الطريقة التي خرج بها السيد/ الصادق المهدي من السجن، كانت تقتضي منه أن يركب عربة تاكسي من صينية كوبر ويذهب لمنزله من سُكات لا أن تُجمع له الحشود لإستقباله والهتاف بإسمه، فالزعيم الذي يهتف له الشعب ويقيم له تمثال هو الذي لا يكون ثمن حريته تراجعه عن رأيه وبلع كلامه، فقد أمضى الزعيم “نيلسون مانديلا” خمس وعشرون عاماً في السجن حتى لا يقوم بالتوقيع على ورقة كُتب عليها سطرين بإعترافه بالنظام العنصري وتعهده بأن يلزم فمه.
الذي لا خلاف حوله أن شطب التهم وإطلاق سراح الإمام لم يكن بعفو من الرئيس كما تُشيع لجنة “العواطلية” التي أطلقت على نفسها إسم “شخصيات قومية” وذكروا في مؤتمر صحفي عقدوه أنهم كانوا وراء الشفاعة التي قدمت للرئيس لإطلاق سراح الإمام، ثم أعقبوه بإصدار بيان حرصوا فيه على كشف أسمائهم بأوضح مما فعلوا بمحتوى البيان نفسه، فالصحيح أن شطب التهم وإطلاق سراح السيد الصادق المهدي كان بموجب “إلتماس” تقدم به الإمام نفسه عبر محاميه الأستاذ/ علي قيلوب، ونورد تفاصيل ما إشتمل عليه الإلتماس من واقع البيان الرسمي الذي أصدره ياسر أحمد محمد رئيس نيابة أمن الدولة الذي جاء فيه بالنص ما يلي :
” تقدم الأستاذ/ علي قيلوب بطلب نيابة عن المشتبه فيه الامام الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي ملتمساً من وزير العدل إعمال سلطاته الواردة في المادة (58) من قانون الاجراءات الجنائية، وبعد إطلاع الوزير على موجز الوقائع والتي تمثلت في أن المشتبه فيه عقد مؤخراً مؤتمرا صحفيا تناول فيه قوات الدعم السريع متهما إياها بإرتكاب بعض التجاوزات، وبعد إكتمال التحري وتوافر البينات المبدئية المعقولة التي يؤسس عليها الاتهام وبعد توجيه التهم من النيابة المختصة وبالنظر في الطلب المقدم تمشيا مع روح الوفاق الوطني الذي انتظم البلاد وبما أن المواد موضوع الدعوى الجنائية لا تتعلق بجرائم الحدود او القصاص او الجرائم التي يجوز فيها التنازل الخاص عن الدعوى الجنائية وحيث أن الشاكي جهاز الأمن والمخابرات الوطني لا يمانع فيحفظ الدعوى الجنائية تغليباً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولما كانت هناك فعلاً مصلحة عامة سياسية واجتماعية تبرر هذه الدعوى فقرر وزير العدل قبول وإخلاء سبيله فورا”.
هناك ملاحظات تكشف عنها هذه المذكرة بوضوح، وهي:
• أن الطلب الذي تم بموجبه شطب التهم وإطلاق سراح الإمام لم يتطرق لأي أسباب موضوعية تدحض التهمة عن الإمام أو تحمل مجرد إشارة لبطلان التهمة، وهو عبارة عن (إلتماس) للنائب العام لمباشرة سلطته في وقف الإجراءات (المادة 58)، وهي سلطة يشهد تاريخ المهنة أنها تمارس في غير الأغراض التي وضعت في القانون من أجلها (إستخدم الدكتور الترابي هذه السلطة أثناء عمله كنائب عام بعد الإنتفاضة في وقف محاكمة صهره الدكتور شريف التهامي في قضية البترول الشهيرة)، والحال كذلك، فهذا طلب يتجاهل الجانب الأخلاقي والموقف المبدئي الذي كان يتعين أن يتخذه شخص في مقام الصادق المهدي من تمسكه ببراءته الذي يستند على بطلان التهم التي وُجهت اليه ومخالفتها للقانون والدستور، فضلاً عن أن تقديم الطلب بهذه الأسباب يحمل ما يُفهم منه تسليم وإقرار بأن ما فعله كان جريمة ومخالفة للقانون.
• لا يشترط القانون موافقة جهاز الأمن والمخابرات أو الحصول عدم ممانعته لحفظ الدعوى الجنائية، وتفضح الإشارة التي وردت في هذا الخصوص رغبة النظام في الحصول على رضاء جهاز الأمن حتى لا يُقال أن شطب القضية قد تم دون علمه أو رضاه.
• ثم أن الحيثيات التي قدمها رئيس نيابة أمن الدولة التي تشير إلى تغليب المصلحة العامة ومراعاة روح الوفاق الوطني ..الخ لا تسري على حال الإمام الصادق وحده، فهي تنطبق بالحرف والكلمة على حال المناضل الجسور “إبراهيم الشيخ” الذي لا يزال مقبوضاً عليه في زنزانة بسجن النهود، كما أنها تنطبق على بقية المعتقلين السياسيين الذين مضى على وجودهم بسجون النظام شهوراً طويلة ولم يأسف على حالهم أسيف أو تُنادي بالإفراج عنهم “الشخصيات القومية”، فهؤلاء أبطال وسجناء رأي دخلوا سجن النظام لأنهم رفعوا صوتهم ينادون للشعب بالحرية والكرامة، من بينهم المعتقل محمد صلاح الذي تعرض تعذيب وحشي أدى إلى فقدان النظر عبر عينه اليمنى وتبول دماً وهو لا يزال رهن الإعتقال، وتاج السر جعفر الذي شاهدت مقطع فيديو يُدمي القلب لوالدته وهي تخاطب الناس في الطرقات بقلب مفطور وهي تنادي بحقها في أن تنام وإبنها إلى جنبها.
لا يمكن فهم موطن الخلل في الطريقة التي حصل بها الإمام على حريته، الاّ بالنظر للموقف الذي إتخذه حزب المؤتمر السوداني تجاه مبادرة “الشخصيات القومية” لإطلاق سراح رئيس الحزب الأستاذ/ إبراهيم الشيخ، فقد كشف الحزب بلسان المحامي ساطع الحاج رفض المبادرة لأنها تضمنت مطالبة هيئة الدفاع عن رئيس الحزب تقديم اعتذار مكتوب للنائب العام، وقال رئيس الحزب “أنه يفضل السجن مدى الحياة على الإعتذار أو التراجع عن موقفه”، وعوضاً عن ذلك، طالب بمحاكمة عادلة معتبراً أن قضايا الحريات العامة وحرية العمل السياسي وحرية القيادات السياسية في التعبير عن رأي أحزابها حقوق أصيلة.
كان لا بد يتخذ حزب يحترم نفسه مثل هذا الموقف الشجاع، فالحق في الحرية لا يتوقف على قيمة صاحبه في عيون النظام، وحتماً سوف تشرق غداً شمس الحرية في وجه الجسور إبراهيم الشيخ سوف تكسر الأغلال التي ضربت حوله، وسوف يرفع رأسه في شموخ لأنه خرج ولم يترك وراءه أحد من أبنائه المظاليم في سجون النظام، وسوف يدون له التاريخ هذا الموقف التي سوف تحكي عنها أجيالنا القادمة إلى أبد الآبدين.
سيف الدولة حمدناالله
[email protected]