خطر مابعد إسْقاط النظام
فضيل عبدالرحمن
[email protected]
قلتُ هذا من قبل.ما بين إسقاط النظام والتغيير الصحيح؛ بينهما خيطٌ سميك وجدارٌ أمتن من جدار برلين الذى تهاوى متزامناً مع قدوم هذا النظام. فوضع ما أنا بصدده هنا موضع الجد حتى لا نفسد مستقبل مازال طائعاً بين أيدينا لأمر في غاية الأهمية.
نتخيل أنه ومنذ قبل عقدين ونيف من عمر السودانيين كانت هناك رؤوس تتطوع للدفاع عن عقيدة وهمية ومبادي لايؤمن بها واضعوها حتى.ورؤوس ترى في النظام (الوصيّ) الربّاني المطلق الذي يفترض بها حمايته والدفاع عنه.
وحتى وقت قريب كان الكثير منّا يظنّ أن مسألة الجهاد وقتل الآخر بذريعة الإختلاف الديني وأقصاء الآخر الثقافي بهدف التنقية العرقية مسائل مرتبطة ظاهرياً بفاعليها طالما سينتفعوا بمناصب ومقاعد وثيرة.والكثيرون كانوا يعتقدون بما لا يدع مجالا للشكّ بأن الفورة المسماة بالجهاد وحماية دين النظام وعقيدتة بأنها فورة تماثل فوران شباب غيورين على حسناء عابرة لايعرفون عنها سوى مظهرها الجميل.لكن وبعد مرور كل هذه السنوات تبيّن أنّ الأمر في غاية الجد.طالما هناك من يؤمن بأنه لا يمكن أن يتراجع (قيد أنملة) في الدفاع عن الدين والعقيدة بهكذا شكل.!!
ماكنتُ أتصوّر أنّ رجلاً سودانياً سويا عزيزاً يخرج من بيته ويبايع النظام في قتال جديد بإسم الله اكبر ولااله الا الله بعد كل هذه التجارب التي خاضها. يخرج هذا الرجل وقد ترك من وراءه زوجة وأطفال في حفظ الله ورعايته- كمايعتقد- ويحسب بإقدامه هذا سيفلح بحوريّة أكثر جمالاً من إمرأته المسكينة الفقيرة.أو بمنصب أفضل في حال عودته حيّاً.أو ربما بحزمة ملايين عندما يكون من أهلنا الطيبين.!!
وآخر- وهو الذي وهبه إلههم عقلاً وحكمة ولحية – يرى أن من واجب الناس الدفاع عن الدين والعقيدة والأرض،أيّ دين وأية عقيدة وأرض أيها المسكين..؟ وكيف يقدم السودانيين مرة أخرى لتلك الجريمة التي مازالت ماثلة أمامهم والتي لن يغفرها لهم الله ولا التاريخ حتى اذا مافدوا بأنفسهم شواءاً جزاءاً بماإقترفته إيديهم بحق السودان.
لكن؛وطالما الأمر كذلك وبهذه الجدّية؛علينا وضع الظاهرة في الإعتبار بأن الشعب السوداني الذي- حسبناه -عاش مخدوعاً طوال عمره الأول؛ أقرّ بأنه لم يكن مخدوعاً يوماً من الأيام وانما كان يعي ماكان يفعله،مما يعني أنه قابل للحرق والإحتراق مرة أخرى من أجل الحفاظ على الدين ومكتسبات الوطن..! أوكمايعتقدون صادقين.وبالطبع نعني البعض بالشعب السوداني.
فالحقيقة الخطرة المحدّقة التي لا ينبغي تجاهلها وهي حقيقة (الجماعة)التي تشكّل نفسها بعد زوال الحكم. ولأن الأموال متوفرة حتى ذلك الوقت ؛فقد يكوّن النظام المطارَد- حينئذ- جماعات إرهابية بهدف إسترداد الأمجاد. وقد يجدون السند المادي والتسليح مضاعفاً من دول الجوار ذات الأنظمة السلفية لخلق تفجيرات وسط المدن السودانية،وغالباً مايطلقون على أنفسهم (جماعة كذا الاسلامية).أو جماعة (معركة الكرامة)أو أي مسمّى من مسمياتهم الخبيثة.
فالمؤشرات كلّها تشير الى ان النظام بعد إسقاطه- الحتمي- سيبقى مهدداً للأمن بشكل كبير عبر هذه الجماعات التي وصلت من الولاء درجة يصعب تثويبهم.فأنسدّت بذلك أعينهم عن معرفة الحقيقة فأضحوا كالبهائم بل أشدّ ضلالاً وتضليلا.ويبقى أمرهم قائماً حتى بعد القبض على قياداتهم.
ومظاهرالتشكّل الإرهابي من الشباب المهووس بدا يتبلور في شوارع الخرطوم في عدة أشكال كحرق بيوت الله(كنيسة الجريف)وطرد الجنوبيين ومنعهم من تقاضي مستحقاتهم المالية وإلحاقهم بالعبارات العنصرية في الشوارع،وما تلك إلا صورة مبكّرة لمايمكن أن يفعله هؤلاء العناصر الواهمة في المستقبل القريب.
فلأن السؤال يبقى قائماً مابقي أمل التغيير،وهو أنه هل سينتهي النظام ويخبو صخبه وضجيجه وجهاده ودينه وكل خرافاته بإسقاطه وإنتهاء حكمه وتسليم رؤوسه للعدالة.؟؟وهل سيعود المهووسين وخاصة الشباب منهم الى بيوتهم وقراهم يلوكون الحسرة والملاحقات، أم إنهم يذهبون الى الثكنات الخلفية لخلق جماعات أرهابية تنتسب الى الإسلام وتباشر الجهاد ضد الواقع الجديد..؟ فبالرغم من أنها- جهادهم ودينهم ومشروعهم وفكرهم- أمور لا تعدو أن تكون اكثر من نهاية للنّتانة والتطرف؛ إلّا انه ومن الضرورة بمكان أعطاء الأمر أهميته منذ الآن.لأنه مازال مِن مَن يريد دخول الجنة عبر مناصرة النظام والقتال في صفه حتى بعد إحقاق الحقيقة.وهناك مازال من يحترق شوقاً الى حور العين في جنّةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدّت لهم، ولايمكن أن تطأ قدماه هذه الجنة إلّا بمزيد من قتل الآخر جهاداً في سبيل الله،والله الذي تبرّأ منهم ويكاد يعلنها جهراً بأنه بريء منهم وممايفعلون ويقولون.
ولأنّ أصدقاء ورفاق الدرب والعقيدة المقبورين الذين راجَت أسماءهم حتى حسبناهم ملائكة أمثال على عبدالفتاح وسكران الجنّة والمعز عبّادي وحاج نور وغيرهم ممن أهلكَ نفسه في لحظة نشوة مضللة،لهؤلاء أصدقاء أحياء يمنّون النفس باللّحاق بهم، ممايعني إنهم جاهزون للإنتحار الأخير.سيحدث ذلك رغم أنهم الآن على دراية تامّة بدنوّ أجلهم وأُفول نجمهم إلى الأبد.
تقول الحكاية بأنّ أحد المهرّجين في المسرح خرج وقال للجمهور المشاهد بأن هناك حريق.وبالفعل كان هناك حريقاً بدا يلتهم الستائر الخلفية للمسرح؛لكن الجمهور أعتبر أن الأمر جزء من المسرحية فتعالت ضحكاتهم عالياً.ورغم ان المهرّج بدا يصيح بأن الأمر حقيقي إلّا أنهم ظلوا يضحكون بأعلى أصواتهم ظنّاً بأن الأمر ليس إلا فاصل مسرحي.وهو الأمر الذي يحدث الآن مع النظام لكونه لا يريد التصديق والإعتراف بأن الستائر بدأت تتآكل،أو تآكلت بالأحرى.