ناصف بشير الأمين
غرض هذا المقال هو مناقشة وثيقة “نحو عقد اجتماعي، اقتصادي وثقافي جديد” التي أعدتها مجموعة الخبراء الاستشارية Expert Advisory Group (EAG) وصدرت في أغسطس 2018. تم إعداد الوثيقة بتكليف من الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، لتكون بمثابة وثيقة مرجعية للشعب السوداني و للمجتمع الدولي في إطار الجهود الرامية لتحقيق التحول الديمقراطي وإعادة رتق نسيج المجتمع وبناء الدولة في السودان على أسس جديدة. وتعتبر هذه الخطوة تجربة جريئة و محاولة لتبني وتطوير تقاليد جديدة في الممارسة الحزبية السودانية، حيث اختارت الحركة الشعبية أن تعهد لمجموعة من الخبراء المستقلين والمهنين والأكاديميين – من غير أعضاء الحركة – بمهمة إعداد برنامج للسياسات البديلة المستقبلية. تم تكوين مجموعة الخبراء الاستشارية في العام 2012 وظلت تعمل في إعداد هذا البرنامج على مدار أربع سنوات. وقد التأمت مجموعة متميزة وواسعة من الخبراء والأكاديميين السودانيين في مجالات القانون الدستوري، حقوق الإنسان والحقوق المدنية، الحكم، السياسة الخارجية، الأمن، التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافة والهوية. واستندت الوثيقة موضوع هذا المقال على عدد من الأوراق المرجعية التي أعدها هولاء الخبراء وغطت كافة المجالات المذكورة. ووفر هذا الحشد تنوع وتعدد الخبرات والخلفيات العلمية والفكرية المطلوبة للتعامل مع الجوانب المتنوعة والمتعددة لمثل هذا المشروع وكذلك تعدد الأصوات الذي يعكس واقع التنوع الذي تذخر به بلادنا. تقدم الوثيقة في جزئها الخاص بالسياسات البديلة المستقبلية نموذجاً متقدماً للتفكير والتخطيط الاستراتيجي والذي يُعرف بأنه جهد جماعي منضبط يرمي إلى رسم رؤية للمستقبل ولكن استناداً الى تحليل دقيق ومنطقي، بما يجعل من التخطيط الاستراتيجي طريقة للتفكير والدراسة والتخطيط بطريقة فعالة ودليلاً مرناً وعملياً لاتخاذ القرارات وتخصيص الموارد بغرض تحقق الأهداف على نحو أفضل (برايسون 2011). ويقدم التخطيط الاستراتيجي نهجاً لمواجهة التحديات الخطيرة وتعظيم الاستفادة من الفرص المحدودة المتاحة في ظل التعقيد وانعدام الاستقرار والمتغيرات العديدة في البيئتين الداخلية والخارجية. وعادة، ما تقوم عملية التخطيط الاستراتيجي على رؤية شاملة من خلال النظر إلى السياق الأوسع، إلا أنها تقود أيضاً إلى القيام بأعمال محددة، كما هو الحال في هذه الوثيقة.
هدفت الوثيقة إلى مخاطبة جذور الأزمات والقضايا الرئيسية التي تسببت في فشل الدولة السودانية الحديثة و فشل مهام البناء الوطني، وتقديم خارطة طريق لتصحيح مسار الدولة السودانية بعد استعادة الديمقراطية. ومن هنا تنبع الأهمية الكبيرة لهذه الوثيقة بالنظر للقضايا الهامة التي تناولتها و تعدد وتنوع الخبرات المتميزة التي توفرت لها والمدة الزمنية المناسبة الذي استغرقتها عملية إعداها. تطرح الوثيقة للنقاش أسس عقد اجتماعي اقتصادي وثقافي جديد للبناء الوطني وبناء الدولة المدنية الديمقراطية يكفل حقوق المواطنة المتساوية دون تمييز و التنمية والعدالة و الديمقراطية، وخارطة طريق للسياسات المستقبلية البديلة لوضع البلاد في مسار مغاير يوقف الانهيار الاقتصادي وسياسات التهميش والفساد و يعمل على تحقيق التنمية والعدالة والحكم الرشيد وسيادة حكم القانون. ويقدم هذا المقال في الجزء الأول منه طرحاً نظرياً حول قضايا البناء الوطني وبناء الدولة وكذلك جوانبها العملية التي تناولتها الوثيقة يشمل المضامين القانونية والاقتصادية والثقافية لمفهوم المواطنة، إدارة التنوع الثقافي والإثني وبناء هوية وطنية مشتركة. ويتناول الجزء الثاني منه السياسات البديلة التي طرحتها الوثيقة.
