د. محمد محجوب هارون يقرأ مع «الصحافة» و «الأخبار» تحولات المشهد العربي «1ـ 2»:

د. محمد محجوب هارون يقرأ مع «الصحافة» و «الأخبار» تحولات المشهد العربي «1ـ 2»:
ما يجري زلزال.. نظامٌ هَرِمٌ يتداعى.. وواقعٌ جديدٌ يتشكّل..!!

حوار: ماجد محمد علي ــ تصوير: صلاح عمر: ٭ فيما يغلي الإقليم العربي بتحوّلات غير تقليدية، من المغرب العربي الكبير إلى مشارقه ومن الجزيرة العربية إلى الشام وبلاد الرافدين، مُرورا بوادي النيل، استطلعت كلٌ من «الصحافة» و «الأخبار» أستاذ العلوم الاجتماعية ومُدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخُرطوم، د. محمّد محجوب هارون، حول هذا المخاض والميلادات التي أسفر، ويُسفر، عنها، ما سمَّاه بالزلزال.
٭ ويرى الدكتور هارون أنّ التحوّل الذي يضرب المشهد العربي يضع الباحثين والمفكرين في الساحتين العربية والدولية أمام تحدٍّ ومسؤولية فكريّة كبيرين، محورها إنتاج نظرية لتحليل وتفسير وقائعه واستكناه مصائرها ما وراء التبسيط والاختزال الذي يحاصر ظاهرة شديدة العُمق والجذرية في مجرّد تغييرات داخل الملعب السياسي من خلال عمليات إبدال وإحلال أقطابها جماعات منظّمة في الحُكم وأخرى في المعارضة.
٭ ويخلص هارون، ضمن ملاحظات أُخرى، إلى أنّ التحولات التي تعبّر عن نفسها في عمليات تغيير حاكمين «تغيير النظام»، هي تأريخٌ لنهاية حقبة في التاريخ العربي وبداية حقبة جديدة، بسبب أنّ مسارات التحديث «التعليمي/ المعرفي، الاقتصادي، التقني/ الصناعي، المُجتمعي» في المجتمع العربي أكملت دورتها أو أنّها شارفت على ذلك.
٭ ويُلاحظ، مع ذلك، أنّ هذه التحوّلات في المشهد العربي تأتي في أعقاب، ولحاقا بثورات أخذت شكل الاحتجاجات الصاخبة، أو ثورات ناعمة إمّا في أزمنة ساحقة «القرون الثامن والتاسع عشر والعشرون في أوربّا»، أو في زمان معاصر مثل الثورات الناعمة في أميركا اللاتينية وآسيا، أو تلك التي أعقبت انهيار حائط برلين في شرق أوربّا.
٭ ويستبعد الدكتور هارون استثناء تحوّلات المشهد العربي بلدا من بلدانه، الأكثر انفتاحاً منها والمُغلقة أو شِبه المُغلقة. أمّا إن كان هناك اختلاف فسيكون محوره كيفية إدارة عملية التحوّل لا نفي إمكان وُقوع التحوّل في الأساس.
٭ وفيما يُخصّص الجزء الأوّل من الحوار لمحاولة فهم وقائع التحوُّل في الساحة العربية الأوسع، وربطها بالمشهد العالمي الكبير، ننشر في الحلقة الثانية قراءة حول المشهد السُوداني على خلفية تحوّلات المشهد العربي.
٭ كيف تقرأ هذا الذي يجري في المشهد العربي؟
ــ التغيير الذى بدأ مطلع هذا العام فى الساحة التونسية ولم يقتصر عليها، بل امتد ليشمل الساحة المصرية، ومن ثم أصبح الحالُ كأنّ عدوى عبرت الحدود القُطرية، حتى وأن ما من بلد فى الإقليم إلا وقد عطس بسبب ذلك. فها هي ليبيا واليمن والبحرين وسلطنة عُمان والإردن والمغرب والعراق وسُوريا ولبنان. ويبدو لي أنّ ما يجري أكثر من مجرد تغيير داخل الأنظمة القائمة، بمعنى نُظم الحكم السائدة بأقطابها فى الحكم والمعارضة.
٭ وكيف إذن تفسّر ما يجري من وقائع؟
ــ الراجح أنّنا أمام عملية تحول (Transformation) بأكثر من أن يكون ما يحدث مجرد تغيير مواقع داخل هياكل السياسة (Political Change)، تسعى من خلاله معارضة منظّمة لإجراء عملية إبدالٍ وإحلال ضد قوى مُنظّمة حاكمة، وبالتالي نحنُ كما أرى أمام مشهد يضع الرأي العام العربي والدولي، كذلك، والمفكرين والباحثين، على نحوٍ خاص، أمام مسؤولية فكرية كُبرى، موضوعها أولوية إنتاج نظرية تفسيرية لتحليل وقائع هذا التحول، والإمساك بمفاصل مآلاته. ذلك لأنّ بعض الروايات السائدة فى التعاطي مع الذي يجرى الآن، تجنح فى النظر إليه في إطار المنظومة القائمة. أي فى حدود كونه مجرد تغيير سياسي تتصارع فى إطاره القُوى السياسية المنظمة بحسب مواقعها، وينتهى الى إعادة انتاج النظام السائد نفسه، ربما بلاعبين جُدُد. تغيير اللاعبين، ولكن داخل المعب ذاته، لإعادة تخطيط الملعب بكامله وفقا لقواعد جديدة..!!
