تحليل
الخرطوم (رويترز) – منذ بضعة أسابيع جلس نشط بارز من المعارضة السودانية في مكتب بوسط مدينة الخرطوم ليتحدث الى صحفي وسارع الشاب الى اخراج البطارية من هاتفه الجوال.
وضع البطارية والهاتف على الطاولة وقال “هذا حتى لا يتعقبونك. اي جهاز أمني من تلك المنتشرة في أنحاء البلاد يمكن أن تلقي القبض عليك.”
وعلى الرغم من هذا الخطر قال النشط من الحركة السرية التي تسمى “التغيير الان” انه مقتنع بأن السودان على شفا انتفاضة الربيع العربي الخاصة به.
وأدت صعوبة الاوضاع المعيشية وتزايد الغضب من حكومة الرئيس عمر حسن البشير التي تحكم السودان منذ 20 عاما الى اندلاع احتجاجات صغيرة الحجم في الخرطوم ومدن اخرى.
ولاتزال المظاهرات صغيرة جدا اذا قورنت بتلك التي هزت مصر وليبيا. وأحيانا يتجمع نحو 30 شخصا ويرفعون لافتات تندد بالحكومة لبضع دقائق ثم يختفون قبل أن يصل ضباط أجهزة الامن. لكن المظاهرات تكررت بمعدلات أعلى في الاشهر القليلة الماضية والسؤال هو هل يمكن أن تؤدي الى شيء اكبر؟
التحدي الاقتصادي الاساسي واضح. حين انفصل جنوب السودان عن الشمال العام الماضي خسرت الخرطوم نحو ثلاثة أرباع نفطها وهو مصدر الدخل والعملة الصعبة الرئيسي للحكومة. وانخفض سعر الجنيه السوداني نحو 70 في المئة دون السعر الرسمي. وبلغ معدل التضخم السنوي 18 في المئة بعد ارتفاع اسعار الاغذية المستوردة. كما تستنزف المعارك ضد حركات التمرد في أجزاء عدة من البلاد الشاسعة أموال الحكومة.
وفي عام 1985 أدى تضخم أسعار الغذاء الى الاطاحة بالرئيس جعفر النميري خلال نحو عشرة ايام. لكن الحكومة في الخرطوم تقول اليوم ان الاقتصاد ليس بالسوء الذي كان عليه في الثمانينيات حين كان الناس يضطرون للوقوف في طوابير على مدى ايام ليحصلوا على البنزين والطعام بالبطاقات التموينية. ويقول السودان انه لن يسير على نهج مصر او تونس.
وقال ربيع عبد العاطي وهو مسؤول كبير في وزارة الاعلام وفي حزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه البشير ان الاقتصاد افضل كثيرا من عام 1989 حين تولى البشير الحكم.
وأضاف أن الوضع في ذلك الحين كان سيئا للغاية وأن الحكومة لديها القدرة على التغلب على كافة الصعاب.
وفي الاسبوع الماضي تحدث البشير الذي تطلب المحكمة الجنائية الدولية القاء القبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في التلفزيون الحكومي لنحو ساعتين وقد بدا عليه الارتياح ليطمئن الشعب بأن الوضع الاقتصادي تحت السيطرة.
وقال الرئيس ان السودان لديه برنامج اقتصادي مدته ثلاثة أعوام لكن العام الحالي سيكون الاصعب.
ظاهريا تبدو الحياة في العاصمة الخرطوم طبيعية. تلوح رافعات البناء على ضفتي النيل لتشيد مباني وتمد طرقا جديدة. وتعج المدينة بالعمال الاجانب والخادمات وموظفي الفنادق.
لكن هناك مؤشرات متفرقة على تزايد الغضب الشعبي.
وفي الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر كانون الاول أغلقت السلطات جامعة الخرطوم مؤقتا بعد أن نظم قرويون نازحون من جراء مشروع لانشاء سد لتوليد الكهرباء بالطاقة المائية احتجاجا مما أدى الى اندلاع اكبر مظاهرات طلابية منذ سنوات. بعد ذلك بأسابيع ظلت الكتابات على الجدران تدعو الى “الثورة” تغطي بضع حوائط قرب الجامعة.
وقالت طالبة في قسم تكنولوجيا الكمبيوتر شاركت في الاحتجاج “معظم الناس لم يكترثوا لمظاهرتنا الاولى لاننا كنا جميعا في اجواء الامتحانات.”
وأضافت أنه حين جاءت الشرطة الى مساكن الطلبة ذات ليلة لاعتقال بعضهم “أصبح احتجاجا ليس ضد السد وحسب وانما ضد الفقر والتضخم والاوضاع السيئة للطلبة ايضا.”
وقالت “كأن الغضب انفجر… الان يريدون معاقبتنا باغلاق الجامعة لكن هذا سيزيد الامور سوءا. لا نحصل على وظائف بعد التخرج. تكاليف الحياة باهظة. والناس غاضبون جدا.”
وقال عبد العاطي المسؤول في وزارة الاعلام ان الاحتجاجات كانت صغيرة وان الجامعة ستفتح أبوابها من جديد قريبا.
جلس عامل البناء فاتح توتو امام ورشة صغيرة للمعادن يملكها في وسط مدينة الخرطوم محاولا أن يتذكر اخر مرة عمل فيها لمدة أطول من أسبوع. في الوقت الحالي لا يعمل سوى ليومين بفاصل يصل احيانا الى أسبوع.
وقال توتو “منذ ثلاثة او اربعة أعوام كانت الحياة افضل كثيرا. كانت البلاد في وضع جيد. وأعمال البناء كانت جيدة” وهو ما اتفق معه فيه عدد من العمال الذين جلسوا على مقاعد بلاستيكية صغيرة على طريق مترب.
وحرم استقلال الجنوب السودان الذي يبلغ عدد سكانه 32 مليون نسمة من نحو 350 الف برميل يوميا من اجمالي نصف مليون يضخها. ومنذ ذلك الحين انخفضت صادرات النفط التي كانت تمثل 90 في المئة من اجمالي صادرات السودان الى صفر.
ولا يخدم الانتاج في الشمال الذي يبلغ نحو 115 الف برميل يوميا الا الاستهلاك المحلي.
ويقول علي فيرجي المحلل في معهد ريفت فالي “تنفق البلاد نسبة هائلة من الموارد المتاحة على أجهزة الامن. في ظل وجود ثلاثة صراعات فان احتياجات الجيش من الخزانة الوطنية تتزايد.
“ورغم اتخاذ بعض اجراءات التقشف فان هناك رغبة عامة في الحكومة في عدم اتخاذ اي خطوة قد تؤدي الى استياء شعبي.”
ولكن كيف يعثر السودان على عائدات جديدة.. قدرت الخرطوم أن تصدر ذهبا قيمته ثلاثة مليارات دولار عام 2011 علاوة على معادن أخرى بمليار دولار. ويقول عمال في قطاع التعدين ان الارقام الحقيقية أقل من ثلث هذا.
وقال مسؤول تنفيذي اجنبي في مجال التعدين طلب عدم نشر اسمه “لم يستخرج الا سبعة أطنان من السبعين طنا المتوقعة من انتاج الذهب لعام 2011 من المناجم المعتادة. الباقي ينتجه الباحثون عن الذهب الذين يصعب التحقق من انتاجهم الذي يتم تهريبه عادة الى الخارج في نهاية المطاف.”
ومنذ فرضت الولايات المتحدة حظرا تجاريا على السودان عام 1997 ابتعدت اغلبية الشركات الغربية عن البلاد. وتشير حركات التمرد داخل البلاد وتوجيه المحكمة الجنائية الدولية الاتهام للبشير الى أن احتمال انتهاء هذا قريبا غير مرجح.
ويضطر هذا الخرطوم الى الاعتماد على الصين اكبر شريك تجاري لها وعلى دول الخليج. لكن لم يتم الاعلان عن مساعدات او قروض كبيرة حتى الان بخلاف المشروعات التنموية الصغيرة.
وعلى الرغم من تزايد المشكلات فان تنظيم الاحتجاجات ليس سهلا. ونتيجة لانقطاع الكهرباء المتكرر ورداءة شبكات المحمول وانخفاض نسبة مستخدمي الانترنت يصعب حشد الناس عن طريق موقعي فيسبوك وتويتر للتواصل الاجتماعي مثلما حدث في مصر.
ويشعر كثيرون بالاحباط بسبب أحزاب المعارضة التي يتهمونها بانها غير فعالة ويدير معظمها حكام سابقون في السبعينيات من العمر. ويقول نشطاء ان حزب الامة الذي هو حزب المعارضة الرئيسي ليست لديه رغبة في الدعوة الى احتجاجات حاشدة. وقال الصادق المهدي رئيس الحزب مؤخرا انه يريد أن يرحل البشير. لكن ابنه عين مساعدا رئاسيا في مكتب البشير. وقرر زعماء حزب معارض كبير اخر الانضمام للحكومة.
وبالنسبة لطالبة تكنولوجيا الكمبيوتر فان الحل الوحيد هو مغادرة السودان.
وقالت “ضقت ذرعا بالسياسة السودانية. أعتقد أنه ستندلع ثورة لكن لن يتغير شيء. سيظل لدينا نفس الاشخاص.”
واضافت “لا أريد الا أن أغادر السودان. لا أرى أي افاق للحصول على عمل هنا. أعتقد أن 90 في المئة من الطلبة سيغادرون السودان.”
من اولف ليسينج والكسندر جاديش