‘حواديت’ وثبة الرئيس السوداني لزيادة زيجاته السياسية

محجوب حسين
الرؤية البصرية لاخر علل ومعلولات الفضاء السياسي السوداني خلال الاسبوعين الماضيين، جسده سودانيا وبامتياز الرئيس السوداني، لسيما بعد خطابه في حفل تدشين ما عرف بالاصلاح الشامل الذي سماه ‘بالوثبة الوطنية’، على غرار ‘النفرات’ و’السعرات’ و’الترهات’ الصدئة غير القابلة للاستهلاك زمانيا ومكانيا، الامر في استيضاحه واستبيانه عبارة عن ‘حدوتة’ ألقت ظلالها على الشارع السياسي وجمهور الشعب السوداني الذي اصبح ينظر للامر بعيون مختلفة، فمنهم من استقبله بنوع من السخرية او الضحك، او الامتعاض، واخرون اكتفوا بالصدمة لتضاف الى كم ونوع ‘الحواديت’ والصدمات العديدة التي ينتجها مطبخ صنع القرار المخول بانعاش جسد الحكم القائم، الذي تآكلت عوامل بقائه، بل انتهت واكملت معه زمن الاحتياط والاضافي، ورغم عوامل التعرية التي جرفته وباتت تربته غير منتجة، هذه الاستدامة سببها ازمة الجنائية والملاذ الاخير لمجرميه، فحري بالشعب السوداني ان يستعد في تقبل اعلان رئاسي، بموجبه يعلن نفسه رئيسا مدى الحياة ويريح معه الشعب الذي عليه ان يبحث عن خيارات تناسب الاعلان المرتقب وعن مخرج لذلك التلاعب.
هذه الحدوتة التي كانت مثار اهتمام وحديث الشعب السوداني في المنازل والازقة والاندية والسيارات والمقاهي والحدائق العامة والمساجد واجهزة الاتصال التفاعلية والالكترونية والورقية، تتمثل في الخطاب الذي تلاه الرئيس لشعبه يوم الاثنين الماضي، بعدما سبقه تمهيد وتعبئة حملة دعائية على
شاكلة اعلانات المأكولات الشهية حتي يستسيغها الجميع ويتمكن من بلعها، لتنعت ‘بالمفأجاة’ التي يقدمها الرئيس، شاركت في هذه الحملة جهات اعلامية
سودانية مختلفة شملت حتى الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر، الذي تزامنت زيارته مع هذه الحدوتة الرئاسية ولقاؤه الرئيس البشير، الذي بشره بالمفأجاة الوطنية الكبرى ليقوم كارتر نفسه بتسويقها ايضا للشعب السوداني، فحبس الشعب السوداني انفاسه لايام صلى معها صلوات للشكر قياما وقعودا، واعلن حالة الطوارئ الذاتية استعدادا وانتظارا لمفأجاة سارة تحل العقدة وتفك معها العقدة الوطنية، التي طالما انتظرها طويلا منذ اول يوم لاستلامه السلطة، فكانت التوقعات والتخمينات والتحليلات والقراءات، التي جاءت جميعها في حدها الادنى تتمثل في حل الحكومة وتكوين حكومة وحدة وطنية قومية ذات
اختصاصات تناط بها قضايا المرحلة الوطنية الدقيقة، وفي حدها الاعلى تقديم اعتذاره للشعب السوداني، طالبا العفو جراء الاذى الذي سببه خلال فترة حكمه وتقديم استقالته بترتيب دولي واقليمي واسع يؤمن له فيها عدم ملاحقته على الاقل في الوقت الحاضر من الجنائية الدولية، حيث ما زال في حكم القانون الدولي فارا من العدالة، على ان يتولي نائبه الاول وصديقه من درجة ‘الخاص جدا’ كما اشرنا في مقالات سابقة مقاليد السلطة في البلاد، وتبدأ معه مرحلة اخرى من العزف المنفرد وبشروط المرحلة الجديدة في ربيع وادي النيل ولو في نسخته المصرية.