انطلقت الوثيقة من تقديم وصف تحليلي للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة في البلاد. حسب ما جاء في الوثيقة، يعتبر السودان حالياً دولة فقيرة وفاشلة ينخرها فساد مؤسسي و منهجي و يتحكم فيها حزب سياسي يتبنى رؤية إقصائية ضيقة للهوية الوطنية أدت الى عقود من النزاعات الداخلية، واوصلت البلاد إلى مرحلة الدولة الفاشلة التي تتميز بسمات انعدام المؤسسات ذات المصداقية، المديونية الهائلة، انعدام الأمن على نطاق واسع، النزوح الداخلي و الفقر. والدولة الفاشلة هي تلك التي تفشل في القيام بأبسط واجبات الدولة ذات السيادة إلى الحد الذي يؤدي إلى إضعاف شرعية الدولة. يشمل ذلك، من بين أشياء أخرى، الفشل في توفير الأمن، بناء نظام قانوني ذي مصداقية، بنية تحتية قادرة على آداء وظيفتها بشكل فاعل، مؤسسات و تدابير الرعاية الاجتماعية، وتوفير فرص للمشاركة السياسية. يضاف إلى ذلك الفساد المتفشي على نطاق واسع و منهجي، و الذي يشكل سمة رئيسية تميز بها النظام الحالي، في إطار استراتيجية الإقصاء و التهميش و الإفقار المعروفة بساسية “التمكين الإسلامي”، و الذي يعني التمكين الاقتصادي للإسلامين والمحيطين بدائرتهم على حساب جموع السودانين. مع ذلك يجب التشديد من البداية على أن جذور هذا الفشل لاتتوقف عند النظام الإسلاموي الحالي وتمتد الى بداية تكوين دولة ما بعد الاستعمار. إن الفشل المتواصل للحكومات في مرحلة ما بعد الاستعمار في إنجاز مهام البناء الوطني وبناء الدولة يرجع إلى عدة أسباب أهمها: فشل النخبة السياسية في تطوير مشروعٍ للبناء الوطني قائم على المشتركات التي تجمع السودانين والتي يمكن الانطلاق منها لبناء هوية سودانية مشتركة والفشل في إدارة التنوع الثقافي والإثني والديني، وكذلك الفشل في الوصول إلى صيغة متفق عليها حول طبيعة الدولة و نظام الحكم. مقدمات الفشل المتراكم منذ الاستقلال وقصر نظر النخبة السياسية و عقليتها التميزية المتحيزة هي التي قادت، مع وصول الإسلاميين الى الحكم و فرض برامج الأسلمة القسرية والإقصاء الثقافي والتمييز الديني و الجهاد ضد المواطنين و التمكين السياسي و الاقتصادي للنخبة الحاكمة والتهميش المنهجي للسواد الأعظم من السودانين، إلى نتائجها المنطقية: تقسيم البلاد و ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد شعوب الهامش و تعميق حدة الانقسامات المجتمعية على أسس إثنية وجهوية و ثقافية والانهيار الاقتصادي والإفقار الشاملين.
تتوجب الإشارة هنا إلى أن الدولة السودانية تعتبر فاشلة وفقاً للمعايير الدولية ومؤشرات الدول الفاشلة أو الهشة، وكذلك من وجهة نظر الغالبية المهمشة من السودانين الذين فشلت هذه الدولة في أن توفر لهم الحد الأدني من واجبات الدولة ذات السيادة: الأمن والتنمية والخدمات الأساسية وقنوات المشاركة السياسية والشعور بالانتماء لهوية وطنية مشتركة دون تمييز ..الخ. ولكنها تعتبر في ذات الوقت دولة ناجحة وليست فاشلة من وجهة نظر نخبة المركز المتمكنة، حيث تعمل هذه الدولة بكفاءة وفعالية على اداء وظيفتها في قمع وتهميش الغالبية من السودانين بطريقة منهجية ومؤسسية وبالمقابل تمكين الأقلية المهيمنة والمسيطرة وحماية امتيازاتها السياسية والاقتصادية.
