محجوب حسين
بتداخل عوامل دولية وتفاعلات وطنية داخلية قررت قوى سياسية وعسكرية من التحالف التنسيقي لقوى المعارضة المسمى بـ « نداء السودان»، التوقيع اليوم الإثنين على خارطة الطريق التي قدمتها الوساطة الأفريقية المفوضة دوليا ببحث الصراع السوداني، برئاسة الرئيس ثابو مبيكي، حيث وقع على الوثيقة في وقت سابق من مارس/آذار الماضي الطرف الحكومي، فيما رفضت قوى المعارضة تحت مسوغات قدمتها وقتئذ وأضافت إليها رزنامة مطالب قصد تضمينها حتى تشكل لها «قناعة سياسية» تسمح لها بالتوقيع للخروج من الأزمة الوطنية، عرفت بالملحق الذي لم يلق استجابة كافية من طرف الوسيط الأفريقي وسط رفض قاطع للحكومة السودانية التي قالت إنها ملتزمة فقط بما وقعت عليه.
ذات العوامل الوطنية والدولية تفاعلت مرة أخرى لتحول نقاط المحلق، محل الخلاف إلى «تفاهمات وضمانات»، سمتها قوى نداء السودان الموقعة في رسائل قادتها « التوضيحية»، مستجدات تدفعهم إلى التوقيع اليوم، وهي في الغالب، عوض تضمين مقترحات المعارضة رسميا في الخارطة لتحسين الشكل المنهجي والموضوعي فيها، أن تتحول إلى» أجندة تفاوضية «دون تضمينها في الوثيقة، لتبحث مباشرة مع لجنة حزبية، تتبع وتأتمر بأمر الحكم في الخرطوم،عرفت بلجنة» 7+7». وفي حالة التوافق مع قوى المعارضة الموقعة هناك ضمانات حكومية ودولية بتفيذها من الطرف الحكومي، وفق إشارات القوى الدولية العاملة في هذا الصراع. ويبدو أنها توصلت إلي مكتوب حكومي يؤكد ذلك، فيما المعادلة المقابلة، هي اللجنة الحزبية نفسها، هل تمضي بالموافقة على تلك الشروط أم لا ؟ وتعصف في حالة رفضها بمجهودات لعب فيها مبعوث أوباما في الصراع السوداني دورا كبيرا لتجاوز حالة التحنيط التي يشهدها الصراع السوداني. والمؤكد أن الأمر لم يكن مجانيا، بقدر ما أن هناك ضرورات ومصالح إستراتيجية فرضت نفسها، وهي قضايا في الغالب تنحو باتجاه ترقية نظام الحكم القائم بإصلاحات مرنة تمكن الدولة السودانية من الاستمرار وتجاوز حالة الانهيار، بقصد القيام بالدور المنوط بها إزاء قضايا الهجرة الدولية الو أوروبا وقضايا الإرهاب وجماعات الإسلام التي يسترزق منها أو فيها نظام الخرطوم منذ سنوات. لقد وصف من قبل إحدى قوى الإسلام السياسي العربي حكم الخرطوم بـ « العميل الإسلامي الذي لا يعرف له هوية غير المال والفساد. إنه قدر رئيس يزعم بإسلاميته ويشهر بفساده واستبداده»، وهو وصف ينطبق على الرئيس السوداني الذي ثقافته تحترم أمرين إثنين، أولهما القتل وثانيهما الفساد، حتى تكتب عنده وطنيا، المؤكد في هذا الاتجاه، أن تجربة حكم البشير تجربة تتعظ منها الإنسانية، ناهيك عن الحركات الإسلاموية التي يحث عرابها السابق دكتور حسن الترابي في سلسلة حلقات قدمتها «الجزيرة» في برنامج « شاهد على العصر» على الابتعاد عن هذه التجربة، وهو الذي لفظته مؤسسة العنصر الإسلاموية في الخرطوم مبكرا بعدما وصلت إلى السلطة. وفيما يفيد القول نفسه، كما يقول كاتب إسلامي ناقد للتجربة السودانية، إن «الحركة الإسلامية السودانية غير مؤهلة أخلاقيا لحكم السودان».
