بسم الله الرحمن الرحيم
رؤية الجبهة الثورية السودانية لحل المشكلات الخاصة بدارفور
تطالب الدوائر الغربية الجبهة الثورية السودانية، و بخاصة الحركات ذات الصلة بدارفور فيها، بتقديم رؤيتها لحل “قضية دارفور” رغم ادعاء هذه الدوائر وصولها إلى قناعة تامة بأن قضية السودان كل واحد لايقبل التجزئة، و أن الاتفاقات الجزئية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق السلام و الأمن و الاستقرار في البلاد من جانب، و اطلاعهم على طرحنا الشامل المتضمن لخصوصيات الأقاليم المتأثرة بالحرب و في مقدمتها إقليم دارفور من جانب آخر. و المتمعنفي هذا الموقف المتناقض يجد التفسير في الدوافع التالية مجتمعة أو في بعض منها:-
1- واضح أن الدوائر الرسمية في الغرب ليست على قناعة كبيرة بأن هنالك قضايا و مظالم حقيقية دفعت بأهل الأقاليم الملتهبة في السودان إلى حمل السلاح في وجه نظام الخرطوم؛ بل يبتسرون مشكلة أهل هذه الأقاليم في الأوضاع الإنسانية السيئة الناتجة عن النزاع، و الوضع الأمني المجافي للاستقرار. أي أنهم يصبون جلّ جهدهم في معالجة إفرازات الحرب بدلاً من مخاطبة الأسباب التي أدت إلى اندلاعاها في المقام الأول. و وارد أنهم يدركون حقيقة هذه المظالم و الأسباب و لكنهم يسقطون – بوعي أو بغير وعي – تجارب دولهم الديموقراطية المتقدمة ذات المؤسسات الدستورية القادرة على التعامل مع مثل هذه المظالم دون الحاجة إلى الوسائل العنيفة، على دولة لم تذق طعم الديموقراطية إلا لفترات متقطعة لم تبلغ العقد في مجملها، و مع نظام دموي باطش يتخذ من القتال مع مواطنيه سبباً و مبرراً لبقائه.
2- و قد يكون الدافع إلى هذا المطلب شقّ صفّ الجبهة الثورية السودانية، و دعوة مكوناتها إلى التقوقع في مفاهيم و أطروحات إقليمية جزئية ضيقة تتقاصر عن الدعوة إلى التغيير الهيكلي الشامل لبنية الحكم في البلاد، و ذلك انطلاقاً من حرصهم على بقاء النظام الذي يقدّم لهم خدمات استخباراتية مجانية لا يجاريه فيها أحد في المحيط الإقليمي. و من المحتمل أن يكون قد انطلت عليهم إدعاءات النظام – عبر الانفاق على شركات العلاقات العامة الغربية بسخاء منقطع النظير من قوت مواطنيه الجوعى – بأنه الحارس الأمين لمصالحهم، و الممسك بلجام التنظيمات الإرهابية في المنطقة، و أن ذهابه يعني الفوضى العارمة و ترك الساحة مرتعاً خصباً لهذه التنظيمات. و نسوا – من فرط انشغالهم بأمر الإرهاب و الإسلاموفومبيا – بأن الممسك بلجام الإرهاب هو مربّيه و مروّضه، و غالباً ما يكون صاحب فرس الإرهاب نفسه.
3- و قد يكون مبعث الطلب محاولة للقول بأن الجبهة لا تملك رؤية تفصيلية لحل مشكلات السودان، و لا تهتم بقضايا مواطني مناطق النزاع الملحة، و بالتالي هي غير جديرة بأن تكون بديلاً للنظام القائم. متناسين أن نظام الخرطوم هو أس البلاء الذي تعيش فيه بلادنا، و هو مشعل الحروب و النزاعات التي يبحث الناس عن حلول لها دون جدوى، لأن النظام الذي استمرأ التغذي بدماء مواطنيه يرفض الحلول التي تجفف مصادر هذا الغذاء. أما المزايدة بمعايشة معاناة الأهل من عدمه، فنحن في غنى عن الرد عليه لأننا نطأ الجمرة عبر أمهاتنا و آبائنا و أخواتنا و إخواننا و سائر أهلينا في معسكرات النزوح و اللجواء و في المهاجر البعيدة.
