بقلم : احمد قارديا خميس
لكل مأساة أبعاد خطيرة لا يستشعر بفداحتها الا متآخرا .. ومع توسع دائرة الدم والدمار والقتل والتهجير في دارفور بسبب اضرام الحرب لنظام المؤتمر الوطني في السودان بحق شعب دارفور بشكل متوحش لم يعرف العالم مثله من قبل , مع كل هذا الأمر تخرج المأسي وتظهر الكوارث بشكل مخيف .فمع التركيز المطلوب علي الثمن الانساني المتعاظم والهائل , وذلك نتاج مئات الآلاف من القتلي والجرحي وملايين من المشردين واللاجئين والنازحين , ودمار القري والمساكن والمزارع, هناك بعد ثقافي وتراثي واقتصادي بدأت تتضح فداحة خسارته وهول تأثيره السلبي المتوقع .
الحرب علي شعب دارفور تهدد سلسلة من المهن والحرف والأعمال الاستثنائية من الاندثار والانقراض . دارفور كانت دوما مركزا للتميز الحرفي عبر العصور , ولكن الحرب الهمجية من قبل نظام المؤتمر الوطني المجرم ضد شعب دارفور تهدد بأن يحول كل ذلك الي أطلال وقصص وأساطير من الماضي الجميل .
هناك حرف مثل اعمال السعف فصناعة ( المندولة – البراتيل –الطباقة – البروش – القفف …الخ ) ومنطقة منواشي بجنوب دارفور التي تشتهر بذلك ,وهذه الحرف بكل اشكالها وانواعها وهي حرفة يتم تطويرها وتعليمها وتوريثها جيلا بعد جيل .ونفس الشئ من الممكن أن يقال في صناعات الجلدية اليدوية من اهمها (صناعة المركوب التي تشتهر بها مدينة الجنينة حاضرة غرب دارفور يسمي ب (مركوب جنينة) ,وصناعة مستلزمات ركوب الجمل والخيل ,و الشنط والقرب والاخراج ومنتجات الزينة المنزلية والجمال والخيول التي تشتهر بها مدينة مليط .وايضا صناعة الخشب من السروج والبنابر والكراسي , واعمال الصوف من المفارش والسجاد ,وايضا من الحرف الفخارية من الازيار وادوات الزينة للمنازل . وكل هذه الحرف والاعمال تعتبر البصمة الوراثية للذوق الجميل في دارفور .ومعظم هذه الحرف والصناعات والاعمال وموادها الخام كلها تأتي من الارياف والقري والفرقان التي اصبحت مهجورة بسبب القتل والدمار والتهجير من قبل نظام الابادة الجماعية .
هذه مجرد عينات من كنز وثروة فكرية وثقافية واقتصادية هائلة ,عبارة عن تراث ومجد تراكمي عبر أجيال طويلة من العطاء والانتاج والابداع والابتكار والفن .كل ذلك مهدد بالموت مع وفاة الحرفيين أو تهجيرهم أو اصابتهم وعدم امكانية نقل هذا الفن والمهارة والفكر الي اجيال جديدة تحفظه وتحميه وتبني عليه كما ينبغي .
هوية دارفور التراثية التي هي في مهب الريح الآن لم تكن ذات فائدة وعوائد علي دارفور وسكانها فقط لكنها كانت جزءا اساسيا وحيويا في كل بيت سوداني وكانت جامعا لها وعنصرا مشتركا .نظام المؤتمر الوطني الذي لم يفرق بين البشر والحيوان والمزرعة والحجر في تدميره وقتله حتما لم ولن يعي حجم الخسارة الفكرية والثقافية هذه ,فكيف يكون ذلك وهو يحارب كل رمز حضاري ,فتزداد الادلة والبراهين علي هذا النظام المجرم الذي يمحو قراه وشعبه وهويته وبصمته بشكل تلقائي ونمطي وممنهج غير مسبوق .