وسط زخم هذه التقاطعات اتى الرئيس السوداني مرتديا عمامته وابهة السيادة حوله وامام صفوة من المجتمع السياسي والفكري والضيوف، مع نقل مباشر للخطاب/ المفاجأة الى الشعب السوداني والعالم، ليبدأ في تلاوة خطابه الذي جاء ليس كعادة خطاباته التي درج عليها طوال ربع قرن قضاها في الحكم، وعرف خلالها نقلات سلبا وايجابا والتراكم فيها لم يولد شيئا، فقد كان على الدوام يمزج العامية مع الفصحى، حديثا مفهوما وشعبيا وفي بعض الاحيان في حالات ‘الزنكة’ يلجأ للعبارات القدحية. هذه المرة قرأ مكتوبا ليس سياسيا ولا صلة له بالادبيات المعروفة في فن الخطابة ومتن الخطاب السياسيين وادواتهما، بالنظر لما هو منتظر ومحل ترقب.
هكذا جاءت مفاجأة الرئيس للشعب السوداني في قراءته لمكتوب ادبي وصفي وظف كاتب خطاب السيادة المهم كل صنوف البلاغة من تورية وسجع وكنايات وتشبيهات تنتمي لحفريات اللغة العربية الكلاسكية التي تلقى في مجامع اللغة العربية الكبرى ومحل اهتمام الدارسين والمختصين والعلماء، فاذهل معه كل الحاضرين والمتابعين والمشاهدين واصبحوا لا يفرزون هل هم في حضرة سيبويه عصره او امام المتنبي في بلاغته، الجمهور المتلقي قد يكون فهم اكثر من قارئ المكتوب نفسه، الذي بدت عليه علامات التلكؤ والاضطراب والاخطاء الفادحة في النطق ومخارج الكلمات التي تصعب على الشخص العادي غير المحترف. خطاب باسلوب لا يمت الى القضايا الوطنية مثار الخلاف والجدل والتصارع في شيء، ليشكل سقطة رئاسية اراد من خلالها الوثوب فسقط ووقع في فضيحة نادرة واستثنائية ألقت تبعاتها على شخصه ورمز وسلطة السيادة والدولة والنظام والحزب الذي يرأسه او يمثله ويوضح معه بشكل جلي حجم الخلل الذي تعرفه سلطة العسكرتاريا السودانية التي يرأسها المشير البشير.
على الارجح هذه السقطة، كما اشارت اليها تسريبات سياسية كانت ضمن الحضور او مراقبة، ان الخطاب الكارثة ليس هو الخطاب المقصود والمعني، حيث ان الخطاب الاصلي الذي شكلت لاجله لجنة في دوائر المؤتمر الوطني تمت القرصنة عليه من مراكز قرار فاعلة اخرى في الدولة، هذه المراكز ترفض توجهات الرئيس ولقاءاته مع عدد من القيادات السياسية في البلد مؤخرا، وترى ان هذا التقارب من شأنه ان يقلل او يسحب من حجم نفوذها في هرم السلطة ومراكز القرار السياسي، فعمدت الى توظيف اجهزتها المرابطة والقابضة على عدد من ملفات الرئيس، قد تكون امنية او عسكرية، لسحب الخطاب الاصلي المتفق عليه وتعويضه بالخطاب الذي قدمه الرئيس والذي يبدو انه لم يتمرن حتى علي قراءته لاحراجه امام الملأ، ذات التسريبات تشير الى ضلوع الدائرة الامنية لمساعد الرئيس السابق في تدبير ‘المقلب’ الذي من المرتقب تعديله وتصوبيه بخطاب رئاسي اخر قد يتقدم به الرئيس في وقت لاحق، كما جاء في بعض المصادر، التي اشارت الى كاتب الخطاب نفسه.
اما الوجه الاخر من بروتوكول مشهد الخطاب ‘التاريخي’ فنعتقد انه بالغ الاهمية، بالنظر الى السياق الكلي للازمة السودانية ومجرياتها ومحطتها الراهنة، التي اراد الرئيس السوداني فيها الزيادة من تعدد زيجاته السياسية، الا ان مراسم عقد القران السياسي لم تكتمل بعد، بعدما تدخل الحرس القديم/الجديد في تغيير الخطاب المتوقع فيه اعلان قرارات مهمة واساسية دفعت الى حضور لافت في خطاب البشير، ولاول مرة بعد خصام طويل، مثل حضور الدكتور الترابي مالك الانقاذ في نسخته الاصلية، يتبعه الصادق المهدي
مهندس لعبة التوافق تحت الستار والعلن، والدكتور غازي صلاح احد اهم المنشقين عن البشير مؤخرا مكونا حزب’الاصلاح الان’ واخرين.
يبدو من خلال هذه المؤشرات ان هناك توافقات سياسية جرت وتم الاتفاق عليها بين بعض القيادات السياسية، لاسيما اولئك المشار اليهم لترقيع التصدعات العنيفة عبر مضادات حيوية حتى لا تتحول ان لم تكن قد اقتربت، الى براكين وزلازل قد تقع على الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري والامني السوداني، هذه التوافقات ترتبط بترتيبات لم يتم الاعلان عنها بعدما تمت قرصنة الخطاب، وكانت في الاغلب، ان يتولي الرئيس السوداني مهامه وان يكون رئيسا محايدا شفافا للجميع في السابق لم تعرف له هوية ولا تعريف – ويجري عدد من الاصلاحات ترتبط بملف السلام واصلاح الاقتصاد والحريات وكتابة الدستور وتنظيم الانتخابات، وفق قانون تتفق عليها الاطراف التي لم تعد من الفرقاء، بل هم لاعبون علانية وفي السر، والغرض والمغزى الاساسي يتعلق بانقاذ البشير وما يؤدي الى هلاك الجميع، واهم ما فيها اسقاط منظومة التمركز السودانية مصدر ازمات السودان والحفاظ على المنظومة الراعية لها، أكانت جهوية اوعرقية، خصوصا ان هاجس اقتراب قوى زاحفة صاعدة معادية قد تتمكن من تغيير اوراق اللعبة السودانية ومراكز القوى القائمة والسائدة، ومعنى هذا اندحار تاريخي لا يمكن القبول به او حتى التعاطي معه والتسليم به، وان السيستم السياسي والاقتصادي والثقافي يجب ان
يستمر، ولاجل ان يستمر بالضرورة، ان يتم امتصاص ثورة حراك تاريخ الهامش السوداني بهذه المضادات العاجلة التي تؤمن انتقالا سلسا او ما يعرف ‘بنظام سياسي جديد’ قائم على اصلاحات تحافظ على ‘تابو’ التمركز في سيادته التاريخية، وبالتالي ليس تغييرا بمفهوم التغيير الثوري، اي في البنى التحتية والفوقية، بل هو التفاف ماكر حول حقائق التاريخ ونتائجها الحتمية، اذن هي مفارقة كبرى في سلم اولويات المجتمع السياسي السوداني، الذي لا
يحترم تعهداته والتزاماته، فهو على الدوام في محل عدم المصداقية والثقة واهم ضروراته الاستراتيجية هي بقاء شكل ونمط فكر سيادة التمركز المهيمن، ليتراجع عن مبدأ اسقاط النظام عند بعضهم، والرفض العلني
للقيام بمراجعات تعتمد على اعادة هيكلة الدولة كمشروع وبرامج طموحة للجبهة الثورية السودانية، قائدة الكفاح الوطني السوداني المسلح. لاجل تلكم الاهداف المطلوبة سودانيا وبالحاح، على الجبهة ان تحدد خياراتها العملية في اختراق صنم تابوالتمركز.
يتضح في ما سبق ان عقل التمركز التف مجددا حول البشير، في مؤامرة على الشعب السوداني المتنوع، وقرر اللعب على مصطلح ‘الاصلاح’، اي رتق ما هو موجود بغية منع انهياره، انه مجرد تعديل في التفاصيل او تحسينها بدون
المساس بجذورها واصولها الثابتة، بعدما اكتشف بان الثورة السودانية ماضية في منهجها الرامي الى التغيير الشامل، وتبديل كل الصور والاشكال المهترئة في عملية تراكمية، نضجت لتتحول الى ثورة مكتملة سوف تصحح التاريخ السوداني بعملية نوعية لا تدريجية، كما يطمح لها تيار الاصلاح السياسي او اصحاب ايديولوجية الاصلاح الموكلة لها تحت قيادة المهدي، للقيام بعملية اعادة انتاج كاملة الدسم وليست خالية من الدسم، كما ورد في تعليقه على خطاب البشير، لان سير التاريخ يخضع لقوانين لا يستطيع هذا الانسان او هذه اللحى تغييرها. ان عملية التغيير الاجتماعي السودانية تسير وفق حتمية متراصة، لان جدلية الصراع فيها حول مبدأ المواطنة السودانية وافرازاتها ما دامت ايديولوجيا التمركز في التاريخ السوداني الحديث قد ذبحته، ورغم ذلك فان حلقتها المفرغة اقتربت من نهاياتها.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *