الإختصاصيون في علم الجريمة يبدأون في بحثهم عن الجاني بالسؤال المحوري أو الأساسي المتمثل في “من المستفيد” من وقوع الجريمة و يُعبّر عنه باللاتينية (Cui bono ). و الذي ينظر ملياً في وقائع مجزرة بانتيو البشعة، التي راح ضحيتها المئات من أبناء السودان المدنيين العزّل، و الآلاف من الأبرياء من جنسيات مختلفة ، يجد من الأدلة و القرائن ما يجعله يستيقن أن نظام الخرطوم هو المستفيد الأول من الجريمة، و أنه غارق في دماء هؤلاء الأبرياء من أخمص قدميه حتى آخر شعرة في رأسه. و فيما يلي نسوق للقارئ الكريم بعض ما اعتمدنا عليه في هذا الاتهام من أدلة و قرائن و تحليل.
أعلنت جريدة الانتباهة، التي صارت الناطقة الرسمية باسم جهاز الأمن و المخابرات، إستيلاء قوات مشار على مدينة بانتيو قبل أربعة أيام من دخولها الفعلي إلى المدينة؛ فمن أين لها بهذه المعلومة إن لم يكن النظام شريكاً في التخطيط و التنفيذ و عالماً ببواطن ما يدبّر بليل.
سلّم النظام قوات مشار في يوم 10/4/2014، أي قبل أربعة أيام فقط من هجومها على بانتيو، بمنطقة “العورة” المعروفة أيضاً ب”كجور” و تقع على بعد 20 كلم شمال “تور أبيض” قافلة من 20 عربة لاندكروزر دفع رباعي محمّلة بالدوشكات و الرباعيات، و أربع شاحنات ZS تحمل من ضمن ما تحمل 3000 بندقية AK-47 و 150 رشاش BKM و 70 قاذفة RPG بكامل ذخائرها و داناتها بالإضافة إلى 250 صندوق ذخائر مدفع رباعي و كميات كبيرة من البلح و البسكويت. و الذين يعرفون الحرب يفهمون أن إمداد البلح و البسكويت إمداد تحرّك و ليس إمداد إرتكاز.
طلب النظام من أهلنا المسيرية المشاركة مع قوات مشار في العملية، فرفض غالبهم المشاركة إلا أن مجموعة قليلة تبلغ 91 شخصاً منهم، و فيهم من يُدعى “عباس التوير”، قد كانوا ضمن القوة التي قتلت التجار السودانيين بما فيهم ما يقارب الثلاثين من أبناء المسيرية. و حسب رواية شهود العيان الذين نجوا من المجزرة، فقد تلفظ هؤلاء القتلة بألفاظ مفادها أنهم مأمورون من قبل النظام في الخرطوم بتصفية التجار الذين يدعمون الجبهة الثورية السودانية.
سارع النظام، عبر الانتباهة و صحيفة المركز السوداني للخدمات الصحفية و غيرها من منافذه الاعلامية، إلى القول بأن القتلى هم مقاتلي الجبهة الثورية السودانية. ثم انتقل إلى القول بأنهم جنود حركة العدل و المساواة السودانية القوا أسلحتهم و احتموا بالمسجد و الكنيسة و المستشفى في زي مدني، مع علم النظام أن خمسمائة من مقاتلي حركة العدل و المساواة يدحرون خمسة آلاف من مرتزقته، و لن يستطيع أحد مواجهتهم. كما يعلم النظام علم اليقين أن قوات العدل كلها محمولة و ليس فيهم مشاة! و لما ظهرت البينات و الأدلة على لسان الأمم المتحدة، و شهود العيان، و أطراف أخرى محايدة، بأن القتلى من المدنيين العزّل من التجّار و من عدد من الجنسيات، و لا يمتّون إلى الجبهة الثورية السودانية بصلة، أصرّوا و تمادوا في الإلقاء باللائمة على الجبهة، و برروا المجزرة باعتبارها جاءت انتقاماً لدور مدعى قامت به الجبهة في دعم حكومة جنوب السودان في حربها ضد خصومها من قوات مشار. و انبرى وزير خارجية النظام، الذي يدير الوزارة على طريقة الدفاع الشعبي أو على شاكلة تجارة السيخ، بالترويج لهذه الفرية على ذات نهجه و تصريحاته الهوجاء الحاقدة التي تسببت في مقتل المئات و ربما الآلاف من أبناء السودان و من يشبهونهم من أبناء إفريقيا بواسطة الثورة التي قضت على حكم القذافي. و مازال التقليل من عدد القتلى، و العمل على اضفاء صفة المقاتلين المتدثّرين بثياب المدنيين عليهم، مستمر في وسائل اعلام النظام، إمعاناً في تبرئة المجرم، و تضييع دماء الضحايا الشهداء.
بعد أن أوردنا بعضاً مما نراها قرائن و أدلة على تورّط النظام في مجزرة بانتيو ، نقول للقارئ الكريم لماذا نرى أن النظام في قمة المستفيدين من هذه المجزرة:
قتل تجار الهامش، و إفقارهم الممنهج بالضرائب و رسوم الجمارك الفاحشة، و ملاحقتهم حتى في مقار عملهم خارج البلاد، ديدن راسخ لدى النظام. و ما حرق القرى و المزارع ،و دفن أو تسميم مصادر المياه، و نهب كامل ممتلكات أهل الريف، وتهجيرهم قسراً إلى معسكرات النزوح و اللجوء بعيداً عن سبل كسب عيشهم المعهودة، إلا أخذ من النظام بقاعدة “تجفيف البركة لقتل الأسماك”. و بالتالي جاء قتل تجار بانتيو الذين ينحدرون من كل مناطق السودان، و أغلبهم من أبناء دارفور، لضمان عدم تمكّنهم من دعم الجبهة الثورية السودانية بالمال. و بذا ظنّ النظام أنّه قد أصاب عصفورين بحجر: قتل تجار بانتيو الذين يتوهّم النظام افتراءً بأنهم شريان حياة الجبهة الثورية السودانية، و الرمي باللائمة عليها و على الضحية.
يدعم النظام قوات رياك مشار بالسلاح و المال و الإمداد و المعلومة و كل التسهيلات الممكنة للأسباب التالية:
يعتقد النظام أن حكومة دولة جنوب السودان هو الداعم الأساسي للجبهة الثورية السودانية. و بالتالي، سيحُول إشعال الحرب في هذه الدولة و إشغال أهلها بأنفسهم دون قدرة حكومتها على دعم الجبهة.
يسعى النظام للبرهنة للمجتمع المحلي و الإقليمي و الدولي، أن حملة السلاح لا يصلحون لحكم شعب، و لا يمكن التعويل عليهم. و أكبر دليل على ذلك الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان الآن بين رفقاء السلاح و النضال الذين ينتمون إلى حزب و تنظيم واحد . ليس هذا فقط، و لكن يريد النظام أن يشبع غرور العلو عنده، و الخلوص إلى نتيجة مفادها أن أهل المركز الذين حكموا السودان منذ الاستقلال هم فقط الذين يصلحون لحكم البلاد ليس سواهم.
يريد النظام أن يثبت للعالم الغربي أن دعمهم لانفصال الجنوب كان خطأً إستراتيجياً؛ و أن ذلك الموقف هو سبب الحرب المستعرة في دولة جنوب السودان الآن؛ و أنهم مسئولون عنها أخلاقياً.
يسعى النظام بفرض وجوده داخل أراضي دولة جنوب السودان، تحت غطاء قوات مشار، حتى يكون حاجزاً بين قوات الجبهة الثورية المنتشرة على امتداد حدود دولة جنوب السودان مع السودان و قطع خطوط إمداد متوهّمة.
للنظام طمع و كبير في إيرادات بترول دولة جنوب السودان لمواجهة ظروفه الحرجة التي يمر بها و نهّابيه، بعد أن كاد ضرع البترول الذي رضعوا منه أن يجف. و بالتالي يدعم النظام مجموعة مشار التي إن سيطرت على حقول النفط في الجنوب، أوكلت إليه تسويقه و التحكّم في إيراداته مقابل ما يقوم به النظام من دعم و خدمات تجاهها.
يسعى النظام إلى اضعاف دولة جنوب السودان اقتصادياً و عسكرياً بانهاكه و تبديد موارده المادية و البشرية في الحرب حتى تكون مضطرة لتقديم أكبر التنازلات في القضايا العالقة منذ اتفاقية السلام الشامل.
إذن يريد النظام بمجهودات التعمية و التضليل المتعمّد التي قام بها، و الغبار الكثيف الذي أثاره، أن يغطي على دوره في المجزرة، ثم يبرئ حليفه من جرمه بالقاء الوزر على الجبهة أو مكوّن من مكوناتها. و بذا يكون قد رمى عدوّه بدائه و انسلّ. و التناقض الذي لا يجد الناس له تفسيراً منطقياً هو أن أهل جريدة الانتباهة التي تسعى اليوم لطمس معالم المجزرة البشعة التي إرتكبت في حق مواطنينا التجّار من كل مناطق السودان، و تبرئة ساحة مرتكبيها، هم أنفسهم الذين ظلّوا يذكّرون الشعب السوداني بمجزرة توريت عام 1955 و جعلوها إحدى مرتكزات و أسباب دعوتهم و جهدهم المشئوم الذي تُوّج بانفصال الجنوب.
إعلام حركة العدل والمساواة السودانية