4- قد يلجأ بعض الدبلوماسيين إلى هذا الطلب، لأن الحل الشامل يستدعي جهوداً مضنية، و مدافعات من العيار الثقيل، و في حاجة إلى خبرات كبيرة، و إمساك بالملف لفترات أطول مما تسمح بها عقود عمل بعضهم ذات الآجال المحدودة.
و مهما يكن الدافع من سعي الدبلوماسيين الغربيين إلى تجزئة قضية الوطن الكلية، و دعوة الفصائل المكونة للجبهة الثورية السودانية إلى التعاطي مع قضايا أقاليم السودان باعتبارها جزراً معزولة عن بعضها، فإن الجبهة عازمة على الاستمساك بطرحها القومي، لأن الحلول الإقليمية و الاتفاقيات الجزئية مقدمات لتفتيت الوطن، و يكفينا عظة فقدنا الأليم لجنوبنا الحبيب، أرضاً و شعباً، بسبب تعامل النظام مع قضية السودان في الجنوب باعتبارها قضية إقليم يمكن حلها ببتره!.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن سعينا لتسليط الضوء على بعض ما نراها من حلول تخص مناطق الصراع في هذه المساحة المحدودة، ليس من باب النكوص عن رؤيتنا للحل الشامل لقضايا الوطن، أو جنوحاً إلى الجهوية و التقوقع، و لكن من باب بيان أن خصوصيات الأقاليم محل النزاع نفسها مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالحلول الكلية و لا تتأتّى إلا بها. و من باب سد الذريعة التي يتدثر بها بعض المشتغلين بقضايا الوطن في الداخل و الخارج.
تنقسم قضية الأقاليم الملتهبة إلى أسباب جوهرية دفعت بأهل هذه الأقاليم إلى حمل السلاح في وجه نظام الانقاذ و ما سبقته من أنظمة، و إفرازات و آثار ترتبت على هذه المواجهات و طريقة إدارة الحكومات السابقة و هذا النظام على وجه الخصوص لهذه الحروب.
فأما الأسباب الجوهرية التي أدت إلى قيام الحركات الاحتجاجية، التي تطورت بسبب إزدراء الأنظمة المتعاقبة لمطالبها العادلة إلى نزاعات مسلحة في كل أركان البلاد، و تمخّضت عنها كارثة انفصال جنوب السودان، فتكمن في المظالم التاريخية المتمثلة في غياب حرية التعبير عن هذه المظالم، و وصم كل من صدع بها بالعنصرية و الجهوية، و الفشل في إدارة التنوع بل و عدم الاعتراف به، و احتقار ثقافات غالب شعوب السودان و العمل على إلغائها و استعواضها قسراً بثقافة أحادية ، و الإصرار على المركزية القابضة التي حرمت شعوب السودان من الاطّلاع بدور أصيل في حكم نفسها و إدارة شأنها، و الظلم الفاحش في قسمة السلطة الذي بدأ بمشروع السودنة و صار ديدناً لا حياد عنه، و اقصاء أقاليم بأكملها و تغييبها عن مواقع اتخاذ القرار الأساسية، و غمط حق أهلها في المشاركة في السلطة إلا بصورة ديكورية يشوبها المنّ و الاستعلاء، بجانب حرمان هذه الأقاليم من الخدمات الأساسية و تركها نهباً للثلاثي الخبيث المتمثل في الجوع و الجهل و المرض، و جعل الحديث عن التنمية المتوازنة و النصيب العادل في قسمة الثروة من الكماليات التي إن تحدّث بها أولو الحاجيات عدّ ترفاً ممقوتاً. و القضايا الجوهرية الآنفة الذكر قضايا مرتبطة ببعضها ارتباطاً بنيوياً بالعقد الاجتماعي الذي يؤسس عليه حكم البلاد، و لا نجد حلها في الفاشر أو بورتسودان أو كادقلي أو الدمازين إلا إذا أردنا لهذه الأقاليم أن تكون دولاً ذات سيادة لا تربطها بالخرطوم غير الجيرة الجغرافية. و هذا ما لا يقول به عاقل عارف بالبنية الاجتماعية للسودان، و حاجة مكونات البلاد الجيوسياسية و الاقتصادية و الثقافية، في زمان العولمة و عصر الكيانات الإقليمية الكبيرة، إلى المزيد من الترابط لا البعثرة.