٭ هل نحنُ بإزاء نموذجٍ جديدٍ، إذن؟
ــ نعم.. نحنُ نشهد الآن نقلة في النموذج، من نموذج سياسي ظلّ سائدا، إلى نموذج سياسي جديد (Paradigm Shift). وهُنا تحضُرني صورة ناطقة جدا لفتت انتباهي إبّان الاحتجاجات التونسية ضد بن علي، وظلت تنقلها الفضائيات العربية بالذات بعد هُروب بن علي. وهي لشيخ تونسي تقدمت به السن، بدا منقسم المشاعر ما بين شعورٍ طاغٍ بالسعادة لنهاية حُكم بن علي، وشعورٌ طاغ، كذلك، بالحزن من واقع أنّ نظام بنى على قضى و«لم يعد فى العمر وقت لبدايات جديدة»، كما قال شاعرنا صلاح أحمد ابراهيم. كان هذا الشيخ يقول: «هَرِمنا . . هَرِمنا..!». هذه الصورةُ الناطقة تعبّر، بدقّة، فى تقديري، عن حالة المشهد العربي. الذى هَرِم هو حقبةٌ تاريخية بكاملها ظلّ المُجتمع العربي يعيش بين أكنافها زمنا غير قصير. لقد أصاب الهرم هذه الحقبة بمجمل مكوناتها وملامحها على الصُعُد المختلفة، وخاصة الصعيد السياسي، فشاخت، ومن ثم، أخذت تفقد جدواها بانتهاء عُمرها الافتراضي. نظامٌ هَرِم يتداعى إيذانا بميلاد نمُوذج بديل، هُو الجُملة المُفيدة التى يمكن أن تُوصف بها هذه المرحلة الآفلة، إيذانا بدخولنا مرحلة جديدة، تشكل ملامح الفضاء العام العربي.
٭ إذن كيف إنّه تحوّل وليس تغييرا سياسيا؟
ــ يمكنني أن أحكي معك بشيء من التفصيل. أنتما تعلمان أنّ المعرفيين وآباء الحِكمة لا يجيزون التعميم والأحكام المُطلقة. وبالتالي فإنّ الخُلاصات التي نقول بها ينبغي أن يُنظر إليها في إطارٍ نسبي، وأن نقبل، كذلك، أنّها تحتمل بعض التجاوزات على القاعدة/القواعد من حالة إلى أُخرى. وانطلاقا من هذه القاعدة التأسيسية فإن الوقائع التي جرت فى تُونس لم تكُن صراعا بين بن علي والقوى السياسية المنظمة، فى الفضاء السياسي التونسي. كما أنّها لم تكُن مجرد صراع ما بين الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ومعارضة منظمة فى منظومة حزبية معروفة فى الساحة المصرية. وهي ليست صراعا بين علي عبد الله صالح وحزبه وأحزاب معارضة فى الساحة اليمنية، كما هو الحال كذلك فى الساحة الليبية بكل خصوصياتها، فليس ما يجري فى ليبيا بصراع يجري بين القذافي ومجموعات معارضة منظمة داخل الساحة الليبية، وهكذا.. وهكذا.. نحنُ أمام تحول يتجاوز كل ذلك، ويتجاوز الحُكم والمعارضة معا، باتجاه بناء منظومة عامة جديدة، بناء ما سميناه نموذجا بديلا.
٭ كيف؟
ــ إنّ من أهم تجليّات هذا التحوّل أنّ التغيير الذى تمّ، سواء فى مصر أو تونس، تجاوز كونه صراعاً بين قوى سياسية منظمة «حُكم/ معارضة» داخل النظام السياسي السائد. ففى تونس، أو مصر، أو حتّى ليبيا واليمن، لم يكن الذين خرجوا إلى الشارع، بدايةً، هُم أعضاء في تكوينات سياسية منظمة. ولم يكونوا، كذلك، قُوى مجتمع حَضَرِي «مديني» منظّمة، ككيانات مجتمع مدني مثلا «نقابات وجماعات مصالح منظمة أُخرى». هذه القوى لم تكن حاضرة عند بداية الاحتجاجات في سيدي بُوزيد، أو ميدان التحرير أو في ميدان جامعة صنعاء، وإن التحقت بها لاحقا. وفي بعض الحالات اعتصمت بعض الأحزاب بالحوار مع الحُكم في مقابل الاحتجاج عليه في الشارع. وحينما شكّلت حُضورا مع المُحتجين تمّ ذلك بعد أن بنت حركة الاحتجاج زخماً كافياً لصالح تغيير النظام. هذا وجهٌ أوّل يؤكد على أن الذي يجرى الآن، تحوّل في النموذج من أساسه وليس تغييرا داخل النظام بأي حالٍ من الاحوال «معارضون ضد حاكمين». هذا لأنّ الذين حركوا هذا التحوّل، وكانوا بمثابة الماكينة المحرّكة له، لم يكونوا القوى السياسية والأهلية كالأحزاب والنقابات إلخ.. كما اسلفنا.
كان الذين تحركوا، كما شهدنا، جماعاتٍ شبابية متعلّمة و حَضَرِية «مدينية» بدرجة غالبة، كما لم يكونوا منسوبي كيانات حزبية معروفة في تلك الساحات، وليسوا حفيين، كذلك، بالعمل السياسي الحزبي السائد. ولكما أن تلاحظا أنّ هذه الشبيبة لم تفكّر، هذه اللحظة، فى الانضمام إلى كيانات حزبية قائمة، أو أن تشكّل كيانات سياسية حزبية خاصّة بها. ولم تبدُ عليهم حفاوة بنوع الخطابات السياسية السائدة فى جملة القضايا التى يطرحونها. وهذا في تقديري شاهد آخر على أنّ الذي يجرى ليس صراعاً سياسياً داخل المنظومة القائمة.
ويُلاحظ، إلى ذلك، أنّ هذه القوى الجديدة لم تعبّر عن رغبة من جانبها لأن تكون طرفاً فى السلطة، بأن تُكفل لها فُرص المشاركة في الحكومة بعد تغيير النظام، بل تمسّكوا، إلى حدّ كبير، بإدارة حملاتهم حول ملفّات كبرى مثل تعديل الدستور، محاربة الفساد، تأسيس أوضاع سياسية قائمة على تداول السُلطة، فى مقابل نظم سياسية ديمقراطية شكلية، ظلّت قائمة على فكرة الإمامة الدائمة والتوريث ابناً عن أب، وأبا عن جد، إلخ.. وقد سبق أن وصفت هذه الحالة في كتابات في «الصحافي الدولي» لبضع سنوات سلفت، بانحسار السياسة، بمعنى تراجُع مدّ السياسة الحزبية، وهذا ما نراه سائدا وسط الشباب والفئات حديثة السن والطلاب في الجامعات.
٭ وما الجديد في ذلك؟
ــ لقد اعتدنا على أن نرى الجالسين خارج الحكم فى حالة بحثٍ مُستمر عن مواقع في الحُكم، إمّا عبر صفقات يعقدونها مع الجالسين في العرش، أو عبر قيادة تحركات في الشارع، أو بانقلابات عسكرية. غير أنّنا لم نرَ ذلك لا فى الحالة التونسية، أو المصرية، أو الليبية، فضلاً عن الحال، بفارق طفيف، في الحالة اليمنية مثلا. ولا يبدو ذلك مطروحا، كذلك في الساحات الأخرى داخل المشهد العربي حيث تتفاعل مخاضات تحوُّل. ولكلّ ذلك يلزمُنا أن ننظر فى العوامل (Dynamics) التى تصنع هذا التحوّل بعُمق، وأن ننظر ببصيرة نافذة إلى أين يقودنا؟
٭ ما هي في رأيكم هذه العوامل التي ساعدت في انضاج هذه التحوّلات؟
ــ نحنُ نكتب تأريخاً لنهاية حقبة من تأريخ ممتد فى هذا الاقليم العربي، وتأسيساً لحقبة جديدة بملامح فكرية سياسية تحمل غير قليل من الاختلاف. وهذا الميلاد الجديد سبقه، بالضرورة، مخاضٌ طويل. وروافع هذا المخاض في البلدان التي جرت فيها تحولات أساسية، واضحة بدرجة كبيرة. فقد استطاع التعليم الحديث، على سبيل المثال، أن يُكمل فى بعض الفضاءات العربية، مثل تونس ومصر، دورته، ومازال يتقدّم تأثيراً في بلدان عربية أُخرى، مثل اليمن أو البحرين أو حتّى المملكة العربية السعودية. وهكذا فنحن نعيش في مجتمع عربي أسهم التعليم الحديث في تشكيله، إن لم يكن على نحو كامل، فبدرجة واسعة. ومن واقع أنّ التعليم الحديث رافعة أساسية للتحوّلات المجتمعية، فلقد أدّى ذلك إلى تفاعلات أُخرى داخل المُجتمع العربي. من ذلك الانفجار الحضري الكبير بتحوّل المجتمع البدوي الريفي إلى مُجتمع حَضَري «مديني»، بشكل كبير، هُو مع ذلك، مُجتمع الانفجار المعرفي/التقني/ المهني. وبذلك إتّسعت قاعدة الطبقة الوسطى، على عكس ما يظُن القائلون بانكماش الطبقة الوُسطى. وعالميا يتسع حجم الطبقة الوُسطى التي تقدّر بعض التقارير البحثية حجمها بما يُعادل نصف سُكّان العالم. والعرب ليسوا استثناءً في ذلك. صحيحٌ أنّ هناك ضغوطٌ معيشية بسبب ارتفاع الكُلفة الاقتصادية للحياة الحضرية، لكن لا ينبغي أن يحُول ذلك دُون أن نرى نُمو وتمدّد طبقة وُسطى داخل المُجتمع العربي، مُجتمع المهنيين «العسكريين والمدنيين» والحرفيين، ورجال ونساء الأعمال، وناشطي المُجتمع المدني.
وهذا ملمحٌ مهم، تنبُع أهميته من أن المجتمعات التى شهدت بالفعل عمليات تغيير نظام، والمجتمعات التى تخوض الآن هذا المخاض داخل الاقليم العربي، هى مجتمعات جرت بداخلها عمليات تحديث حقيقية، ولم تعد هى مجتمعات الرُعاة والمزارعين التقليدية القديمة، مجتمعات الأُميين ومحدودي التعليم «المجتمعات المغلقة وشِبه المُغلقة». إنّنا أمام مُجتمع منفتح داخليا وعلى العالم الخارجي. ويمكنك حتى وإن كنت فى منطقة ريفية، جُغرافيا، أن ترى فيها بوضوح ملامح الحضرية، فهناك الكهرباء وجهاز التلفاز والسلع الصناعية والمسكن الحضري والتلفون المحمول الذي يربط المواطن في طرف قصّي بأطراف الدنيا القصيّة في اللحظة والحال.
هذا المواطن الفرد الحضري الحديث يتمتّع بقدرة وفيرة على تجاوز أدوات السيطرة، التى ظلت تقليديا بيد الدولة، مثل تمكّنه من العالم الاسفيري والشبكة العُنكبوتية «الإنترنت». لذا من الطبيعي أن يتم الآن فك القيود ويُضحي المواطن الفرد مواطناً طليقاً. إنّنا الآن وجهاً لوجه، ولأوّل مرة، مع مجتمعٍ جديد وإنسانٍ جديد وثقافةٍ عامةٍ جديدة وحالة تتراجع فيها قدرة الدولة على السيطرة والإطباق. ويمكنك أن تتأمل فى الحالة الليبية التى ظلت لمدة «42» عاما تحت سيطرة زعيم واحد، لترى كيف يتحرك الآن هذا المجتمع الذى كان يبدو لنا جميعا مجتمعا مغلقا بشكلا كامل!
٭ كيف يمكن لقُدرة الدولة على السيطرة أنّ تتراجع؟
ــ نعم، كما قُلتُ فنحنُ نشهد جُملة انفجارات كُبرى مُدوّية. هُناك انفجار التعليم، وبالتالي الانفجار المعرفي الكبير، والانفجار الاقتصادي، لأن الاقتصاد لم يعد اقتصاداً تقليدياً كِفائياً. وهُناك الانفجار التقني الصناعي، وكيف إنّك يمكنك ان تعمل صحافيا، مثلا، من منزلك، ولا تحتاج الى أن تحضر اجتماع التحرير الصباحي، وذلك من خلال التشبيك الافتراضي «الإنترنت»، مع مسؤولي التحرير حتّى دُون أن تلتقوا وجها لوجه.
هذا هو الانفجار التقني الذي حول عالم الواقع إلى عالم افتراضي واسع، واختصر الجغرافيا فلم تعد انت فاعلا فقط فى حُدود الجُغرافيا حيث وُجودك المادّي، بل أضحى لديك فضاءٌ افتراضي أوسع يمكنك ان تتواصل معه. ونحنُ بذلك نشهد تحوّلاَ مُهمّاً عُنوانه بناء قُدرة المواطن الفرد بما يُفضي إلى تراجُع قدرة الدولة الحديثة على السيطرة. والدولة التي أنتجتها الحداثة، ولكنها تتآكل الآن بفعل مزيد من التحديث ممّا يجرى الآن.
