صوت من الهامش
لا يعرف طعم النجاح، إلاّ من تكّبد رهق السهر، ولا يدرك قيمة التفوق، إلاّ من ذاق طعم الإحباط، ولأن ينجح المرء من أول محاولة، فإن ذلك محال أن يكون ضربة حظ، أو من حسن الصدف، الكثيرون من المبدعين يُكْتَشَفون بالصدفة، وقد يكون متأخراً، نظن أنّ الدكتورة النابهة سعاد مصطفى موسى، ابنة مربي الأجيال، التي تربّت في ربوع مدينة الفاشر، وانغمست في العمل الطوعي الإنساني في غرب السودان ووسطه وشرقه، منذ بواكير تخرجها من جامعة الخرطوم، كما عملت في ذات المجال في منطقة القرن الأفريقي، قبل أن تهاجر مع أسرتها إلى المملكة المتحدة، نظن أنها واحدة من مبدعات السودان وأفريقيا والعالم، في مجال سبر أغوار العلوم الإنسانية، هيأتها طبيعة البنية الاجتماعية الدارفورية، وأسعفتها مقدراتها المبهرة في مجال البحث السوشيلوجي العلمي، والاهتمام بالتنمية الريفية، وتنمية المجتمع، لتستكشف الرابط بين المرأة والحرب، فتعكس الأبعاد المخبأة والدفينة للصراعات المسلحة في اقليم دارفور، وتلكم التي أوقدت اوارها حكومة الانقاذ في عموم السودان، كنموذج لمعضلات القارة الأفريقية.
في أبريل 2018م، أصدرت الباحثة سعاد، والتي نالت درجة الدكتوراة من جامعة برادفورد بالمملكة المتحدة عام 2011م، كتاباً طبعته ونشرته دار جيمس كيري، احدي الدور العالمية للنشر الأكاديمي ببريطانيا، لتدشنه جامعة اكسفورد في اكتوبر 11، 2018. هذا الاختيار الإبداعي المزدوج والموّفق، المعّنون: (hawks and doves in Sudan’s armed conflict. Alhakkamat Baggara women of Darfur) المترجم الي “صقور وحمائم في الصراع المسّلح في السودان، الحكّامات في دارفور”، رغم تعقيده، حثّ اللّجنة المشرفة على جائزة الكتاب العلمي Aidoo-Snyder الأمريكية على منح كتابها، من بين قائمة مختارة من كتب عالية القيمة، سديدة المنهج، تعالج شؤوناً افريقية عدة، منحه الجائزة المتفردة لهذا العام 2019م على مستوى العالم كأعتراف عالمي لدور وقدرات الكاتبة الأفريقية الفذة، كما دشّن منتدى أجندة مفتوحة، الكتاب في إحتفالية مؤثرة بحضور الجالية السودانية بلندن، وذلك قبيل أسابيع قليلة من إعلان هذا الفوز غير المفاجئ، للذين إطلعوا على محتواه السياسي الفلكلوري، ومنهجه الصارم.
استطاعت الدكتورة سعاد مصطفى موسى، عبر هذا الكتاب الماتع، رغم بعض الإبعاد المأساوية، والمفارقات المنطقية، إستطاعت أن تعيد قضية دارفور ومحنة أهلها، إلى الواجهة العالمية، هذه المرة ليست بأبعادها الإنسانية فحسب، والتي لا تزال جرحٌ ينزف، وإنما من خلال لفت الأنظار إلى أنّ هناك أيضا باحثات متمرسات وجادات من بنات الإقليم وعموم الهامش، من هنّ قادرات على الإسهام في صقل التجربة الإنسانية في أفريقيا، من خلال النظرة الموضوعية للظواهر السالبة، بغية توجيهها إلى مسارها الإنساني الإيجابي والمفيد.
فرّق الكتاب بين الإثنية ethnicity والعرقية race، وأوضح كيف أنّ سلطنات دارفور السابقة كانت، تتبنى التعددية الثقافية، وأنّ التمثيل السياسي للمرأة، كان حلقة أساسية ضمن هرمية السلطة، وفنّد بدايات الحروبات في دارفور، وأرجّع دوافع تطورها إلى سياسات النخبة الحاكمة، التي قصدت وأوجدت فراغاً مهنياً، ومحدودية سبل كسب العيش خاصة للشباب، وتحويلها دارفور، إلى مورد بشري للتجنيد العسكري الرخيص. من هنا يبرز دور الحكامات، المتمحور حول التحشيد للفروسية والكرم والأخلاق الحميدة، ولكن نظام الإنقاذ اجتذبه االدور التحشيدي والتعبوي للحكامة، فاستغله في حرب الجنوب، وحروباته في الهامش، من خلال تنظيمهن مع الشيخات، والاحتفاء رسمياً بهن، وتسليط الأضواء عليهن، ورفع شأنهن إعلامياً، والسيطرة على الإدارات الأهلية، وعقد فعاليات لإعادة توجيه رسالتهن، بحيث تتماشى مع خطاب الإسلام السياسي البراغماتي. هذا التحول الذي أحالهن إلى صقور محضة، واخفت أدوارهن كرسل فاعلين للسلام، رهناً بالظروف والمناسبات.
لم تغفل الكاتبة كيف أنّ الحكومة المركزية ضربت مجتمع دارفور في كرامته وثقافته، وخلصت إلى أنّ الحكّامة وظيفة خلقتها البيئة والمجتمع، كصوت إستغاثة وحماية لكيان العشيرة، وتطورت إلى رمز للإبداع والكفاءة.