و ملخص القول أن بلادنا – إذا أريد لما بقي منها الوحدة و الاستقرار – في حاجة ملحّة إلى معادلة جديدة للحكم، يتواضع عليها أهلها من غير قهر أو تظالم، و ينتج عنها نظام فدرالي ديموقراطي حر، تكون المواطنة فيه مناط التكاليف و الحقوق، و يشارك فيه كل أهل السودان بعدل و فاعلية في حكم أنفسهم و إدارة شأنهم على مستوى المركز و الأقاليم، لا تفاضل بينهم إلا على أساس الكسب و العطاء و نتائج صناديق الاقتراع. كما أنها في مسيس الحاجة إلى مخاطبة حاجيات الشعب الحقيقية، و التنافس في توفير الخدمات الأساسية له، بدلاً من إشغاله بأيديولوجيات و أطروحات سفصطائية تشبع غرور الصفوة الشوفينية و تعجز عن الاستجابة إلى نداءات البطون الخاوية التي أهلكتها المبيت على الطوى.
أما القضايا الخاصة بإقليم دارفور و التي تماثل قضايا بؤر النزاع الأخرى في النيل الأزرق و جبال النوبة، فهي حصائد آلة النظام العسكرية التي أدمنت سياسة الأرض المحروقة، و معاقبة حملة السلاح عبر قتل الأطفال و النساء و الشيوخ من أهليهم العزّل، و تهجيرهم قسراً، و توطين برابرة وافدين في أراضيهم، و إبادتهم جوعاً باهلاك زرعهم و ضرعهم، و تركهم لقمة سائغة للجهل و الأوبئة الفتاكة بتدمير منشآتهم التعليمية و الصحية الشحيحة إبتداءً. و لمعالجة هذا الوضع الشائك، يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية حقّيقية، حريصة على حقن الدماء و الحفاظ على وحدة الوطن و ترابه، و مستعدة للإقبال على المفاوضات بصدر رحب و عقل مفتوح، لأن القضايا التالية تستدعي ذلك و أكثر:
1- تتمثّل الخطوة الأولى نحو حل مشكلة السودان في دارفور، و في بقية الأقاليم، في توفير الأمن. و لا يتأتى ذلك إلا بمخاطبة المظالم التي أدت إلى اندلاع الحرب في المبتدأ؛ و هي قضايا مرتبطة بتقاسم السلطة و الثروة بجانب الحريات العامة في البلاد كما سلف ذكرها. كما أن توفير الأمن يستدعي بالضرورة تفكيك مليشيات النظام و نزع سلاحها، فمن غير توفير الأمن يكون من العبث الحديث عن السلام و التنمية. و من العبث أيضاً محاولة توفير الأمن من غير مخاطبة المشكلة، و إيجاد الحلول العادلة المرضية لأهل الأقاليم المظلومة.
2- أهل أقاليم السودان، بما فيها دارفور، بحاجة إلى حكم أنفسهم بأنفسهم في إطار السودان الواحد. و هذا يستدعي اللجوء إلى نظام فدرالي حقيقي، تُفوّض فيه السلطات لشعوب الأقاليم مع تخصيص الموارد اللازمة لضمان فاعلية النظام. أي أن المطلوب إعادة إقليم دارفور الموحّد بحدوده الجغرافية الموروثة، بسلطات تشريعية و تنفيذية و قضائية معتبرة كما هو الحال في معظم الفدراليات الديموقراطية، مع الإبقاء على الولايات و ترك أمر إلغائها أو إنشاء المزيد منها للسلطة التشريعية المنتخبة في الإقليم. و لأجل تحقيق هذا المطلب، و حتى لا تواجه البلاد بمثالب انظمة الحكم المزدوجة أو المتعددة في الدولة الواحدة، و حتى يسهل تمثيل أهل الأقاليم في مؤسسة الرئاسة، تكون عودة البلاد إلى نظام الأقاليم لا مناص منها، و بالطبع لا يتم ذلك بقرار من الفاشر.