والمعرفة نفسها قامت على فكرة السيطرة على عالم الشهادة. وحينما أنتج آباء المعرفة الحديثة في أوربّا نموذجاً معرفياً مثل الوضعية المنطقية، كانت الفكرة الرئيسية هي أن تكون المعرفة أداة للسيطرة، وبالتالي أن تكون الحداثة ومُنتجاتها أدواتٍ للسيطرة. ومن ذلك أن تكون الدولة الحديثة أداة للسيطرة. ولكن قليلاً.. قليلاً صار هذا الواقع يتغيّر، إذ أنّ الأدوات التي أوجدها الكسب المعرفي الإنساني لتحقيق السيطرة، أضحت تُكسب المواطن الفرد، قُدرة مُتزايدة على السيطرة، لينشأ ما يُمكن أن نُسميه المواطن المقتدر في مُقابل الدولة ذات القدرة المتراجعة على السيطرة. ويمكن أن نُسمّى هذه الحالة المُستجدّة «هيبة المواطن»، المواطن صاحب القدرة على اختراق سيطرة الدولة، وتجاوزها أحيانا، باستخدام جُملة الادوات التى صارت الآن فى قبضة يده..!!
٭ هل تقول إنّ «هيبة المُواطن» تنمو خصما على «هيبة الدولة»؟
ــ أكيد، ويُمكن أن نلاحظ كيف أن المواطن الفرد صار الآن بذاته مؤسسة، وهذا المواطن الفرد هو الذي بذاته تجاوز المنظومة القائمة وتجاوز الحالة الحزبية، وخرج بذاته ولم ينتظرها، كما استطاع ان يحدث هذا التشبيك الافتراضي كذلك. ولننظر الى كيف ان الشباب سواء أكان بالـ «فيس بوك» أو الـ «تويتر»، أو غيرها من وسائط التواصل الاسفيري، كيف استطاعوا أن يبنوا شبكة المواطنين الأفراد، لا التنظيم السياسي أو حتّى النقابي. وكيف أنّ الدولة تتفاجأ بواقعٍ جديد، إذ لم يكن أحد يتصور أن تغيير النظام الذي وقع كانت بدايته من تونس، أو أن تكون الساحة الثانية هى مصر، لأنّ هاتين دولتين حديثتين بشكل واضح جدا، واستطاعت دولة الأجهزة فيهما أن تكون هي كل شيء، فلم يكن باستطاعة مواطن فى مصر، مثلا، أن يرفع عينيه على أجهزة المخابرات أو الشُرطة. لكن حينما نضجت شروط هذا التغيير لم نر أثرا لهذا الأجهزة. وحينها تلاشى حُكم الاجهزة.. تلاشى.
هذا ملمح مهم فى التحول الجاري، فنحن أمام حالة جديدة نستطيع أن نسميها هيبة المواطن فى مقابل هيبة الدولة، بمعني سطوة الدولة، تقليدياً ولزمان طويل، واستخدامها لأدوات السيطرة والإطباق. ومن ثم نُشوء حالة تمتلك فيها الدولة سطوة هائلة فوق حدود المُتخيل، ومُقابل هذه السطوة والاستبداد كان طبيعياً أن يلتزم المواطن الصمت بإزاء الدولة، فضلاً عن الاستسلام وفُقدان القُدرة على ممارسة حقه بوصفه مواطناً يملك الحق في مساءلة الدولة التي كلّفها «المواطن» وكيلاً عنه لأداء وظائف في السياسة العامّة وتنفيذها. وهذا يتغير الآن بما يتجاوز حُدود خيال الدولة تصوراً وتفسيراً.
٭ هل من سوابق تاريخية تعزّز هذا التحليل؟
ــ هذا التحول مشابه لبعض أحوال وقعت في التاريخ الإنساني فى حقبٍ سابقة، وفى أوربا، على وجه التحديد، بنهاية القرن الثامن عشر، وبعد نحوٍ من ثلاثة قرون من تفاعل الحداثة (Modernity) فى المجتمع الغربي، وهى كما تعلم أخذت فى تشكيل ملامحها بدءاً من القرن السادس عشر، من خلال عمليات الإصلاح الديني والتنوير والنهضة الشهيرة. وظلت هذه المكونات تتفاعل لما يقرب من الثلاثة قرون، لنشهد عند ذلك الحين اندلاع الثورة الفرنسية التى كانت تماما مثل الثورة التونسية، بداية انطلاق لحالة ثورية شملت كل اوروبا، من حوض المتوسط جنوبا الى اقاصي الشمال الأوربّي، انتهاءً بالروسية فى عام 1917م، لقد سادت أوروبا حالة ثورية، وكانت هذه الثورات بمثابة وضع نقطة نهاية لحقبة سابقة. صحيح أنّها قد تأسست على المشروع الحداثي الأوروبي فى ذلك الحين، لكنها شكلت المجتمع الجديد الذي رأينا فيه بشكل أوضح فكرة الدولة القطرية التي مثلت تحولا من أنظمة إقطاعية ودينية تسودها الكنيسة، إلى حقبة الجمهورية في التاريخ الاوروبي، وهى الحقبة التى سادتها العلاقة ما بين الجمهورية (Republic) والمواطن (Citizen)، والتى صار فيها المواطن سيداً، ونشأت فيها الدولة ذات السيادة كذلك.
٭ وهل من نماذج أكثر مُعاصرة؟
ــ الحالةُ التي نمر بها الآن فى إقليمنا امتداد لتلك الحالة، خاصّة أنّ التاريخ الإنساني لم يمر بحالة فراغ بانتظار حالتنا هذه، إذ أن هناك أقاليم انتظمتها أوضاع تحول، ليس بالضرورة على النحو الاحتجاجي المباشر هذا. ويمكننا، مثلا، أن نقرأ فى هذا الخصوص ما جرى فى أميريكا اللاتينية من ثورة ناعمة، وكيف أنّها انتقلت من أنظمة دكتاتورية عسكرية إلى أنظمة ديمقراطية، واستطاعت أن تؤسس لديمقراطية أميركية لاتينية. وكيف، أيضا، أن هذه الديموقراطيات الجديدة، استطاعت أن تنجز مشروعات اقتصادية كبرى على النحو الذي نراه في بلدان مثل البرازيل والارجنتين وفنزويلا، وكيف أن هذه المشروعات الاقتصادية تجاوزت اقتصادات زراعية تقليدية، مثل الحالة الارجنتينية والبرازيلية سابقا، والحالة «الريعية «النفطية» فى فنزويلا، إلى اقتصاد حديث قوي زراعيا وصناعيا وتعدينيا.
استطاع هذا التحول فى أميركا اللاتينية، على المسارين السياسي والاقتصادي/ الاجتماعي، أن يحدث تحولات مهمة فى أوضاع دول هذا الاقليم.. وفى المشهد الدولي كله. وربّما يكون هذا تحولاً لم يره المفكرون والباحثون بهذه الكيفية، لكنه مهم لأن اميركا اللاتينية ليست هى أميريكا اللاتينية السابقة.. أميركا اللاتينية الآن جملة مجتمعات وأمم جديدة يجري فيها تحولٌ كبير في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وفى الثقافة السياسية وتطبيقاتها. وتنتقل من كونها حديقة خلفية للولايات المتحدة، إلى قوة تنافس الولايات المتّحدة الإميركية وتمثّل تحدّياً خطيراً لها بشكل ملحوظ.
كما لا يمكننا إغفال التحولات في الحوض الآسيوي كذلك، خاصة فى منطقة شرق وجنوب شرق وجنوب القارة الآسيوية، إذ شهد هذا الحوض ثورة ناعمة أُخرى. فإلى وقت قريب كانت دول مثل الصين والهند، إذا استبعدنا النموذج الياباني، تشكل عبئا على المجتمع الإنساني. وينظر لها على أنها كتل سكانية كبيرة ومأزومة، وحافلة بأوضاع يسمها الفقر وقسوة الطبيعة والنزاعات الداخلية.
انظر إلى الصين الشيوعية كيف استطاعت أن تكيف نظامها السياسي ليستوعب فكرة الديمقراطية، وكيف أنّها تأسس لنظام اقتصادي يمثل حالة ما بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي، وكيف أنها استطاعت بهذا ان تنهض الاقتصاد الصيني الذي أضحى الآن الثاني عالميا، متجاوزا الاقتصاد الياباني، وربما كان الأول، عالميّا، لولا أنّ الذي يملك حق التقدير والتصنيف هو أميركا نفسها، والغرب عموما.
وحتى دول مجموعة الاسيان التي شهدت تحولات اقتصادية/ اجتماعية وسياسية هادئة، لم تأخذ منحى الثورة على النحو الذي شهدنا فى الثورات الاوروبية، أحدثت ما احدثت من تحول، انظر إلى كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وأندونيسيا وتايلاند، بل حتّى فيتنام التي خرجت قبل عقود قليلة مُثخنة بجراح حرب طويلة مع الولايات المتّحدة الأميركية.
ولا تُستثنى من هذه السوابق التاريخية التحوّلات التي ضربت شرقي أوروبّا في أعقاب انهيار جدار برلين، وتفكيك الإمبراطورية الشيوعية السوفيتية «اتّحاد جمهوريات روسيا الاشتراكية». ونشهد الآن شرقاً أوروبّياً جديداً تتسارع فيه معدّلات النُمو الاقتصادي، وتتهافت عليه الاستثمارات الأجنبية، ويبني نظامه الديمقراطي، وتتسابق دُوله في سباق التأهّل للالتحاق بالاتّحاد الإوروبي.
والاقاليم التى ظلت بعيدة عن هذه التحولات صارت معدودة، ومنها هذا الإقليم العربي وربّما الأفريقي، وان لم تكن هي بعيدة عن حالات التحول. ففي الاقليم الافريقي نشاهد نماذج شاخصة، مثل النموذج الجنوب أفريقي، وبعض النماذج الاخرى التي لم تتشكل ملامح التغيير فيها بشكل بارز بعد، ولكن بمقدورنا ان نقول إن هناك مخاضاً يتفاعل بدرجات متفاوتة، من بلد إلى آخر.
وما أُحبّ أن أقوله على وجهٍ خاص، هُو أنّ الذي يجري في إقليمنا العربي حالة تحول وانتقال تُجاري ما شهدنا فى النماذج التى أشرت إليها: النموذج الاوروبي فى القرون الثامن والتاسع عشر والعُشرين، والنموذج اللاتيني والنموذج الآسيوي والنموذج الشرق أوروبّي أيضاً في القرن العشرين، فينبغي أن ننظر إلى تحولات بهذه السعة بِعُمق فكري وسعة أُفق. أمّا أن نبقي عليه فقط فى حُدود كونه صراعاً بين معارضات منظمة، وقوى منظمة فى الحكم، فما ذلك إلا اختزال وتبسيط، وقصور فكري..!!
وبهذا التكييف النظري للتحوّل الذي ينتظم الاقليم العربي، لا ينبغي أن نتصور أنّ هناك دولة داخل هذا المُحيط تقف بمنأى عنه. وبداية لم نكن نتصور أن بعد تونس هناك ساحة أخرى ستدخل المضمار، فشهدنا مصر. وما كان بادياً أنّ بعد مصر مرشحين آخرين للالتحاق بالسباق، فشهدنا حالة الغليان هذه من المغرب، حيث يجتهد النظام الملكي في تبني مشروعٍ إصلاحي، مروراً بالجزائر التى تململت، ويبدو أنّها تجلس كذلك على صفيح ساخن، مروراً بالحالة الليبية التي سقط فيها نظام الجماهيرية بالفعل، والذى يجري بيديه الآن من وحشية بالغة من قبله ما هو إلا الدقيقة الأخيرة من عمر هذا النظام. وكيف أن النظام الملكي فى الأردن سارع بطرح أفكار إصلاحية، ولن تبقى الساحة السورية هادئة، فالعراق يتحرك واليمن التي بلغت الآن الساعة الثالثة عشر «إن لم يكن صالح قد غادر عند نشر هذه الحلقة من الحوار».
والأكثر لفتاً الى الانتباه من كل ذلك، أن منطقة كانت تبدو فى نظر الجميع وكأنها مغلقة أمام رياح التغيير، مثل دول مجلس التعاون الخليجي، تعطس الآن بسبب هذه العدوى. فالبحرين الليبرالية، إلى حدٍ ما، تعيش غلياناً، وسلطنة عُمان شرعت فى التململ، وفي المملكة العربية السعودية ينفتح الفضاءُ الإسفيري للتداول حول ما ينبغي أن يتم من تحوّل. وبالتالي أتصوّر أنّ التحول سينتظم كل المنطقة، وربما اختلفت إدارة التحول من ساحة قطرية إلى أخرى، ولكن الراجح هُو أنّه لن تبقَى هناك ساحة قطرية بمعزل عنه.

الصحافة 27 مارس 2011م
 حوار 

د. محمد محجوب هارون يقرأ مع «الصحافة» و«الأخبار» تحولات المشهد العربي «2ــ2»:

السُودان ليس جزيرة معزولة في محيطٍ متحوّل.. وفي وُسع التيار الإنقاذي أن يقود التحوّل أو أن يدفع ثمنه

حوار: ماجد محمد علي ــ تصوير: صلاح عمر: ٭ فيما يغلي الإقليم العربي بتحوّلات غير تقليدية، من المغرب العربي الكبير إلى مشارقه ومن الجزيرة العربية إلى الشام وبلاد الرافدين، مُرورا بوادي النيل، استطلعت كلٌ من «الصحافة» و«الأخبار» أستاذ العلوم الاجتماعية ومُدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخُرطوم، د. محمّد محجوب هارون، حول هذا المخاض والميلادات التي أسفر، ويُسفر، عنها، ما سمَّاه بالزلزال.
يرى الدكتور هارون أنّ التحوّل الذي يضرب المشهد العربي يضع الباحثين والمفكرين في الساحتين العربية والدولية أمام تحدٍّ ومسؤولية فكريّة كبيرين، محورهما إنتاج نظرية لتحليل وتفسير وقائعه واستكناه مصائرها ما وراء التبسيط والاختزال الذي يحاصر ظاهرة شديدة العُمق والجذرية في مجرّد تغييرات داخل الملعب السياسي من خلال عمليات إبدال وإحلال أقطابها جماعات منظّمة في الحُكم وأخرى في المعارضة.
ويخلص هارون، ضمن ملاحظات أُخرى، إلى أنّ التحولات التي تعبّر عن نفسها في عمليات تغيير حاكمين «تغيير النظام»، هي تأريخٌ لنهاية حقبة في التاريخ العربي وبداية حقبة جديدة، بسبب أنّ مسارات التحديث «التعليمي/ المعرفي، الاقتصادي، التقني/ الصناعي، المُجتمعي» في المجتمع العربي أكملت دورتها أو أنّها شارفت على ذلك.
ويُلاحظ، مع ذلك، أنّ هذه التحوّلات في المشهد العربي تأتي في أعقاب، و لحاقا بثورات أخذت شكل الاحتجاجات الصاخبة، أو ثورات ناعمة إمّا في أزمنة ساحقة «القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين في أوربّا»، أو في زمان معاصر مثل الثورات الناعمة في أميركا اللاتينية وآسيا، أو تلك التي أعقبت انهيار حائط برلين في شرق أوربّا.
ويستبعد الدكتور هارون استثناء تحوّلات المشهد العربي بلدا من بلدانه، الأكثر انفتاحا منها والمُغلقة أو شِبه المُغلقة. أمّا إن كان من اختلاف فسيكون محوره كيفية إدارة عملية التحوّل لا نفي إمكان وُقوع التحوّل في الأساس.
وفيما يُخصّص الجزء الأوّل من الحوار لمحاولة فهم وقائع التحوّل في الساحة العربية الأوسع، وربطها بالمشهد العالمي الكبير، ننشر في هذه الحلقة الثانية والأخيرة قراءة حول المشهد السُوداني على خلفية تحوّلات المشهد العربي.
٭ وماذا عن السُودان؟
ــ الساحة السودانية ليست جزيرةً معزولة عن محيطها العربي، وهي تتأثّر على نحوٍ مباشرٍ بما يجري حولها. ثمةُ من يتبنى، من بين انصار التيار الإنقاذي الحاكم، ومن بين قادته على وجه التحديد، نظريةً تقول بأن السودان قد أنجز سلفا مشروعه فى التحول منذ مجيء الحكم الانقاذي، وأنّه، بالتالي، سيبقى بعيداً عن هذه العدوى. وهذا التقدير يحتاج، بلا شك، إلى مراجعة. إنّ ذلك ضربٌ من تفكير وردي (Wishful Thinking). هذه القراءة تتناقض مع الاحتداد في الخطاب المتوعّد للمعارضة المُنادية بالتغيير، و الذي يتبنّاه، مرةً وأُخرى، بعض الرموز القيادية في الحُكم، إذ ما الحاجة إلى الوعيد إذا غاب داعي التحوّل أساسا؟!
وهنالك من يستبعد انخراط الساحة السُودانية في سباق التغيير بسبب غياب المشروع البديل، ممّا يُوحي به وهن القُوى المعارضة المنظّمة، فكريا وسياسياً، فضلاً عن غياب ميراثٍ لها من النجاح من تجاربها السابقة يبعثُ على التفاؤل. وهذه القراءة يضعف من قيمتها أنّها تحاصر قُوى التغيير في الجماعات السياسية المنظّمة حزبياً دون أن تأخذ في الحساب اكتظاظ المجتمع السياسي بقوى فاعلة، وإن كانت غير منظّمة، من مثل القوى التي نشاهدها تقف وراء عمليات تغيير الأنظمة في المشهد العربي الجاري.
قد يقترب من الصواب أن ننظر إلى الساحة السُودانية جزءاً من كُل، وإن احتفظنا لها بخصُوصياتها مثل ما نرى من فُروق بين بلد وآخر، دون أن يغيّر ذلك من الاتجاه العام للأحداث. ويجدُر بنا أن نُلاحظ ما يبدُو كحالة وعي تنتظم النُخبة الانقاذية الحاكمة ذاتها، أكثر من كثير من شرائح النُخبة الوطنية في تيارات أُخرى، يشي بأنّ محرّكات التحوّل، وما يُمكن أن يترتّب عليها من تغيير سياسي، تتفاعل بقوّة ووُضوح.. التحوّل جارٍ .. جارٍ، إمّا أمسكت النُخبة الإنقاذية بزمامه، أو تجاوزها وانتهت ضحيةً له.
