ليس قبل آلاف السنين، وإنما قبل سنوات قلائل فقط، أجبرت بعض الأعراف القبليَّة المعترف بها في باكستان متهماً بالزنا على إثبات براءته بالمشي بسرعة متوسِّطة، حافي القدمين، ولأكثر من مترين، فوق .. الجَّمر!
أكاد أراك، أيُّها القارئ الكريم، ترفع حاجبيك، وتزمَّ شفتيك، استبشاعاً! والحقُّ، بالطبع، معك. على أنه يلزمك، كي يحسُن هذا “الاستبشاع”، أن تسهم، بفعاليَّة، في اتِّخاذ موقف إيجابي يقطع الطريق، بصرامة، أمام الارتداد المبهظ من عصر “الشِّرعة الدَّوليَّة لحقوق الإنسان”، عموماً، و”حقوق المتَّهم”، بوجه خاص، إلى تلك الأزمنة السَّحيقة التي كان “التَّعذيب” فيها يُعتبر عملاً “مشروعاً”!
وكنَّا، في مقالة سلفت، قد أوردنا بعض صور وأساليب التَّعذيب المتخلفة التي كانت تستخدم، قبل قرون، لإجبار المتَّهم على الاعتراف، ونسوق، اليوم، مزيداً منها. ففى المجتمعات البدائيَّة كان المتَّهم يُعرَّض للوحوش وغيرها من الأشياء الضَّارَّة، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه! وقد اعتُمِد ذلك النظام، لاحقاً، في القانون الانجليزى القديم، بمصطلح “قضاء الرَّب Judicium Del أوJudgment of God”! وكان يُطلق على المحاكمة التى تجري بموجبه مصطلح Ordeal، فى معنى “المِحْنَة!” أو “المحاكمة بالتَّعذيب” .. عديل كدا، وهو نوعان: أحدهما “تعذيب النار Fire Ordeal” بأن يُجبر المتَّهم على الامساك بحديدة مُحمَّاة لدرجة التوهُّج ، أو السَّير حافى القدمين، معصوب العينين، على قطع من الحديد المُحمَّى بذات الدَّرجة! أما الآخر فيتفرَّع بطريقتين: الأولى “إختبار الماء السَّاخن Hot Water Ordeal” بإغراق ذراع المتَّهم في ماء يغلي، فإن سَلِمَتْ ثبتت براءته! والأخرى “إختبار الماء الباردCold Water Ordeal” بإلقائه، مكتوفاً، فى نهر، فإن “هبط” إلى القاع كان ذلك “دليلاً كاملاً!” على إدانته (محمد محى الدين عوض؛ الإثبات بين الازدواج والوحدة، 1974م، ص 18). وفى صور أخرى لذلك النِّظام كان المتَّهم يُجبر على تعاطى السُّم، أو وضع لسانه على النار، فإن كان بريئاً فلن يؤثر فيه لا هذا ولا ذاك! (أحمد نشأت؛ رسالة الإثبات، ج 2، ص 22).
وكانت أشكال من ذلك النِّظام معروفة لدى عرب الجَّاهليَّة، حيث كان المشتبه فيه يُعَرَّض، مثلاً، بعد تحليفه، إلى طاسة حُمِّيت في النار حتى احمرَّت، ثم يُرغم على لعقها بلسانه، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء! وكان الرجل الذى يَعرض النار على المتهم الحالف يُسمَّى “المُهَوِّل”! وفى إحدى قصائده يصوِّر أوس بن حجر حماراً وحشيَّاً يشيح بوجهه عن الشَّمس بقوله:
“إذا استقبَلتهُ الشَّمسُ صَدَّ بوَجههِ كما صَدَّ عن نار المُهَوِّل حالفُ”!
وما يزال هذا النِّظام معروفاً وسط الكثير من المجتمعات الرَّعويَّة، كالبدو فى سيناء مثلاً (أحمد موسى سالم؛ قصص القرآن فى مواجهة أدب الرواية والمسرح، 1977م، ص 191).
وعند قدماء المصريِّين، أيضاً، كان التَّعذيب من الوسائل “المشروعة!” لحمل المشتبه فيهم على الاعتراف. ففى عهد الأسرة العشرين، خلال القرن 11 ق.م، كان الإله آمون يُستفتى فى المسائل الجَّنائيَّة، حيث يمثل المتَّهم أمام “تمثاله!”، ويسرد رئيس الكهنة الوقائع، ثم يسأله عمَّا إذا كان هذا المتهم بريئاً، فإن هزَّ “التِّمثال!” رأسه بالإيجاب أُخلي سبيل المتَّهم! أما إذا لم يفعل فإن المتَّهم، حالَ إصراره على الإنكار، يُعاد إلى السِّجن لتعذيبه حتَّى يعترف! وكان المتَّهم يُرغم ، قبل مثوله أمام تمثال الاله، على أداء قسم نصُّه: “لئن كذبت لأعودنَّ إلى السِّجن ولأُسلمنَّ إلى الحراس”! ومن ثمَّ فإن خياره الغالب كان الاعتراف تفادياً للتَّعذيب (سامي حسن نشأت؛ شرح قانون تحقيق الجَّنايات، 1981م، ص 19).
ومارس الاغريق القدماء، كذلك، نظام التَّعذيب، وقد أرسى أرسطو أساسه الفلسفي، معتبراً إياه “خير وسيلة!” للحصول على الاعتراف! كما مارسه الرُّومان، أيضاً، لا سيَّما في أواخر عصر الجُّمهوريَّة، حيث كان مقصوراً، أول أمره، على الأرقَّاء وأهل المستعمرات، ثم ما لبث أن طال المواطنين الرومانيِّين أنفسهم في جرائم الخيانة العظمى، مع مطالع الحقبة الامبراطوريَّة، قبل أن يُصار إلى تطبيقه في كلِّ الأحوال. والغالب أن نظام “الاستجواب مع التَّعذيب” هو، في جذره، نظام روماني. وقد امتدَّ الزَّمن الذي اعتُبر التَّعذيب، خلاله، وسيلة مشروعة حتَّى الثَّورة البرجوازيَّة العظمى في فرنسا عام 1789م.
وفى ملابسات المواجهة بين العلماء والإكليروس الكنسي، في التَّاريخ القروسطي الأوربِّي، استخدم التَّعذيب كوسيلة للحصول على الاعتراف، سواء فى النِّظام الاتِّهامي الذي ساد، لاحقاً، في البلدان التي نهلت من القانون الأنجلوسكسوني، أم في نظام التَّحقيق الفرنسي. ففي إنجلترا، مثلاً، كان الاعتراف يُنتزع، عادة، خلال القرون الأربعة عشر الأولى للميلاد، عن طريق التَّعذيب، ومع ذلك اعـتُبر مقـبولاً أمـام القضاء (Nokes; G.D.; An Introduction to Evidence, p. 293). وكان الأسلوب السَّائد إلقاء المتَّهم شبه عار في قبو تحت الأرض، ووضع ثقل من الحديد فوق جسده، وتقديم الخبز الفاسد والماء الآسن له حتى يعترف أو يقضى نحبه! (لواء محمود عبد الرَّحيم؛ التَّحقيق الجَّنائي العملي والفنِّي والتَّطبيقي، 1963م، ص 11).
ومنذ القرن 13 الميلادي انتشرت في أوربَّا، وبخاصة في إيطاليا، المحاكم سيِّئة الصِّيت التي دخلت التَّاريخ باسم “محاكم التَّفتيش”، بدعوى ملاحقة الكنيسة الكاثوليكيَّة للهراطقة، فشكلت إحدى أبشع صفحات الاستهداف للفكر السِّياسى المعارض للإقطاع آنذاك. وقد اتَّخذت تلك المحاكم شكل المؤسَّسات القضائيَّة المستقلة عن جهاز الدَّولة، وأُتبعت مباشرة للبابا وممثليه، وبلغت أوج نشاطها خلال القرنين 15 و16، وأشاعت الرُّعب، بإجراءاتها السِّريَّة، على أوسع نطاق (التَّاريخ الشَّامل للعالم “بالرُّوسيَّة”، المجلد 3، موسكو 1958، ص 398). وفي ما بعد صارت دلالة مصطلح “محاكم التَّفتيش” تنسحب على كلِّ تحقيق تعسُّـفي، أو محاكمـة لا تحفل بحقوق المتَّهم الأساسيَّة.
وإذن، فتاريخ المجتمعات البشريَّة، من أقدمها وحتى القرون الوسطى، مرزوءٌ بسيرة “التَّعذيب المشروع!”، حتَّى في أوربَّا التى ملكت العالم، وفرضت مركزويَّتها عليه، بزعم ريادتها الحضاريَّة والثَّقافيَّة! وللدِّقَّة فقد اعتُبر التَّعذيب من النُّظم الإجرائيَّة العاديَّة في التَّشريعات الأوربيَّة، طوال الحقبة من القرن 12 وحتى الثَّورة الفرنسيَّة أواخر القرن 18. فكلما عجز الاتِّهام عن جمع أدلة حاسمة، أو، بالأحرى، كلما لم يستطع المحقِّق “أن يحصُل من المتَّهم على شئ!”، حسب تعبير “الأمر الملكي الفرنسي لسنة 1539م”، وقع التَّعذيب ضربة لازب، كوضع “مقبول!” تماماً لدى الذِّهن العام، في تلك الدَّرجة من تطوُّر الفكر والوعي الاجتماعيَّين. وقد قضى “الأمر الملكي الفرنسي لسنة 1670م” باستجواب المتَّهم ثلاث مرَّات: قبل التَّعذيب، وأثناءه، وبعده. وأطلق على الأخير “إستجواب المرتبة”، نسبة إلى المرتبة التى كان المتَّهم يُطرحُ عليها بعد عمليَّة التَّعذيب! وأطلق على المراحل الثلاث معاً “الاستجواب التَّحضيري”، لتمييزها عن استجواب تعذيبي آخر اصطلِح عليه بـ “الاستجواب النِّهائي”، وهو الذي يخضع له المحكوم بالإعدام ليدلي ببيانات عن شركائه (سامي صادق الملا؛ إعتراف المتَّهم، دراسة مقارنة، 1969م، ص 8 ـ وانظر أيضاً:Encyclopedia Britannica, v. 22, London 1965, p. 314).
ما يزال التَّعذيب، للأسف، وحتَّى الآن، “مزروعاً في معظم الثَّقافات البشريَّة التي لم تُجر، بعد، إعادة نظر في مكوِّناتها بشكل يستهدف أنسنتها” (هيثم منَّاع؛ الضَّحيَّة والجَّلاد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، 1995م، ص 36)، حيث ما يزال يمارس في أكثر من مئة بلد حول العالم، رغم حزمة الصُّكوك الدَّوليَّة التي تحظره، ابتداءً من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م”، مروراً بـ “العهد الدَّولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة 1966م”، والذي دخل حيز النَّفاذ في 1976م، وليس انتهاءً بـ “الاتِّفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب” التي دخلت حيز النَّفاذ في 26 يونيو 1987م، وهو التَّاريخ الذي اعتمدته الجَّمعيَّة العامَّة، في ديسمبر 1997م، يوماً عالميَّاً لمناهضة التَّعذيب. وتقع هذه الممارسة البغيضة، بالذَّات، حين لا يلمس المحقِّق رادعاً من رقابة دستوريَّة تكفُّ يده الغليظة، ونفسه المعتمة، عن العبث بحياة وكرامة الآدميِّين، ولا يتوقَّع مساءلة قضائيَّة، أو حتَّى إداريَّة، تلزمه جادَّة المناهج الحديثة التي راكمتها قرون التَّطور المعرفي، والدُّستوري، والأخلاقي في حقل العلوم القانونيَّة، وسيَّجتها بالمعايير الدَّوليَّة لضمانات حقوق الإنسان، وشروط المحاكمة العادلة، فما ينفكُّ يعود، كلما سنحت له الفرصة، إلى مناهج التَّحقيق البدائيَّة المتخلفة!
ولكون “التَّعذيب لا دين ولا مذهب ولا مبدأ له، فإن كلَّ من يُلبسه ثوب عقيدة أو أيديولوجيا إنما يفعل ذلك لإشباع روح العدوانيَّة عنده، ولإلغاء مفهوم الكرامة عند من يخالفه الرَّأى أو المعتقد” (المصدر نفسه، ص 33). مع ذلك فثمَّة نَّزعة إنسانيَّة ما تنفكُّ تسود، شيئاً فشيئاً، نحو اعتبار “الأصل” في “الاعتراف” دليلاً مشوباً بالشُّبهات، والاتِّجاه، من ثمَّ، نحو توطين “استبشاعه” في ثقافة “حقوق الإنسان”، ومحوه، نهائيَّاً، من القانون والممارسة. هذه النَّزعة تبلورت عبر مسيرة طويلة ومعقَّدة قطعتها مختلف المجتمعات على مدارج استكمال أشراطها الإنسانيَّة، مدفوعة بواعز القيم المعتقديَّة، والثَّقافة المستندة إلى الفطرة السَّليمة، وكأثر من مشاعر الحرج التَّشريعي جرَّاء كلِّ ذلك التَّاريخ المُثقل بالأوزار.
ويجدر ببلادنا ألا تبقى خارج مضمار هذا السِّباق التَّشريعي، والسِّياسي، والأخلاقي، فلا بُدَّ لها من الإسراع بالانضمام إلى الصُّكوك الدَّوليَّة التي تحظر هذه الممارسة المتخلفة، وعلى رأسها “الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمناهضة التَّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيَّة أو المهينة لسنة 1984م”، والتي دخلت حيِّز النَّفاذ منذ السادس والعشرين من يونيو 1987م. ولأن واجب الدَّفع بهذا الاتِّجاه يقع، بثقل أساسي، على عاتق نشطاء حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، في هذا المجال، فليتهُم يطلقون حملة مدنيَّة مرموقة لتحقيق هذا الهدف السَّامي قبل حلول اليوم العالمي لمناهضة التعذيب في 26 يونيو القادم، وحبَّذا لو أهدوا هذه الحملة النَّبيلة إلى روح أيقونة حقوق الإنسان الرَّاحل .. أمين مكي مدني.