جاء في حيثيات اللجنة المانحة للجائزة بشأن عمل سعاد موسى ما يلي:
“يعتبر (كتاب) صقور وحمائم لسعاد موسى، عملاً مثيراً للإعجاب، دقيق ومبدع، يمزج أساليب منهجية سوف يظل يتردد صداها في مجاليّ الدراسات الإنسانية وتلك المشفوعة بالبينات كليهما، الكتاب طموح في تخصصه وتطلعه، ويرتكز على وضوح حول مخاطر الإمساك بفهم متعدد ومعّقد للمناهج المختلفة، والتي تكون أحياناً عصية على الافهام البديهية لمفهومي “المرأة” و “الحرب” في السودان المعاصر (وما يليه). تقدم سعاد موسى صورة واضحة لتاريخ ومسارات حروب دارفور، وهشاشة مفاهيم العرق والنوع والجندر والقومية في تلك الحروب. “صقور وحمائم” كتاب جريء، يرصد دور المرأة في الصراعات، وتأرجحهن كنساء صانعات سلام أو ضحايا في الحروبات.
يتيح كتاب سعاد موسى، مدخلا فريدًا، ورؤية ثاقبة لجزء من العالم، تعبر فيه العديد من الأوساط عن آراء قوية، عالية النبرة، ولكنه يظل في واقع الامر غير متاح، إلاّ لقليلين جدا. من خلال قراءتها الدقيقة لأنثروبولوجيا الهويات، والانتماءات، والقوميات، وتفاعل السياسات الجزئية والكلية في المنطقة، تسّلط سعاد موسى الضوء على شخصية غير متوقعة، كلاعب في تعبئة الحماسة الإثنية، والصراعات القومية داخل الدولة. يرّكز هذا الكتاب على فئة من النساء من ذوات الأصول العربية، في مجتمع دارفور، المعروفات بالحكّامات، اللاتي تتم تربيتهن، ورعايتهن ليكنّ شاعرات مغنيات، ويحظين باحترام وتأثير كبيرين، يسمحا لهن بالتحدث علنًا عن القضايا السياسية. فيمكنهن أن يكنّ مادحات، كما يمكنهن أيضًا تدمير السمعة (متى أردن).
بالنسبة لسعاد موسى، تعود سلطة الحكّامات إلى ما قبل فترة الحكم الثنائي، عندما كانت العديد من النساء يشغلن مناصب سياسية عالية، وعلى الأخص في سلطنة الفور. يثير عمل سعاد موسى المفصّل بدقة حول محتوى وسياق أشعار الحكامات، التي تم جمعها وتلخيصها بين عامي 2006 و2016، يثير أسئلة مهمة حول المواقف التي تنطلق منها الحكامات حين يعبرنّ عن انفسهن.
كتاب صقور وحمائم يدور حول القوة، (والفاعلية) التي تتمتع بها الحكّامات في الدفاع عن مُتَصَوَّر ذكوري عسكري معين، باعتباره جوهر الهوية الوطنية (الإثنية)، وحول الدور الذي لعبه خطابهن، في النزاعات المسلحة في المنطقة. بينما كان من الممكن أن تكون الحكّامات حمائم للسلام، إلاّ أنّ التزامهن بسياسة دفاعية للعشيرة (بقصد الحفاظ على سلامتهن الخاصة)، جعلهن من صقور الحرب.
في نهاية المطاف، تكافح الحكّامات في ظل اقتصاد وطني متعثر، يضع ضغوطًا خاصة على معظم المكونات المحلية، حيث يحظين بتقدير كبير، ويجبرهن على المساومة بأصواتهن، بشكل فعال، في مسرح عسكري أوسع، يعتبر بعضاً منه من صنعهن. بوجه عام، إذن، يتساءل الكتاب عن ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه أيّ فرد، سواء في دقّ طبول الحرب أو نشر رياح السلام.”
يعتبر الكتاب إضافة عظيمة للبحث العلمي في مجال العسّكرة، من بين مجالات معرفية أخرى، كما يقف كتاب صقور وحمائم بمثابة عمل فكري، صارمٍ منهجياً، ومثيرٍ للتساؤل سياسيًا؛ كما يعتبر عملاً ومنجزًا من الطراز الأول في مجال الدراسات النسويّة الأفريقانية.” إنتهى.
رغم بحوثها العديدة، باللغتين الإنجليزية والعربية، كتاب صقور وحمائم، والمنتظر ترجمته إلى اللغة العربية، كأول منتوج فكري متكامل لها، هذا الفتح البحثيّ غير المسبوق في نطاقه ومنهجه، بلا شك سيشكّل منعطف غاية الأهمية والتأثير في حياتها الأكاديمية والمهنية، وبكل تأكيد هذه الجائزة المستحقة، لأول ثمرة نضجت بمثابرة على دفئ شمس السافنا، خلال عقد من الزمان، من البحث والرصد المتابعة والتحليل، بكل تأكيد، ستولّد طاقة فكرية مهولة للدكتورة المتفردة سعاد مصطفى موسى، تناسب مشكلات الإقليم المعقدة والمتحركة، وتواكب المرحلة التحولية لسودان المستقبل، المتطلع لأدوار كبيرة ومميزة للمرأة، تشرّف أخواتها وزميلاتها النسوة، بطول القارة السمراء وعرضها.
يتمدد كرنفال احتفالنا بالدكتورة سعاد مصطفى موسى، لحين عودتها من بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر القادم بعد إستلامها جائزة Aidoo-Snyder وبعدها، عليها أن تتحزم لتبعات هذا الإستحقاق العلمي والإنساني، وسط أهلها المهمشين في دارفور وربوع السودان، وأخواتها على مستوى القارة الأفريقية، التي نالت الجائزة باسمهن بكل فخر.
//إبراهيم سليمان//