3- يحتاج السلام في دارفور إلى نظام عدلي مستقل، قادر و راغب في محاسبة الذين ارتكبوا أفظع الجرائم في حق الشعب من جرائم إبادة جماعية، و تطهير عرقي، و جرائم حرب، و جرائم ضد الإنسانية. و بائن أن هذا المطلب يستحيل تحقيقه في ظل غياب الحريات العامة، و سيادة الحصانات التي تحول دون مساءلة حتى الجنود الأفراد في الأجهزة الأمنية و الشرطية و سائر القوات النظامية، ناهيك عن كبار المسئولين و الدستوريين الذين دبّروا و خطّطوا و سلّحوا و موّلوا و أمروا بارتكاب هذه الجرائم البشعة. و حيث إن العدالة و السلام صنوان يسيران يداً بيد، فمن الصعب تحقيق السلام في دارفور، أو أي من مناطق النزاع، في غياب قضاء مستقل و مؤهل. و هذا بدوره حلم من المحال تحقيقه في ظل نظام إستبدادي باطش كالقائم في الخرطوم.
4- ليتحقق السلام في دارفور، لا بد من تمكين المهجّرين قسراً من العودة طوعاً إلى ديارهم الأصلية معززين مكرمين، في جو يأمنون فيه على أرواحهم و ممتلكاتهم، و تتوفر فيه مقومات الحياة و الخدمات الأساسية، مع اعانتهم ببعض الأموال التي تعينهم على إستئناف سبل كسبهم الطبيعية. و هنا شك كبير في أن نظام الخرطوم راغب في أو قادر على إخلاء أراضي و مزارع و ممتلكات المواطنين التي أحتلت بواسطة من استقدمهم من خارج الحدود و استصدر لهم الوثائق الثبوتية بأثر رجعي، و إعادتها إلى أصحاب الحق الأصليين.
5- المواطنون الذين أخرجوا من ديارهم بآلة حرب النظام و مليشياته البربرية، فقدوا أهليهم و كل ممتلكاتهم بغير وجه حق، و لا بد من تعويضهم تعويضاً عادلاً و مجزياً و ناجزاً وفق معايير دولية. و هذا ما رفض النظام الالتزام به و تحمّل كامل مسئوليته في كافة محادثات السلام التي جرت مع المقاومة. فبدلاً من الالتزام بتعويض كل المتضررين، يقول النظام أنه على استعداد للمساهمة في صندوق ينشأ لأغراض التعويض بمبالغ زهيدة و من غير ضمانات بسدادها. و في ظل سجل النظام الردئ في الإلتزام بالاتفاقيات و سداد ما عليها من تبعات مالية، يصعب التكهن بكيف يمكن للمتضررين الحصول على تعويض عادل و ناجز و النظام على سدة الحكم!
6- فوق معاناة إقليم دارفور من ضعف البنية التحتية، و حرمانه من التنمية لعقود متطاولة، دمّر الحرب القليل اليسير الذي كان هناك. و هذا يستوجب رصد ميزانيات معتبرة و مضمونة لإعادة البناء و التأهيل، و الشروع في إقامة مشروعات بنية تحتية و تنمية أساسية تعيد دوران عجلة الاقتصاد في الإقليم؛ إلا أن النظام الذي ينفق على الحرب بغير حساب، يستنكف عن الإلتزام بالقليل الذي وعد به، و يرفض تقديم أي ضمانات للسداد.
جليّ مما سبق، أن الجبهة الثورية السودانية تطالب بالحل الشامل لمشكلة السودان لأنه لا سبيل إلى حل مشكلة الأقاليم بصورة فاعلة و تحقيق سلام قابل للاستدامة إلا بتغير جذري في بنية الحكم في البلاد؛ و ليس من المنظور أو المأمول أن يتحقق ذلك في ظل نظام إقصائي إستبدادي مثل الانقاذ. عليه، يكون الحل في ذهاب هذا النظام سلماً أو حرباً، و احلال حكومة قومية ذات تمثيل عريض مكانه، يكون من أولى أولوياتها تحقيق السلام في ربوع البلاد عبر حوار قومي حر يحدد كيف يحكم البلاد و يراعي خصوصيات الأقاليم.
د.جبريل إبراهيم محمد
رئيس حركة العدل و المساواة السودانية
نائب رئيس الجبهة الثورية السودانية