الفشل في إدارة التنوع
يُعتبر السودان من أكثر البلدان تنوعاً ويتميز بواقع التنوع الإثني والثقافي واللغوي والديني التاريخي المعاصر. و لا يشكل هذا التنوع معضلة فى حد ذاته، وإنما تكمن المشكلة في الفشل المستمر في إدارة هذا التنوع: تبني النخب السياسية المتعاقبة في حكم المركز لسياسة منهجية تهدف إلى تحجيم وإنكار ذلك التنوع و الإصرار على فرض هوية وطنية أحادية مزيفة و تهميش بقية المكونات الثقافية. لقد تم تبني افتراض خاطيء مفاده وجود ثقافة ولغة جامعتين قبل الاستقلال (اللغة والثقافة العربيتن): بما يعني وجود أمة ذات مكونات موحدة ومنسجمة سابقة لوجود الدولة الحديثة الموروثة عن الاستعمار. هذا محض افتراض وانحياز آيديولوجي لجيل الاستقلال من أبناء الشمال النيلي، ولم يكن تعبيراً محايداً عن الواقع الثقافي والإثني في السودان. وهذه السياسة هي المسؤولة عن فشل مهمة البناء الوطني. حسب أمير ادريس (2013م)، فإن الدولة هي التي تصنع الأمة وليس العكس. وعملية صناعة الأمم الناجحة (خاصة في المجتمعات التي تمتاز بالتنوع الثقافي والإثني كالمجتمع السوداني) تتم من خلال تطوير مشروع للبناء الوطني يعترف بالتنوع ويبني عليه ويعطي بالتالي لكل المجموعات الوطنية أسهماً وتمثيلاً متساوياً في الكيان الوطني، بالقدر الذي يخلق لدى جميع المواطنين إحساساً بالانتماء المشترك لهوية وطنية جامعة، وليس من خلال الانحياز الأعمى لمكون ثقافي او ديني او لغوي واحد ومحاولة فرضه بالقوة على بقية المكونات كما في النموذج السوداني الفاشل. النتيجة المباشرة للتمسك بهذا المشروع الأحادي الإقصائي للهوية الوطنية كانت فصل جنوب السودان ويهدد استمرار ذلك النهج بتقسيم ما تبقى من البلاد على أسس إثنية وإقليمية. وكما جاء في الوثيقة، فإن إنكار التنوع الثقافي واللغوي يعتبر أحد أهم مصادر النزاعات فى السياسة الحديثة.
حقوق المواطنة المتساوية ودورها في خلق هوية وطنية مشتركة
تناولت الوثيقة أهمية كفالة حقوق المواطنة المتساوية ودورها في عملية البناء الوطني في المستقبل، ولكنها لم تتعمق في شرح الأبعاد القانونية والاقتصادية والثقافية لعلاقة المواطنة المتساوية. ومفهوم المواطنة يعني العضوية الكاملة في المجتمع. فالمواطنة كما عرفها براين تيرنر Brian Turner، هي حزمة من الممارسات القانونية والاقتصادية والثقافية التي تعرف الفرد كعضو فاعل في المجتمع. وهذه الممارسات عند تيرنر، هي التي تحكم انسياب الموارد للأفراد والمجموعات الاجتماعية. ووفقا لمبدأ حقوق المواطنة المتساوية، تعتبر علاقة المواطنة ذات طبيعة عالمية او عامة Universal وشاملة بمعنى أن الفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشكل مضمونها يجب أن يكون الوصول إليها والتمتع بها متاحاً لجميع المواطنين دون تميييز Inclusive. ولتحقيق ذلك يجب أن تكون علاقة المواطنة قائمة في الأساس على الانتماء للتراب الوطني وعلى التعاقد الاجتماعي الطوعي على المباديء والقيم التأسيسية العليا للمجتمع، والتي تنطبق بطبيعتها على جميع المواطنين دون تمييز ولا تتبع الخطوط الإثنية او الدينية او الثقافية او اللغوية او الطبقية او الجهوية (المناطقية). وهي تعتبر لهذا السبب علاقة تعاقدية ذات طبيعة فردية بين المواطن كفرد والدولة وليست ذات طبيعة جماعية يتمتع بها الأفرد او يفقدونها بسبب انتمائهم او عدم انتمائهم لجماعة معينة إثنية او لغوية او دينية ..الخ. وبدون كفالة المضمون الاقتصادي والاجتماعي للمفهوم، تصبح المواطنة القانونية الشكلية (الليبرالية) كياناً صورياً مفرغاً من اي محتوى مواطنية حقيقية. نقول ذلك بالرغم من أن تجربة دولة ما بعد الاستقلال في السودان قد فشلت في كفالة حتى مجرد حقوق المواطنة السياسية والقانونية الشكلية دون تمييز.
وفقاً لأنصار المدرسة الاشتراكية الديمقراطية (دولة الرفاهية الاجتماعية)، فإن المساواة القانونية المجردة (المساواة أمام القانون) والحق في المشاركة السياسية للمواطنين (كفالة الحقوق السياسية والمدنية) غير كافيين لوحدهما لمواجهة مشكلة التهميش. فالناس لا يتم تهميشهم فقط من خلال الاستبعاد القانوني والسياسي وإنما – وهذا هو الأهم- من خلال مصادرة الفرص الاجتماعية (الفقر- العطالة – الأمية..الخ). الفكرة المفتاحية في نموذج الإصلاح الاشتراكي الديمقراطي هي عدالة توزيع الفرص Equality of opportunities: توفير الفرص المتساوية للأفراد للتنافس في المجتمع بناء على قدراتهم ومؤهلاتهم الشخصية ورغبتهم في العمل المنتج.
هناك أيضاً نقد مهم للمفهوم اللبرالي التقليدي للمواطنة القانونية-السياسية الشكلية طوره تيار ما يعرف بالتعددية الثقافية Multiculturalism. والمفهوم لا يحيل لواقع التنوع الثقافي في المجتمع وإنما للطريقة العادلة التي يجب اعتمادها لإدارة ذلك التنوع عن طريق منح فرص التطور والتقدم المتكافيء للمجموعات المهمشة. وفقاً لهذا المنظور، فإن ظاهرة التهميش لها جذور أعمق من تلك التي توقفت عندها المدرسة الاشتراكية الديمقراطية. فتهميش المجموعات المهمشة ليس فقط ظاهرة قانونية-سياسية-اقتصادية، وإنما هو أيضاً ظاهرة ثقافية. وهي تعمل من خلال الأنماط والقيم التي تشكل الطريقة التي من خلالها وبها يرى الناس أنفسهم ويتم النظر اليهم من قبل الآخرين. لذا يجب أيضاً إعطاء الفرصة للمجموعات المهمشة لتأكيد ذواتها من خلال إبراز هوياتها الثقافية، وذلك من خلال الاعتراف بالمجموعات الثقافية واحترام تنوعها ومنحها حقوقاً خاصة بما يمكنها من المحافظة على هويتها الخاصة وتنميتها. ففي المجتمعات التي تنفرد فيها مجموعات معينة بالامتيازات بينما تكون مجموعات أخرى مقموعة ومهمشة، فإن الإصرار على أن يتنازل الأشخاص – كمواطنين- عن هوياتهم الخاصة وأن يتبنوا توجهات وتصورات عامة سيخدم فقط تعزيز حالة التهميش. وذلك لأن مصالح وآيديولوجيات أصحاب الامتيازات تنزع دوماً في مثل هذه الوضعيات للهيمنة على هذا (العام) الموحد المفترض، وفي ذات الوقت تهميش او إسكات الأصوات والروايات الأخرى.
المواطنة يُنظر اليها أيضاً، وفقا لزاموديو (Zamudio (2004))، كعلاقة ثلاثية الأبعاد: وضعية قانونية و ممارسة عملية ووعي ذاتي. كوضعية قانونية تعني مجموعة من الحقوق والواجبات بين المواطن والدولة . أما الممارسة العملية فتشير إلى الشروط الضرورية الواجب توفرها من أجل تمكين الأفراد من ممارسة هذه الحقوق (التي قد يكون منصوص عليها نظرياً في الدستور) والتمتع بها عملياً على أرض الواقع. بناء على اكتمال البعدين الأول والثاني يتولد في وعي الفرد الإحساس بالبعد الثالث وهو الشعور بالهوية الوطنية المشتركة وبكونه مواطناً يرتبط عضوياً بوطن. بكلمات أخرى، اذا كانت الدولة ومؤسساتها لا تعامل أفراداً في المجتمع كمواطنين وإنما تعاملهم كرعية أو أتباع Subjects (تصادر المكونين الأول والثاني) فإن هولاء الأفراد لن تتوفر لديهم القابلية لأن يتطور لديهم شعور واعي بالمواطنة والانتماء. وهذا هو جوهر أزمة غياب مشروع ذي مصداقية للبناء الوطني في السودان يستهدف بناء هوية وطنية تستوعب وتعكس التنوع الثقافي والإثني الذي تذخر به البلاد، بالقدر الذي ينمي إحساساً مشتركاً لدى جميع المواطنين بالانتماء إلى هوية وطنية مشتركة تعبر عن جميع المكونات الثقافية. وكما جاء في الوثيقة، فإن فشل النخبة السياسية السودانية في خلق إجماع سياسي حول قضايا الهوية قد وقف حائلاً، إلى الآن، دون إنجاز مهمة بناء دولة تؤدي وظيفتها بوصفها “تمثل سلطة المجتمع ككل و تعبر عن إرادته الجمعية، دون اللجوء الى استخدام القوة الجبرية.”
إن المشاركة الفاعلة في أي مجتمع او كيان سياسي تتطلب أن يحوز الأفراد والمجموعات على قدم المساواة الحد الأدني من الشروط المتعلقة باللوجستيات وبالمعارف والمهارات السياسية. لذا فإن أولئك الذين يحوزون هذه الإمكانيات والمعارف والمهارات سيكونون أعضاء أكثر تأهيلاً وفعالية في المجتمع من غيرهم. وبفضل هذه الامتيازات والمزايا سيتمكنون دون غيرهم من الوصول إلى الموارد الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. بالمقابل فإن أولئك الذين ينقصهم الحد الأدني اللازم من اللوجستيات والمعارف والمهارات فسيتم تهميشهم. لذلك فإن أوضاع اللامساواة الاجتماعية والفقر الحادتين ينتجان على الدوام بنية سياسية استبعادية (إقصائية)، والتي تتمكن فيها فقط أقلية مسيطرة من تأمين مصالحها بطريقة مؤسسية وفاعلة ومن خلال القنوات الرسمية، بينما تتحول مجموعات كبيرة الى وضعية الأقليات المهمشة الإثنية او الثقافية او الطبقية (الفقراء) والعاطلين عن العمل او النساء (حتى لو كانت تشكل أغلبية عددية)، وسيجدون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية. وبسبب عدم الاعتراف بمطالبهم المشروعة بمنحهم حقوق المواطنة المتساوية وقفل قنوات المشاركة في خيرات المجتمع أمامهم لا يعود متاحاً أمام المهمشين ومواطنى الدرجة الثانية سوى خيار الثورة او التمرد لاستراداد حقوقهم، كما هو الحال في دولة سودان ما بعد الاستقلال، التي تبنت نموذج المواطنة الإقصائية الاستبعادية Exclusive citizenship والتي تتبع تلك الخطوط الإثنية والثقافية واللغوية والدينية والجهوية (المناطقية) والطبقية، بدلاً من المواطنة الشاملة. واستمر توظيف هذه المحددات الثقافية والإثنية والطبقية كآليات للتمييز ضد المجموعات والأفراد المستبعدين Excluded groups فيما يتعلق بممارسة حقوق المواطنة المتساوية في التمثيل السياسي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمساهمة الثقافية. هذه الآليات والحواجز التمييزية تعمل على إدخال البعض الى دائرة المستفيدين ذوي المصالح المعترف بها وتعطيهم الشعور الكامل بالانتماء وبالمقابل تعمل على استبعاد آخرين وترفض الاعتراف لهم بالحقوق والفرص المتساوية ومن ثم تشتغل عملياً على إنتاج درجتين من المواطنة: مواطنو الدرجة الأولى (أصحاب الامتيازات) ومواطنو الدرجة الثانية (المهمشين). هذه الوضعية هي التي عمقت من حالة الانقسام المجتمعي وشكلت وقوداً لتغذية النزاعات الحتمية بين أصحاب الامتيازات الذين مارسوا عنف الدولة المركزية للدفاع عن امتيازاتهم والمهمشين الذين يصارعون من أجل الحصول على حقوق المواطنة المتساوية (انظر مقال الكاتب المعنون: أزمة غياب المشروع الوطني السوداني: ستون عاماً من التيه، 2017).