وبالعودة مجددا لخارطة الطريق التي ترسم ملامح حركة الصراع السياسي السوداني فإن الغطاء السياسي لها، والذي هو المدخل الأهم، تلك النقاط المتمثلة في قضايا الحرب والسلام ووقف الحرب وفتح ممرات للإغاثة الدولية لمناطق الصراع في البلاد في اتفاق يعرف بوقف «العدائيات»، يرتبط بالقوى العسكرية المسلحة غير المدنية، ويمهد لمفاوضات سياسية لحل أزمات الجغرافيا الملتهبة مع الحركات المسلحة الممثلة لهذه الحواضن في كل من دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وفي مسارين منفصلين. وما تبقى من بنود في الخارطة عبارة عن مجمـــوع النظم والإجراءات المسطرية التي تؤسس لمباحثات تبحث الجذور البنيوية للأزمة الوطنية السودانية بشكل شامل وتجاوز الحالة اللوليبة التي عرفت بها الأزمة السودانية عبر إجراءات لبناء الثقة ممثلة في الحريات وإطلاق سراح أسرى الحرب والسياسيين وكفالة حكم القانون، عوض قانون الأمن والفساد،،،،إلخ.
هذا الموقف السياسي الجديد لقوى المعارضة المسلحة «حركة العدل والمساواة وتحرير السودان مناوي والحركة الشعبية « زائدا حزب الأمة بزعامة الإمام الصادق وقوى حزبية أخرى، تتقدمها تيار التحديث وهي قوى صاعدة كحزب المؤتمر السوداني وفاعليات مؤسسات المجتمع المدني السوداني، سيظل هو تقدير لموقف محل اختبار وتجريب سياسي وربما تحفظ حتى. ومرد ذلك هو انعدام الثقة القاطعة في التعامل مع حكم يكذب حتى نفسه، لا يلتزم بشيء وطني غير ما يمكنه من الاستمرار لجني المال والأرباح في دك لكل القيم الأخلاقية والإنسانية والسماوية على نحومريب، صعب حتى على نظريات علم الاجتماع والسيكولوجيا عن تفسيره، مما جعل الشعب السوداني يعيش في متاهة التفسير والفعل لثلاثة عقود إلا ثلاث سنوات.
في مقابل توافق المعارضة الجزئي هذا، تقاطعه قوى معارضة أخرى من داخل تحالف نداء السودان، وهي ترفض توقيع المعارضة للخارطة، وبذلك معارضة هي تعارض المعارضة وتعارض الحكم تحت مسوغات مختلفة. أهم هذه القوى تتمثل في قوى» الإجماع الوطني» التي ينضوي تحت لواءها عدد من الأحزاب، ورفضها قائم أيضا على تقديرات، سبق أن أشرت إليها في شكل فقدان الثقة القائم، فضلا عن أشياء إجرائية داخلية ترتبط بتحالف هذه القوى نفسها، مع إصرارها على إجراءات بناء الثقة التي تعتبرها شرطا ضروريا للدخول في أي مباحثات مع منظومة حكم عصبوي دموي، اتخذ الإجرام والفساد طريقا ومنهجا مع ربطه بالسماء، وهي علاقة تمكن الشعب السوداني من فك طلاسمها على الأرض، ويكفي في هذا ان تقول هذا “كوز” ليغمض الجميع عينه ويلتفت يمنة ويسرة ليهرب منك المجتمع بأكمله. فلا أدري بأي لافتة تتمكن هذه العصبة مستقبلا من إعادة تأهيل نفسها والدخول في منافسة انتخابية حرة، تحت قوانين ومراقبة دولية صارمة، رغم اجتهاداتهم في فن الاختباء والتستر وراء لافتات وشعارات. ولكن ماذا بعد التعرية والتصحر الذي وقع؟ إن حزبا واضحا باسم» الملحدين» كافيا لهزيمة بقايا أصحاب اللحى!! إن الكره بات نفسيا وذاتيا، حتى دون مبررات سياسية.
تلك القوى، التي وصفتها بمعارضة المعارضة والحكم، طرحت بدائلها وتتمحور في المضي في إسقاط النظام، وهو أمر مشروع عبر تقنية « الانتفاضة» ومن ثم تفكيك نظام الحكم، لإقامة نظام ديمقراطي يؤهل السودان والسودانيين من جديد. وفي تقديري ليس هناك خلاف جوهري بين القوى الموقعة اليوم وتلك التي رفضت، باعتبار أن اسقاط النظام هو مطلب المعارضة السودانية ككل، المسلحة والمدنية قبل ان تتقارب في نداءات باريس وبرلين التي جمعت أطيافها، رغم التعديلات التي صاحبت آليات الإسقاط. كانت المعارضة المسلحة ترفع إسقاط النظام عبر السلاح وهوالمبدأ الذي رفضته المعارضة المدنية ولا زالت، حيث في وجهة نظرنا سابقا، أن موقف المعارضة المدنية يتواءم مع الموقف الحكومي رغم اختلاف الأهداف، فيها بذل الإمام المهدي دورا كبيرا لهذا التقارب، إذ حذفت العبارة، وباتت آليات الإسقاط هي الحوار والانتفاضة والوسائل المشروعة الأخرى التي منها المحكمة الدولية كوسيلة من وسائل الضغط، وهي وسيلة مشروعة ودولية، و لكن للأسف حتى اللحظة لم تتفق المعارضة المدنية أوتتوافق حولها، باعتبارها أحد بنود الأجندة الوطنية. وبالتالي ما تمضي فيه المعارضة الموقعة اليوم هي اتخاذ آلية الحوار لإسقاط النظام، وهي ضمن الأدوات الموثقة في الأدبيات، تختلف فقط تقديرات المواقف بين الأطراف، تقديرات تحكمها عوامل كثيرة المجال قد لا يسمح في هذا المقال لتوضيحها. والمحك الذي يفك الشيفرة ويقطع كل التكنهات التي تفسرها كم وشكل الخطاب السياسي السائد خلال الأسبوعين بين قطبي المعارضة الموقعة وغير الموقعة،هوموقف المعارضة الموقعة تجاه كل القضايا المجمع حولها وفق أسس وأهداف نداء السودان، كمحدد موضوعي للتقييم والحكم، ومن ثم هي مساحة لردم الهوة الإجرائية في تقدير المواقف بين أطراف المعارضة، لأن وحدة وانسجام المعارضة هو استحقاق وطني في هذه المرحلة المؤلمة في التاريخ السوداني.
على ذكر هذا الاستحقاق، أيضا استحقاق « الانتفاضة» هو استحقاق قائم منذ حزيران/ يونيو1989، لم يكن بجديد، إلا أنه لم ينجز، كما لم يقع لأسباب وقراءات مختلفة، ولكن أهمها في إعتقادي، تواطؤ وقع بين القوى الديناميكية الفاعلة في التأسيس والقيادة تاريخيا وفي تموقعات جغرافية تعطيها الريادة والتأثير في قلب الأوضاع ومن ثم قيادة الجماهير. هذا مع الإقرار بأن ثمة متغيرات وقعت إن كانت على مسألة الوعي أو الأهداف، تجعلها مختلفة شكلا وموضوعا عن التجربتين الماضيتين في إسقاط نظامي عبود والنميري في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، والجديد الذي أغلق شعار الانتفاضة ونزاعها مع مفهوم «الثورة « هو الحراك السياسي والثقافي التاريخي الذي جرى وأنتج مجتمعات إبادة سودانية، لذا يكثر القول، التغيير لفائدة من! أو بمعنى الانتفاضة لفائدة أي جهة أوجبهة، الانتفاضة/ الثورة، باعتبارها فعلا ماديا لا يتحقق إلا بتوافر شروط. الذي يجري هو في العزف على الانتفاضة كآلية من آليات المعارضة، إلا أن السائد هو خطاب سياسي أكثر منه فعل مادي، ولا تكترث إليه الخرطوم الحاكمة في شيء.
إن مشروع خارطة الطريق الموقعة اليوم ينتظر منه أن يجيب على جملة أسئلة أهمها ردع البشير واستعادة الدولة ليمارس الشعب السوداني حقه في التقرير. الخارطة في مجملها آلية لإسقاط أو تفكيك نظام الوصايا القائم إلى نظام الشعب السوداني، ومن الاستبداد إلى حكم القانون، ومن الجريمة إلى العدالة، ومن الفساد إلى الشفافية، ومن قيم أخلاق الإسلام السياسي إلى قيم الأخلاق السودانية. هذا كله بعيدا عن حوار الوثبة أو قاعة الصداقة التي يتحكم في مخرجاتها سيد « قصر كافوري»، الذي هو ومن حوله لا يشبعون مطلقا، هذا رغم اعترافات الإمام الصادق المهدي أن هناك مخرجات وطنية يحث على إجازتها وتنفيذها
” القدس العربي”