٭ ولكن هل تنطبق نظريتكم حول المشهد العربي على السُودان؟
ــ دعني هُنا أُجلّي ما ذهبت إليه في الجُزء الأوّل من هذا الحوار حول جوهر التحوّل في المشهد العربي. أنا قُلتُ إنّ محرّكات التحديث وأدواته أكملت دورتها، أو شارفت على ذلك. وأقصُد هُنا التحديث (Modernization) وليس بالضرورة الحداثة (Modernity). فالأخيرة هي واقعة تاريخية أنتجها سياقٌ أوربّي قبل قُرونٍ خلت، كعملية تحديث تبقى مُحتفظة بخصوصياتها، أي بمعنى تأثّرها بمحدّدات بيئية، خاصّة بيئتها الثقافية والاجتماعية. أمّا التحديث فهو صيرورة (Process) تحرّكه، لدى المُجتمعات المُختلفة، محرّكات التحديث المعروفة، مع احتفاظ المجتمع المعني بخصوصياته، خاصّة الثقافية. ففيما احتفظت الحداثة الغربية «الأوربية/الأميركية» بالفرديّة (Individualism)، والماديّة مثلا، احتفظ التحديث في الشرق برُوح الجماعة (Collectivism) والتديّن كملمح بارز له.
والشاهد في هذه المقاربة هُو أنّ المُجتمعات تخضع، بلا استثناء لضغط التحديث وتتأثّر به تأثيرا بالغا، بمعنى أنّه ليس هُناك مجتمع إنساني مفتوح وذو قابلية/ قابليات للتفاعل تحديثياً، في مُقابل مُجتمعات صمّاء جامدة غير قابلة للتأثّر بعوامل التحديث ومحرّكاته والتجاوب معها. أمّا الخُصوصية فليست حِرزا ضد استجابة المجتمع، أيّ مُجتمع، للتحديث. والتحديث يؤدّي إلى التحوّل، دورة وأخرى، كما نشاهد في مسيرة التاريخ الإنساني المُمتدّة.
وكيف تربُط بين ضغط التحديث والتحوّل في المشهد العربي؟
ــ يلزمُ أن نُلاحظ أنّ التحديث في المشهد العربي، ومن ذلك الحالة السُودانية، أورثنا هياكل الحداثة الغربية وبعض مُفردات خطابها مثل الدولة الحديثة، الجمهورية، الدستور، الديمقراطية، الأحزاب، المُواطنة، لكنّنا لم نستلهم، في الوقت ذاته، الرُوح والمضمون. لذا لم نرث ثقافة سياسية تعزّز، وتُحيل إلى سُلوك يومي، فكرة العقد الاجتماعي بين المُواطن (Citizen) والجمهورية (Republic)، ولم نرث الدستورية (Constitutionalism) كروح وقيمة تطبيقية فيما ظللنا نتشبث بالدستور (Constitution) كوثيقة قانونية ذات قيمة تطبيقة متواضعة! ولم نُوطّن رُوح تداول السُلطان في السياسة الشرعية رغم أنّها سنة الإسلام في الحُكم «وتلك الأيّام نُداولها بين الناس»، بل ولم نحصّن الدولة ضد الاستبداد عبر ثقافة الشفافية والمساءلة وآلياتهما التطبيقية.
٭ ولكنّكم تحدثتم عن اكتمال عملية التحديث أو أنّها شارفت على الاكتمال؟
ــ صحيح.. لكن لم تكن مسارات التحديث جميعها متساوية في التقدّم. لقد سبق التحديث المعرفي/التقني والاقتصادي والمُجتمعي التحديث السياسي. وفي السياسة أخذنا الهياكل وبعض مُفردات الخطاب، بيد أنّنا لم نستلهم المضامين ونطبّقها في الممارسة اليوميّة. التحديث، مثلا، يقوّي فكرة الذات (Self)، وهذا ممّا تترتب عليه رغبة الفرد الجامحة للتعامل سواء بسواء مع الغير أو الآخر. والآخر يكون، في بعض الأحوال، هُو الحاكم، الذي ظلّ في حالتنا في المشهد العربي المُمتد متمسّكاً بالحكم له ولأبنائه، الأمر الذي يجعل الأفراد «المواطنين» في المُجتمع الحديث أكثر وعياً بفكرة تداول السُلطة، حتّى ولو توفّرت لهم أسباب الكفاية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. وهُنا نجد أنفُسنا، وجهاً لوجه، تحت ضغط مسارات التحديث الأُخرى على المسار السياسي المتخلّف عنها بهدف اصطحابه معها، وإلحاقه بها كتفاً بكتف. وهذا ما يجعلنا نقول بأنّنا تحت ضغط شديد لصالح التحوّل، وليس مجرّد تغيير الحُكم من خلال عمليات إبدال وإحلال على نحو ما أوضحنا سلفا.
٭ وهل من وعي داخل التيار الإنقاذي الحاكم بضغط الحاجة للتحوّل؟
– التيار الإنقاذي، بنخبته العريضة من المهاجرين والأنصار، يمثّل القاعدة الأعرض داخل النخبة الوطنية. وهناك مؤشّرات عديدة تشير إلى أنّ مستويات عديدة من هذه النُخبة العريضة تبدو مشغولةً بالتفكير في كيف تُدير بذاتها عملية التحوّل بحيث لا تنتهي، آخر النهار، مجرّد تابع لتحوّل تتفاعل عناصره، أو أن تكون ضحيّة له كما هُو الحال في تجارب التيارات الحاكمة في مصر أو تُونس مثلاً. لكُم أن تلاحظوا الانشغال الجاري، لدى القيادة الإنقاذية، بالبحث عن مسبّبات التغيير الذي وقع فى الفضاءات المجاورة مثل مصر وتونس واليمن، وسعيها لطرح بعض الحلول. ونرى هذه المساعي من خلال الحديث المتكرّر عن حكومة القاعدة العريضة، أو من خلال تبني اجتهادات اقتصادية/ اجتماعية تتجه لتخفيف الضغط المعيشي عن المواطن، أو الحديث عن الاقتراب من الشعب كما تعبر عنه الجولات المتعدّدة التى يقوم بها أقطاب الحُكم من يوم لآخر، ومن ولاية لأُخرى. والحديث عن محاربة الفساد، بل وطرح أفكار حول تأسيس مفوضية لمكافحته، وقرارات رئيس الجمهورية بتصفية عدد من شركات الدولة العاملة في السُوق. بل أنّ الرئيس نفسه يتكلم الآن عن موضوع التغيير بفهم ما، ويقول إنّهم مستعدون، إن كان الشعب غير راغب فى بقائهم، أن يغادروا السلطة، فضلاً عن تكهّنات بعدم ترشّح/ أو ترشيح الرئيس لدورة رئاسية جديدة.
وأستطيع أن أقول في ما يتعلق بالساحة السودانية، والتيار الإنقاذي على نحو أخص، إنّ هنالك إدراكات متعاظمة بأنّ السودان ليس بعيداً عن التحول الجاري في المنطقة العربية، وإن بدت فكرة التحوّل مُزعجة، نحوا ما، لبعض القياديين لما تعنيه، في شكل من الأشكال، من تغيير النظام الحاكم. وهُنالك تصريحات متكرّرة فى الخطاب السياسي الإنقاذي نفسه، ترحب بما تم من تغيير. وتابعتم كيف أنّ الحركة الاسلامية، على طريقتها، تدعو منسوبيها للتضرع بالدُعاء لكى يتخلّص الشعب الليبي من القذافي. وترحيب بعض الكيانات المنسوبة للجماعة الإنقاذية بالذي يجري فى مصر، فقد أصدرت نقابة المحامين التى يسيطر عليها المؤتمر الوطني بياناً يرحب بالذي جرى فى مصر، وينادي باستكمال التغيير فى ليبيا. غير أنّ الملاحظة الأهم، فى تقديري، هي أنّ منسوبي هذا التيار خاصة الفئات العمرية الأحدث نسبياً، مفتونة بالتحول الذي يجرى الآن، وربّما رأت نفسها لاعباً فاعلاً فى تغيير قد يتم داخل ساحتهم فى الاتجاه ذاته. وهذه حالة نفسية طبيعية لفئات عُمرية هي أقرب إلى روح الثورة في الأساس. وهذه جميعها ملامحٌ وعي أكيد وسط شرائح التيار الإنقاذي، ونُخبته، بالتحوّل، ممّا ينبغي أن يُوضع في الحسبان، إذ ليس من الحكمة النظر إلى الحالة الإنقاذية، بأيّ حالٍ من الأحوال، بأنّها حالةٌ صماء معتصمة بما هو سائد، ورافضة لأيّ تغيير. والنُخبة الإنقاذية هي الأقربُ، شُعوريّاً، والأكثر تهيؤا للتغيير.
ويبدو التيار الإنقاذي، من حيث تكوينه النخبوي/الشبابي، الأوفر استعداداً من داخله للعب دور رئيسي، وربّما الدور الرئيسي، فى التحول المُتفاعل سُودانياً.. ربّما يأتي هذا بسبب أنّ الانقاذ الحاكمة لا ترغب فى أن ترى نهايةً لنظامها على نحو ما جرى لأنظمة مجاورة مثل مصر وتونس. وثانياً، ربّما لأنّ التيار الإنقاذي يستوعب بداخله نُخبةً تملك القدرة على تصور ما يجري على نحو أكثر موضوعية، وأن يرى ضرورة الاستجابة للتغيير، وضرورة أن تنشأ هذه العملية من داخل الهيكل الإنقاذي نفسه.
وقد يرى أكثر من مُراقب أنّ هنالك مؤشرات تتعارض مع هذه الرؤية، مثل التعويل المُفرط للحُكم على قدراته الأمنية، واستخدام هذه القُدرة المُفرطة للحيلولة دون تغيير النظام. ومن ذلك حساسية الحُكم المَرَضيّة، أحيانا، تجاه الصوت المعارض. ولكن ما يُعارض هذا التقدير في المُقابل، هو، ضمن تمظهُرات أُخرى، ما يُطرح من أفكار من طرف قيادات إنقاذية، من بينهم رئيس الجمهورية نفسه، تدعم فكرة التغيير.
٭ الإنقاذيون يفضّلون استمرار حالة الانفراد بالحُكم؟
ــ أنا أتصور، بالرغم من توافر هذا التهيؤ للتغيير داخل النخبة الانقاذية، أن تبقى جُملة مهام يجب أن تُوضع على الطاولة.. من ذلك ضرورة أن يكتمل الوعى لدى هذه النُخبة بضرورة أن تتصدى بذاتها «النخبة الانقاذية الحاكمة» لإطلاق مبادرة الاستجابة لداعي التحول، وأن يتم ذلك بدرجة كافية من الجدية. ومن ذلك، تالياً، أن تنطلق مبادرة الاستجابة للتحوّل من منظور فكري يتجاوز اجتهادات التغيير السابقة التى ظلت تطرحها النخبة الانقاذية، والتى ظلّت تقوم، بشكل رئيس، على استدامة الحكم لصالحها على نحو منفرد، أو بتحالفات سياسية لا تؤثّر على ما بين يديها من سُلطة. فقد كانت الإنقاذ، حتى حين تنشأ دواعٍ لاستيعاب آخرين، تكون عمليات الاستيعاب هذه، شكلية بدرجة كبيرة، باستبقاء مركز السلطة والتنفُّذ فى أيدي متنفذيها.
٭ هُناك من لا يرى مسوّغاً للتغيير؟
ــ أبداً.. أنا أرى أنّ مسوّغات قيادة عملية تحوّل من خلال مشروع وطني تجديدي أكثر ممّا توفّر في بعض حالات المشهد العربي. فغير حالة التململ العام، نحن الآن دولة جديدة بعد انفصال الجنوب واستقلاله عن الخُرطوم. هذه الواقعة الكُبرى تضعنا أمام تحدٍّ كبير هو بناء الأمة للدولة الجديدة وما ينبغي علينا ألا نجنح إلى التبسيط بتصوّر أنّنا قد عُدنا مدينة فاضلة شديدة الانسجام وموحّدة الرؤية. ثمّ أنّ هذه الدولة الجديدة يلزمها أن ترى لنفسها مشروعاً وطنياً مركّزاً على المستقبل، بشكل رئيس. وأن يكون هذا المشروع الوطني مشروعاً ملائماً لهذه اللحظة من تاريخنا الوطني، وأن يكون مشروعاً بالجميع وللجميع. وأن يكون هذا المشروع مركبةً تحمل معها فكرة مستقبل أفضل للسودان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *