هل يعيد التاريخ نفسه ؟
***خطاب مفتوح للسيد الصادق المهدى ، زعيم حزب الأمة وآخر رئيس وزراء في العهد الديمقراطي
السيد الجليل الصادق المهدى
بعد التحية والإحترام
لقد رأيت أن أكتب لك هذا الخطاب المفتوح لأقول جهراً ما يقال سراً في المجالس الخاصة ، ولأني كمثل ملايين السودانيين مأهول بحب الوطن رغم آلاف الاميال التي تفصل بيننا .. ولأن السودان ومستقبله كالهاجس الذى يزورنا في ساعات الليل و النهار ، و البند الثابت في كل لقاءاتنا العائلية ، السياسية و الثقافية والاجتماعية . و بما أنك آخر رئيس وزراء يتم انتخابه ديمقراطياً ، بل بما أنك أطول السياسيين خدمة حيث شاركت بشكل أو آخر في ثلاثة أرباع فترة ما بعد الاستقلال ، فقد حدثت أشياء أو أخطاء في فترة حكمك لا ندرى مدى مسؤوليتك الشخصية عنها. ولاعتقادي أن تلك الممارسات قد أثرت سلباً على مسيرة الديمقراطية في السودان بشكل مباشر ، وأوصلتنا الي ما نحن فيه من تيه وضياع ..ولكيلا يظلمك الشعب السوداني فمن حقه السؤال ومن واجبك الإجابة بكل ما تستطيع من معرفة ودراية بالأمور..
إن من أهم مقومات الديمقراطية الوضوح والشفافية ، وأتمنى أن تكون إجابتك بالكرم الذى عرفت به، وهدفي من هذا الخطاب محاولة فهم تجربتنا و التعلم منها لكيلا يعيد التاريخ نفسه.
هذه الأخطاء (الممارسات) قد تحمل أكثر من تفسير. فهناك من يعتقد أنك لم تكن في ملكة من أمرك ، وأن هناك أيادي خبيثة ولا تؤمن بالديمقراطية، كما حدث في تمثيلية معهد المعلمين العالي التي أدت الى حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية.
وكانت أيادي الجبهة الإسلامية (جبهة الميثاق الإسلامي) واضحة في تلك التمثيلية.. التي مثلت أول خرق للدستور بعد ثورة أكتوبر 1964، وهناك من يتهمك بحب السلطة ، بأي ثمن حتي أن أدي ذلك للتنكر للتعددية وتبني الحزب الواحد (الديكتاتورية) كما حدث في دخولك الاتحاد الاشتراكي بعد مصالحة نميري منفرداً، أو مصالحتك للبشير مؤخراً..
هل هو ضعف أمام الأعداء (الجبهة) وابتزازهم باسم الدين؟ أم هو ضعف امام إغراءات الحكم؟، وكما يعتقد البعض أنك لا تحتمل البعد عن الحكم لأكثر من عشرة سنوات، خوفاً من أن ينساك المسرح السياسي!!
***
الممارسات التي تعتبر جسيمة بحساب الديمقراطية كثيرة لكن سأذكر منها الآتية للاستدلال لا الحصر. وسأذكر تلك التي لديها علاقة مباشرة بالممارسة الديمقراطية أو التفريط فيها..
الخطأ الأول:
بعد اكتوبر 1964، جئت الي البرلمان تحمل لقب (الصادق أمل الامة)..ولكن جبهة الميثاق الاسلامي كانت لها حسابات اخري، ومن عدائها للشيوعية فقد الفت تمثيلية معهد المعلمين العالي التي ادخلتك في مواجهة مع محكمة الاستئناف العليا، حيث رفضت قرار المحكمة بعدم شرعية قرار البرلمان بحل الحزب وطرد نواب انتخبهم الشعب. ولكن مرر الترابي وجماعته مشروعهم الذي ترك شرخاً في الديمقراطية والدستور لم يندمل..
الخطأ الثاني:
مصالحتك منفرداً للنميري وترك بقية قوي المعارضة في ليبيا وأماكن اخري ، ثم دخولك الاتحاد الاشتراكي (الفرد) وأدائك القسم لحزب يتنكر للديمقراطية و التعددية التي كنت أنت تمثلها حتي انقلاب مايو 1969، كيف يمكن لرئيس وزراء يؤمن بالديمقراطية أن يدخل حزباً هدفه الاول وأد الديمقراطية؟!
الخطأ الثالث:
في انتفاضة أبريل 1985 فقد تبنيت كل شعارات الانتفاضة وتم انتخابك بتفويض كبير لم يسبق لرئيس سوداني أن فاز به ..ولكنك تنكرت للثلاثة وعود التي كانت تهم كل سوداني ..إحلال السلام في محل الحرب ، إزالة قوانين سبتمبر (المهووسة) وحل قضية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية . ورغم ان نجاحك الانتخابي كان مبنياً علي تبني تلك الشعارات ، إلا أنك تراجعت عنها جميعاً مما أفقد الديمقراطية محتواها .. وأتاح المجال لصديقك اللدود الترابي ليأتي لإنقاذ السودان (من ينقذ السودان ممن ؟!).
الخطأ الرابع:
تجاهلت التحذيرات المتكررة من أجهزة امنك حول أكبر انقلاب عسكري مكشوف حتي إتهمك البعض بانك مهدت للجبهة الإسلامية أن تنقض علي النظام الديمقراطي.. بكل مشاكله وبكل قصوره.. بل كان الكثيرون يندهشون لا صرارك علي دخول الجبهة الإسلامية (التي لا تؤمن بالديمقراطية) في الحكومة ضد معارضة بقية الشعب السوداني بكل قطاعاته المختلفة .. ويقال انك بذلك (كرهت) الناس في الديمقراطية حتي لم يعد من يأبه إن أخذها الشيطان فلم تكن تعني شيئاً للإنسان السوداني ..لعدم حلها لأي من المشكلات المستعصية سالفة الذكر.
الخطأ الخامس:
وهو حديث هذه الايام عن مصالحتك لنظام الجبهة الاسلامية منفرداً ، وكأنك تحاول سد الطريق علي زملائك في التجمع الديمقراطي السوداني المعارض (أو المتعارض). وكأنك مهدت للجبهة أن تستلم الحكم و بعد عشرة سنوات من فسادها المطبق تحاول أنت أن (تنقذها) أو تستلم منها كما يحدث في سباق المبادلة (أو سلم تسلم !)!!
والسؤال الذي يتبادر من كل ذلك هو: أذا كنا نعتقد حقاً أو (افتراءً) عليك أنك قد فشلت علي مدي أكثر من ثلاثين عاماً في قلب السياسة السودانية في أن تحقق استقرار أو تقدم الديمقراطية شبراً ، ما الذي يدفع الشعب السوداني في أن يعطيك ثقة مجدداً وقد لدغوا من نفس الجحر مرات ومرات ..؟!
إن محنة السودان هي أكبر من أن يحلها شخص أو حزب مهما بلغ نفوذه ، ولعل محاولة الانفراد بالسلطة (ديمقراطياً) او بانقلاب عسكري لن تقدم الديمقراطية شبراً وتحل مشاكل السودان المستعصية .. وليس هناك من حل الا بالديمقراطية وليس بالمناورة السياسية التي يجيدها القادة السودانيون أكثر من غيرهم ..إن الدخول في تحالفات مع اعداء الديمقراطية لا يمكن أن يحل مشكلة السودان التي أساسها انعدام الديمقراطية ووراثة السلطة و الحكم.!!
***
أما عن الديمقراطية ، كما نعلم ، فقضيتنا معها تطول. فنحن كانت لنا منذ الاستقلال تعددية حزبية ولم تكن لنا ديمقراطية .. ولأن أحزابنا إما طائفية أو عقائدية ، أو الاثنين معاً لكنها لم تكن ديمقراطية يتساوى فيها الرأي و الرأي ألآخر و كانت احزاب محسومة الزعامة.. أحزاب وراثية .. كيف تكون ديمقراطية ، كيف نحلم بديمقراطية وليس لدينا أداواتها الصحيحة ، هل يمكن لحزب غير ديمقراطي أن يحقق ديمقراطية في الوطن؟!.. هل يمكن أن نبني بيتاً من الطوب دون طوب؟! ..ولعل دول كثيرة سبقتنا في المجال الديمقراطي ، توصلت الي أن الأحزاب الدينية والعقائدية أو الوراثية لا يمكن أن تكون ديمقراطية ومن ثم حرمت من الممارسة.. و من ولوج العمل السياسي..
ولعل الذي يربك المشاهد المهتم هو: لماذا يريد الصادق المهدي أن يصير زعيماً لحزب الأمة و الانصار معاً .. كيف يمكن أن يكون زعيماً زمنياً ولا زمنياً في نفس الوقت؟!.. وكيف يمكن أن يكون زعيماً يمكن محاسبته ، وتستحيل بل لا تجوز محاسبته في ذات الوقت ؟!.. هل يريد أن يجمع المجد من أطرافه ، أم أن هذا هو أصل المسألة وسبب الفشل في حياتنا السياسية (غياب المحاسبة) ! وانا أعتقد جازماً أن الإصلاح السياسي غير ممكن ، والممارسة الديمقراطية مستحيلة طالما أن أكبر حزبين يقومان علي وراثة السلطة والجاه ولا يؤمنان بالمساءلة والمحاسبة ، لأن الديمقراطية فوق كل شيء تحتاج للشفافية وتحديد المسؤولية وحكم القانون وإلا فنحن (ننفخ في قربة مقدوده) كما يقول المثل السوداني..
وبينما يحاول التجمع الوطني إسقاط هذا النظام البغيض – نظام الجبهة – ليس لديه البديل الذي يمكن المراهنة عليه لإخراج السودان من دوامته المؤلمة، الدامية. إن تغيير الوجوه لا يحل مشكلة السودان كما جربنا من قبل.. طالما بقيت السياسات.
***
التغيير يجب أن يبدأ بالنفس ، والجهاد الاكبر هو جهاد النفس وليس إعلان حرب علي الآخرين كما يفعل حكام الجبهة الاسلامية. أما آن لحال السودان أن يتغير بالفعل وليس بالشعار فيجب البدء بتغيير الاحزاب الطائفية لتصبح ديمقراطية ونستطيع بالعمل وليس بالشعار أن نمهد لنظام ديمقراطي حقيقي.. إن خداع النفس و الفصل بين الغاية والأداة او الوسيلة لن يحل مشكلة السودان الآن أو مستقبلاً..
واتمني كبداية أن تعترف أنت ببعض ما نظنه قصوراً في الممارسة ، أو توضح للمواطن السوداني ما الذي حدث في عهدك (الديمقراطي) مما أدي الي التفريط والي ضياع الديمقراطية. إن من أقل واجباتك تجاه المواطن الذي عذبته الجبهة الاسلامية هو الاعتراف بأنه فعلاً ذاق الامرين، وأن النظام القادم سيكون –حقيقية- ديمقراطياً ومؤسساً علي حكم القانون والمساواة وليس فقط وعداً علي الورق. لقد تم تهميشنا جميعاً ولفترات طويلة.. ومازالت مستمرة. فليس للتجمع أداة أو آلية
لا شراك الجماهير في قراراتها، او استطلاع الرأي.. وإذا كانت المعارضة تتجاهل الشعب السوداني ، فما الفرق بينها وبين النظام الذي تود إزالته؟!
***
ان كثيراً من الشعب السوداني يعتبرك مسؤولا بشكل مباشر أو غير مباشر عن معظم ما حاق بالديمقراطية من مصير. ويتساءلون، ولعلهم علي حق حيث منحوك ثقتهم مراراً، لكن كانت النتيجة دائماً خذلانهم أو التنصل عن الوعود التي عليها عاهدتهم. يتساءلون عما يمكنك إنجازه الآن وقد فشلت مرات وعلي مدي أجيال من أن تحقق ما تمناه الشعب السوداني عليك و ما وعدته به .. خاصة بعد الانتفاضة (1985)؟!.. لقد عاني المواطن من الوعود المخذولة، وعاني علي يد الجبهة الإسلامية ما لم يعانيه حتي في زمن الاستعمار من التهميش، والتعذيب و الإساءة المستمرة. وبقدر ما يكره الشعب السوداني الجبهة وحكامها ، فهو أيضاً يكره السبب الذي مهد لها للوصول للحكم.. وكثيرون يتهمونك بالتمهيد لإنقاذها بالتقاضي عن تحركاتها، وأنك تعمل الآن علي (مخارجتها) بعد أن فشلت في مشروعها الحضاري (أو ربما نجحت فيه!).. لهذا أعتقد أن الشعب السوداني يحتاج لرد اعتبار إما اعتذارا أو توضيحاً لسبب فجيعتة و معاناته، مع شرح كاف لما يحملك علي الاعتقاد بأنك ستنقذ الوطن وتنجح الآن حيث فشلت سابقاً.. أعتقد أنك تعاني من أزمة مصداقية- ولست أنت السياسي الوحيد ولكنك الأكثر وزناً بين الساسة السودانيين وتحتاج لاستعادة مصداقية.. وقد تستطيع استعادة بعض مصداقيتك إن استطعت أن توضح لنا الحقائق الغائبة عنا، وأنت الأدري بالأمور، لكيلا نظلمك أو تظلمنا.. ولأنك في هذا لست ملك لحزبك ولكن للوطن كله.. وللشعب السوداني دين عليك.. والدين أمانة..
وفي الختام ..
أتمني أن لا أكون قد تجاوزت حدود المعقول و المقبول.. وإن فعلت فعذري حب الوطن، وقناعتي أننا جميعاً مسؤولون، وانك لا تضمر سوي الخير ولكن لديك أزمة في الاداء و التنفيذ.. وهي أزمة إن لم نشخصها و نحدد المسؤولية عنها فسنظل نحرث في البحر.. وستظل الديمقراطية حلماً.. يتباعد.. وفي ترقب ردك ، لك التحية والاحترام وكل عام وأنت بخير.
د. ادم بقادي
طبيب سوداني
المملكة المتحدة
*** ننوه الى ان هذا الخطاب في تسعينيات القرن الماضي نعيد نشره اليوم ..وما اشبه الليلة بالبارحة