحركة الشعبية من أجل التوسط فى الصراع الدارفورى.

السيناريوهات المرتقبة:


هناك ثلاثة سيناريوهات تحكم المشهد السودانى فى هذه المرحلة على النحو التالى:

 

۱- سيناريو الإنفصال:

 

يبدو أن خيار الإنفصال يمثل فى ظل المؤشرات الراهنة مأزقاُ خطيراُ أمام دولة الجنوب المرتقبة ، حتى في حالة قبول الشمال لمبدأ التعايش مع دولة جنوبية ، فقد أظهرت حكومة الجنوب عجزاً واضحاً في القيام بمهامها التوزيعية ولا سيما في مجال الحاجات والخدمات الأساسية مثل المياه والغذاء والطرق والصحة وما إلى ذلك ، إذ إنشغلت حكومة الحركة الشعبية بإنفاق عوائد النفط على البنية العسكرية والأمنية فى الجنوب من أجل الإستعداد لتقوية جيشها لحماية حدود دولتها وردع الشمال ، بالإضافة الى أن هناك العديد من التقارير التى أظهرت تفشى الفساد والتلاعب بالمال العام وسوء الإدارة بشكل كبير في جنوب السودان ، وكذلك تشير التقارير السابقة إلى أن جنوب السودان لا يمثل دولة متكاملة الأركان ،  فلذلك هي غير قابلة للإستمرار والبقاء ، وهناك أيضاً إرهاصات تعتبر ثمة مجموعة من العوامل والتوقعات قد تفضى إلى إندلاع العنف والفوضى والتى قد تمتد آثارهما إلى الشمال وهذا التوجس بدأ واضحاً لدى بعض الساسة الجنوبيين أمثال فرانسيس دينق الذى كان من أكثر المتحمسين لمسألة الإنفصال ، بالإضافة الى بعض القبائل مثل الشلك والإستوائيين وجنوبى الشمال الذين إرتبطت حياتهم بالمدن الشماية قد لا يصوتون للإنفصال ، ولعل من أبرز تلك العوامل أيضاً إمكانية نشوب صراعات قبلية أو تفجر بؤر التوتر في جبال النوبة ، وخاصة فى ظل الحشود العسكرية والإستخباراتية والأسلحة الثقيلة التى دفعت بها الحكومة الى منطقة جبال النوبة تحسباً لأى طارئ أو النيل الأزرق ، وأخطر من ذلك كله عدم قدرة حكومة الجنوب على تلبية ثورة التوقعات المتزايدة لدى الجنوبيين.

 

٢- سيناريو الفوضى:

 

لكن ما نخشاه قد يترتب على الإنفصال سيناريو الفوضى ، إذ تنذر القضايا الخلافية وبؤر التوتر بين الشمال والجنوب والتى لم يتم حسمها قبل إجراء الإستفتاء العام بدخول السودان حالة من العنف والفوضى العارمة ، فغياب الثقة بين شريكى الحكم وعدم رغبتهما أو قل عدم قدرتهما على مواجهة القضايا الأساسية بينهما قد يؤدى إلى عودة الصراع مجدداً بين الشمال والجنوب على نطاق واسع هذه المرة ، وثمة مجموعة من القضايا المحورية يمكن أن تقود إلى هذا الإحتمال ومن ذلك الإحصاء السكانى والتعداد المتنازع عليه فى جنوب كردفان والمفوضية المنوط بها تنفيذ إجراءات المشورة الشعبية ، وكذلك عدم حسم بعض أبعاد السياسة النفطية في البلاد ، وغموض الرؤية الخاصة بقانون الإستفتاء وحق تقرير المصير ، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل النازحين والمهاجرين وترسيم الحدود بشكل نهائى بين الشمال والجنوب.

 

۳- سيناريو الوحدة:

 

يعتمد ذلك على قدرة كافة الأطراف السودانية في تحقيق إختراقات مهمة على صعيد القضايا الخلافية والحاسمة ونحسب أنه قد فشلا الطرفان فى ذلك ، ولعل مثل هذا التوجه قد يجنب البلاد حالة الفوضى والعنف ولكنه لا يمثل حلاً بعيد المدى لأزمات السودان المستعصية ، ويمكن القول بأن مثل هذه الإستراتيجية التوافقية تعتمد على عدد من القضايا لعل من أبرزها الوصول إلى صيغة توفيقية خاصة بما يعزز من إجراءات بناء الثقة بين شريكى الحكم ويمهد الطريق أمام قبول نتائج الإستفتاء في الجنوب .. بالإضافة إلى ذلك ينبغى الوصول إلى رؤية مشتركة حول مستقبل السودان بشكله الجديد بما في ذلك تسوية قضايا المناطق الثلاثة ( أبيى وجنوب كردفان والنيل الأزرق ) والصراع الدائر في دارفور حتى لا تصبح سبباً في إثارة الصراع والعنف.

وأياً كان الأمر فإن خيار الإنفصال يمثل مأزقاً لا يمكن لحكومة الجنوب أن تتحمل تبعاته وتكلفته الباهظة ، كما أن سيناريو الفوضى والعنف قد يتجاوز حسابات مختلف أطراف المسألة السودانية وهو ما يعنى تفتيت وتقسيم السودان إلى كيانات هشة وضعيفة لا تقوى على الحياة ، عندئذ يصبح خيار الوحدة جاذباً ومفيداً لكافة الأطراف ولكنه بحاجة إلى إرادة سياسية من الداخل ودعم ومساندة كبيرة من الخارج.

 

فهل يستطيع أهل السودان بما حباهم الله من عبقرية فى المكان والتاريخ أن ينهضوا من عثرتهم ويساهموا فى بناء السودان الموحد بصورة جديدة وتجنب الإنفصال وتمزق وتفتيت السودان ؟.

 

 

سدنى    استراليا         20  نوفمبر 2010 م

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *