صلاح شعيب
التفسير الأرجح لتخلص زعيم حزب الأمة من أمانة الدكتور إبراهيم الأمين هو أنه ليس رجل المرحلة في مهادنة النظام القائم. بل ليس هو الشخص الذي يريده جناح المؤتمر الوطني فاعلا داخل قيادة حزب الأمة، وهو الجناح الخطير الذي عوق خطوات الوطنيين الكثر في الحزب العتيق.
أما ما قيل عن سبب فشل الأمين في خلق “أمانة عامة توافقية”، وغيرها من الأسباب، فهو إنما ضحك على “ذقون الأنصار، وغير الأنصار”. إنها مبررات لا تنطلي على ذهن المتابعين للتوتر الباكر الذي شاب العلاقة بين الصادق المهدي، والمقربين إليه، من جهة، وإبراهيم الأمين من الجهة الأخرى، منذ انتخابه أمينا عاما للحزب. ولعل الناس يذكرون أن ذلك الانتخاب لم يأت إلا عبر هزيمة ساحقة للرجل الذي يقف خلفه رئيس الحزب، وهو صديق إسماعيل. وهذا كان محافظا لمدينة كلبس في زمنالإنقاذ. رجل كهذا أقرب للصادق المهدي اليوم من البروفسير مهدي أمين التوم، ومن قبله الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه الذي استقال احتجاجا.إن كل ما حدث في مسرحية التخلص من الأمين العام السابق هو في حد ذاته انتقام للديموقراطية التي أتت به، وهزمت خيار الرئيس الذي وضع كل المعوقات أمام إبراهيم الأمين لعرقلته دون القيام بمهامه. ولهذا بدا اجتماع اللجنة المركزية الأخير كانعكاس لصراع الصادق مع أحد الذين يناوؤون تقربه من النظام ليس إلا. وما هذا الحشد الصوري المسمى اللجنة المركزية إلا تخريجات في طرق نحر الديموقراطية. فالمشكلة العميقة التي يعاني منها زعيم حزب الأمة هي أنه يريد الذين من حوله تابعين محضا، لا مشاركين بالرأي، أو ناصحين، أو ناقدين له. ولذلك خسر معظم قادة الحزب الذين كانوا من حوله. فتاريخ ممارساته يوحي بأنه ولد ليقود سائر المتحزبين معه، وكذا السودانيين. ذلك دون أن يتيح فرصة لهؤلاء أن يقوموا بمراجعة مقولاته، وافكاره، وتحالفاته، أو يحكموا بخطلها مثلا. بالطبع من ناحية حرية أي اجتماع إنساني لا توجد غضاضة في استتباع غالب من الناس الآن لمصدر من مصادر الفشل البشري. فقدر الرجال الذين يتشاركون في القبول بهذه الوضعية الاتباعية، لا الإبداعية، هو قدر ضعف في التعقل السياسي المعاصر. بيد أن هذا النوع من الطموح الاستفرادي للزعامة مجبول على الفشل، أو بالكاد، ينتهي بصاحبه إلى التوهم بالعظمة. أما الذين يرضون بفكر الاتباع دون موقف فمعذورون بحكم أفكار بعض النخب التي تشكل الأرضيات الاجتماعية في عالمنا الثالث. إذ تكون الغلبة لتجذر صمدية ثقافة الزعامات لا ثقافة المؤسسات، لممارسات الشموليات لا المجتمع المدني، لفكر التقليد لا فكر التنوير.
فنحن نعرف، والصادق يعرف، أن حاجة السياسي، أو الإنسان عموما، إلى من يقوم عيوبه، ووساوسه، وهناته، ويشذب أفكاره. والإرث الديني الذي ما فتئ الإمام ينبهنا لمكامن معانيه الجليلة، يقول بأن المؤمن مرآة أخيه. ولكن هل يصدق مناصرو الرجل ـ إن صدق هو مرة ـ أن له عيوبا سياسية قاتلة، مثله مثل القادة السياسيين، ما يستدعي قناعته بأهمية القبول بالرأي الآخر في كل سانحة.
الغريب في زمن الميديا الحديثة التي حررت الكثير من العقول يحاول البعض الربط بين نقد الصادق المهدي وما سموه إنتاج “قلة الأدب” تجاه قداسته الدينية، والسياسية المظنونة. ولعل هؤلاء الذين يخلقون هذا الربط هم من سليل الذين منحوا الصادق المهدي هذه الوضعية من التقديس الآن، وبالتالي استحقق لنفسه أن يحول مقولاته، ومواقفه السياسية، إلى مقدسات لا يحق مساجلتها. إن عارضها بكري عديل احترق، وإن شكك فيها مادبو عزل هو ورأيه، وإن عارضها صلاح إبراهيم أحمد همش، حتى إن خاصم إبراهيم الأمين صبره على الرجل وقال لا، أهين عبر مسرحية سيئة الإخراج، ووسط حضور المأذون الإنقاذي مصطفى عثمان.
إن التخلص من إبراهيم الأمين بما صور لنا بأنه إجراء ديموقراطي كان محاولة لإهانة الرأي الآخر في الحزب. وقد جاء البيان الذي أصدره الحزب بعد اجتماع اللجنة المركزية لينتقم من الأمين ويشوه صورته أمام الرأي العام رغم ما بذله من عمل لصالح الصادق المهدي والحزب. والحقيقة أن الحزب لم يكن شرسا في لغة بيانه بعد أن سحبت اللجنة المركزية الثقة من صديق إسماعيل حتى توضح فشله. ولكن لأن إبراهيم الأمين كان يقف ضد خطوات التقارب مع النظام استحق ما لم يستحقه صديق إسماعيل. ولكن كل هذا يوضح لنا إلى أي حد يحل المكر السياسي محل الممارسة الديموقراطية في بلادنا. فقيادة حزب الأمة ليست وحيدة في تمرير هذا الغش السياسي، فكثيرا ما نرى في بيئاتنا العامة كيف أن الأصل في الممارسة الديموقراطية هو صراع السخائم الشخصية على حساب المصلحة العامة. وكتب على الكتاب، والناقدين، أن يتعرضوا للشتم، والإهانة، إن هم غاصوا وراء هذه المسرحيات الديموقراطية لتبيان ذلك المستوى من التخبط، والجهل، والانتهازية، في تفكير المعنيين بأمر المؤسسات العامة. ولذلك أجبرت غالبية الصفوة عنوة على السكوت، وإن كتبت فإنها لا تمس جوهر هذه الأزمات، وإن حللت فلا تجد تعيينا لمكامن الخلل التي تطعن في ازدهار الديموقراطية في ممارسات الأحزاب.
ومن هذه الزاوية كثيرا ما تغيب الديموقراطية بمعناها الصحيح داخل حزب الامة، ونادرا ما تحدث. ويبقى معظم الحراك السياسي مجرد تصفية حسابات شخصية للذين عجزوا عن خلق التسامح تجاه الرؤى المتباينة. وكل ما في أمر التخلص من دكتور الأمين، ومن قبله جماعة التيار العام، ونصر الدين المهدي، وعبد الجليل الباشا، هو أنهم جميعا كانوا يحملون رؤى موضوعية مخالفة لتوجهات رئيس الحزب. ولكن السيد الإمام ما عاش ليجد من يخطئ أفكاره. ولذلك حدث ذلك الفراق بينهم وبينه، عوضا عن محاولة إيجاد منطقة وسطى للتعامل مع فكرتي رفض التقرب من النظام ومصارعته حتى يسقط.
إن الادعاء الذي تتباهي به قيادة الانصار بوجود الديموقراطية داخل حزب الأمة الآن يكذبه عدم الاستقرار في العلاقة بين زعيمه والقيادات التاريخية، وغير التاريخية، منذ أن حلت الإنقاذ. وكذلك تكذبه محاولات كبت الأصوات المنادية بدور مشرف للحزب وسط القوى الساعية للتغيير الثوري. فالديموقراطية الحقة لا يمكن إلا أن تبين في تطور هذه العلاقة لصالح بنية الحزب، وفي تأثيره السياسي، وفي فاعلية مواقفه، وفي ارتعاب النظام منه، وفي قدرته على تحديث النظرات السياسية، وتحليل الأزمات بمناهج جديدة، وفي قدرته على قيادة المعارضة إن كان هو بالفعل الحزب الرائد الذي نشط من أجل الاستقلال، وحكم البلاد مرات عدة. وإذن من المسؤول عن هروب، وعزل، القادة الذين ينتجون “الديموقراطية المدعاة” من قمة الحزب ليتنافسوا في تكوين “أحزاب أمة” لا تحقق إلا أحلام، وتطلعات، فئة قليلة عجزت عن تنمية ارتهانها المستمر للقداسة السياسية والدينية المستدامة؟
إن هشاشة التكوين القيادي، والفكري، والسياسي، لحزب الأمة جزء من هشاشة التفكير السياسي لثقافة المركزية السودانية التي تجاوزها الزمن. ولا يوجد هناك مدخل لتصحيح، وتطوير، هذا التفكير الذي انعكس على وضع المعارضة، والبلاد، بالبؤس، والتردي ، إلا بالمزيد من نزع الخوف من الزعامات المقدسة في البلاد. والضغط عليها لحملها على الاعتزال السياسي، وإفساح المجال للذين ولدوا يوم أن تحملوا هم مسؤولية القيادة، على الأقل. ولعل هذه الواجبات ملقاة، في المقام الأول، على عاتق الجيل الجديد، والشباب، الذين يسيرون خلف هذه الزعامات التي لا تسعفها عوامل كثيرة على المواكبة، والإنجاز، والإصلاح. فتلك الفئات مطالبة بمصارعة القوى الانتهازية التي تمنع قيام قرارات هذه الأحزاب على هدى من المصلحة العامة. ولا يمكن أن تتجاوز البلاد مآسيها دون استئناس القيادات الشابة في نفسها القدرة على إنهاء مصير الزعامات السياسية التي ما تزال تحكم إرادتنا لمدى نصف قرن.
فالصادق المهدي، ومحمد عثمان الميرغني، وحسن الترابي، ظلوا حجارا متعثرة أمام استقرار البلاد، وحطموا تطلعات الجيل الجديد الذي يمتلك قدرات متقدمة في قراءة الأزمات السياسية التي اصطنعها هؤلاء القادة بتنافسهم الشخصي على حساب مصالح الأجيال المتعاقبة. إنهم غير ديمقراطيين في تصرفاتهم مع مكوناتهم الحزبية، ومع ذلك لديهم القدرة البارعة على تخريج ممارساتهم في عزل الأصوات القوية وكأنها تمت بخلفية ديموقراطية.
صحيح أن هناك تفاوتا وسط هؤلاء القادة في تحمل سؤولية الخراب الوطني المنتج بواسطة غياب الديموقراطية في أحزابهم وفي واقع البلاد. ولكنهم في المحصلة العامة يتحملون مسؤولية الفشل في تطوير أحزابهم التي ورثوا قياداتها باتجاه الممارسة الديموقراطية الرشيدة والشفافة. بل إنهم جعلوا التسلط على الرؤى المنتجة في هذه الأحزاب أولوية بدلا عن تشجيع الأصوات الأخرى على تنمية الفكر القيادي داخل أحزابهم. إن القاسم المشترك بين القادة المذكورين هو عدم الاعتبار بالنقد الذي يوجه إليهم سواء داخل أحزابهم، أو من خلال وسائل الإعلام. لقد نموا في دواخلهم أبوية مطلقة تهمش عندها أي أفكار أخرى موضوعية. ولهذا تكلست أفكارهم، وأصبحوا بعيدين عن الواقع الذي تحجبه عنهم مجموعات من الانتهازيين الذين يتزلفون، أو يتوادون إليهم قربى. الأكثر من ذلك أنهم يحددون الموقف السياسي بناء على مواقفهم، وتنافس ثاراتهم الشخصية من بعضهم بعضا، وفي ذلك لا يراعون مصلحة للوطن أو المواطنين.
إن إصلاح قيادة حزب الأمة، وسائر الأحزاب الأخرى، ليس أمرا هينا إذا قنعنا بإمكانية أن هناك فاعلية مفترضة يوما ما في هذه الأحزاب. فالمؤكد أن هذا الإصلاح داخل هذه الأحزاب سيواجه بمزيد من مؤامرات الجماعات الانتهازية المتوطنة تاريخيا. وهناك أفراد داخل هذه الكيانات استمرأوا الدفاع بالحق، والباطل، عن هذه الزعامات التي استمالتها بوعد مقاسمة الكيكة حين تصل إلى السلطة. وللأسف من بين هؤلاء من يحمل مؤهلات أكاديمية عالية، ولكنهم في سبيل الوظيفة المستقبلية الوزارية يصمتون أمام الأخطاء البينة التي ترتكبها هذه الزعامات في حق عضوية احزابها، والبلاد، والعباد. والسؤال هو كيف توطن هذه الأحزاب التقليدية الديموقراطية في مؤسسات البلاد وهي لما تعجز عن تبديل فكر زعاماتها الأحادي على مدى نصف قرن عبر تداول سلمي، ولعل هذا التبديل تفرضه ظروف السن، وضرورات التجديد في قراءة الأحداث، وخلق بصمات جديدة في إدارة الشأن الحزبي، وتحفيز الأجيال الحديثة في العمل، والتخلص من سلبيات استيطان أشخاص محددين في القيادة؟.