الفشل في بناء الدولة الوطنية والمحافظة على ركائز دولة الاستعمار
تناولت الوثيقة أيضاً أزمة غياب مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ولكنها لم تتوقف طويلاً أمام أسباب محافظة النخب الحاكمة المتعاقبة على ركائز دولة المستعمِر. تلازم مع الفشل في تبني مشروع ذي مصداقية للبناء الوطني (بناء الأمة) الفشل في بناء و إعادة هيكلة الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار (بناء الدولة). ودولة المستعمر في كل زمان ومكان يتم تصميمها خصيصاً ليس للقيام بخدمة مصالح سكانها، وإنما لخدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للمستعمر الأجنبي، الذي كان يقبع في الحالة السودانية فيما وراء البحار، وهي مصالح تتعارض كلياً مع مصالح سكانها. هي دولة صممت للقيام بوظيفة استعمار واستغلال السكان وليس خدمتهم وحمايتهم وتحقيق رفاهيتهم؛ النهب الاستعماري للموارد و الاستغلال والقمع المنهجي الهادف لضمان استمرار الخضوع الدائم للاستعمار. وهي أيضاً دولة ترى في سكانها المهدد الأمني الرئيسي الذي يشكل الخطر الدائم على وجودها. لهذا السبب فإن علاقة دولة الاستعمار بسكانها هي علاقة مستعمِر بمستعمَر قائمة على الإرهاب والأوامر العسكرية وفرض الأمن والنظام العام لغرض تأمين خضوع هولاء السكان التام للاستعمار وسياساته الاستغلالية الاستعبادية وضمان استمراره. الدولة الوطنية – في مرحلة ما بعد الاستقلال – يفترض أن تخضع لعملية إعادة بناء وهيكلة جديدة لتؤدي وظيفة مغايرة ومختلفة كلياً؛ وهي تحرير وخدمة مواطنيها وتحقيق تنميتهم ورفاهيتهم وصون كرامتهم وأمنهم. وذلك باعتبار أنها دولة تمثل الإرادة الجماعية الحرة لهولاء المواطنين وتعبر عنها.
ولكن الذي حدث في سودان ما بعد الاستقلال ان النخب الشمالية التي تعاقبت على الحكم قد حافظت على ذات المؤسسات والسياسات لدولة الاستعمار البريطاني والتي استمرت دولة ذات طبيعة استغلالية بوليسية تعمل بشكل منهجي على استغلال وقمع واستعباد المواطنين وليس خدمتهم وكفالة حقوقهم الانسانية (دولة التهميش والأمن والنظام العام وليس دولة الحريات والتنمية والخدمات والرفاهية الاجتماعية). لذلك غاب المشروع التنموي وحدث تضخم مستمر في الإنفاق على أجهزة الأمن والجيوش والمليشيات وتضخم نصيبها من الدخل القومي الى حد جاوز كل المعايير الدولية. وبالمقابل حدث تدهور مستمر في خدمات الصحة والتعليم والغذاء والإسكان…الخ وتراجعت التوجهات التنموية وتضاءل الإنفاق عليها الى حدود غير معقولة مع مصادرة الحريات الأساسية، وصولاً إلى حكم الإسلاميين الذي استمر فيه الإنفاق على الأمن والدفاع يستأثر بأكثر من 70% من الموازنة العامة لطوال حوالي ثلاثة عقود، واضعين في الاعتبار حقيقة أن السودان لم يخض منذ استقلاله حرباً ضد أي عدو خارجي. التفسير الوحيد الممكن أنه تمت المحافظة على بنية وسياسات الدولة الاستعمارية دون تغيير يذكر لتخدم مصالح مجموعة أقلوية حلت محل المستعمرين في السيطرة على الحكومة المركزية، بذات الطريقة التي كانت تخدم بها مصالح المستعمر: طغيان الأولويات الأمنية على أولويات التنمية وعدالة التوزيع وكفالة الحريات. الشيء الوحيد الذي تمت تصفية في مشروع دولة الاستعمار هو المكون الإيجابي الأساسي فيها – والذي كان من المفترض أن تتم المحافظة عليه وتطويره – وهو مشروعها التحديثي. فقد تراجع التحديث الذي ارتبط بالمستعمر في قطاعات التعليم الحديث و الثقافة والمجتمع و القطاعات الإنتاجية الحديثة ..الخ وصولاً إلى مشروع دولة الإسلام السياسي الذي يريد العودة بالسودان إلى الماضي السحيق.
لقد توسعت الوثيقة في تحليل أسباب وتجليات أزمة غياب المشروع الوطني لدى النخبة الشمالية التي حلت محل المستعمِر في السيطرة على السلطة في المركز وفشلها، ولكنها لم تتوقف طويلاً أمام الأصل الاجتماعي لهذه النخب ومدى اتساع او ضيق قاعدتها السياسية و الاجتماعية وعلاقة ذلك بتمدد سنوات الانظمة الشمولية وتبني هذه الأنظمة لاستراتيجيات العنف السياسي وحروب الإبادة والقمع المنهجي التي سادت لمعظم سنوات ما بعد الاستقلال. في نظر كاتب هذه السطور، ظلت النخبة المسيطرة سياسياً والمهيمنة اقتصادياً تمثل على الدوام أقلية هامشية من ناحية عددية وتستند إلى قاعدة طفيلية محدودة بطبيعتها، وهذا هو سبب معاداتها للديمقراطية. فالحكم الديمقراطي مهما كانت عيوبه يعزز وينمي الإمكانات الديمقراطية الكامنة والمهولة للأغلبية المهمشة ويضعف فرص وصول هذه النخب الأقلوية للسلطة او استمرارها فيها مما يشكل تهديداً مباشراً لهيمنتها ومصالحها، لذلك تفضل هذه النخب على الدوام الوصول إلى السلطة والبقاء فيها عن طريق القوة المسلحة والعنف. ولهذا السبب استمرت سيطرة الأنظمة العسكرية الشمولية لمعظم سنوات ما بعد الاستقلال.
وكان لابد للديناميات التي أطلقتها مقدمات وجذور الفشل السياسي وغياب مشروع البناء الوطني وبناء الدولة أن تصل إلى نهاياتها المنطقية بوصول الإسلامويين للحكم. يمثل الإسلامويون أقصى تجليات فشل نخبة المركز بحكم فاشيتهم الدينية وعداءهم المتأصل للديمقراطية والتعددية الثقافية وبسبب برنامج التمكين الإقصائي بأبعادة الإثنية والجهوية الذي طبقوه بل فرضوه فرضاً بقوة السلاح. وخلعت الدولة في عهدهم القناع الوطني المزيف الذي كانت تتحجب به تقيةً، وأسفرت عن وجهها الاستعماري القديم والقبيح. تحت لافتات التمكين والجهاد المقدس، كادت الدولة أن تتحول بالكامل إلى جهاز بوليسي أمني كبير تقزمت في ظله معظم الأجهزة الخدمية والعدلية. وعادت وظيفة الدولة الرئيسية كما كانت أيام الاستعمار حفظ الأمن والنظام العام والتنكيل بالمعارضين وإرهاب المواطنين، وذلك بعد أن أخذ مفهوم النظام العام مضموناً آيديولوجياً فاشياً، مع التوسع في نهب وتبديد الموارد والثروات الوطنية على نطاق تواضع أمامه خيال المستعمرين. وكما جاء في الوثيقة، عندما تقوم السلطة على العنف، فإنها تستدعي افتراضاً متغطرساً مفاده أن الحكومةَ موجودة لتتسلط على مواطنيها بدلاً من أن تقوم بخدمتهم. فالهدف المعلن هو (تمكين) أقلية حزبية وجهوية لا تتجاوز المئات من الاستيلاء على السلطة والثروة وترك جموع الشعب يواجهون الفقر الحاد والمجاعة، مع فرض تصوراتهم الآيديولوجية المتطرفة وخياراتهم الثقافية على الجميع. وشُنت الحروب الجهادية على المهمشين من المواطنين الذين اعترضوا على أوضاع تهميشهم واستتباعهم حد ارتكاب الإبادة الجماعية ومختلف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. الحديث في مثل هذا السياق عن دولة مدنية ديمقراطية تخضع لحكم القانون والمؤسسات وتكفل حقوق المواطنة المتساوية والخدمات والتنمية والأمن يصبح غير ذي معنى و موضوع.