بقلم:عبد العزيز التوم إبراهيم
نجد أن السودان قد مرت بعدة تجارب دستورية منذ دستور الحكم الذاتي لسنة 1953 وحتى دستور السودان الانتقالي الحالي لسنة 2005 ،وهنا نحن أمام سيل من الأسئلة المحيرة ،هل فشل قيام الدولة الوطنية ناتجة من غياب الإرث الدستوري كما يدعي بذالك بعض الأكاديميين؟!أم متلازمة الفشل للمشروع الوطني كنتيجة حتمية لتغييب واستبعاد قوي اجتماعية فاعلة من عمليات صناعة الدساتير الفاشلة في السودان؟ أم إدمان الفشل واحدة من ثمار افتخار القوي السياسية المركزية والأحزاب التقليدية لرؤى والأفاق ثاقبة لمعضلة السودانية ؟!! وإذا القينا الضوء علي طبيعة الدساتير سواء كانت مؤقتة أو دائمة سوف نخرج بنتيجة مفادها أنهم لا يعبرون عن التنوع العرقي والثقافي لشعوب السودانية ،بل يعتبر مشاريع استلابية زائفة ،فمثلا دستور 1953 يعتبر مجرد تقنين للنظام البرلماني الذي نشأ كنظام سياسي في انجلترا عبر التاريخ ،وما يحمله هذا النظام من الإرث الثقافي والسياسي الذي ليس بالضرورة أن يكون متماشيا مع الثقافات ونظام الحكم في السودان ،وهذا الدستور في مضمونها تعبر عن بعض أسس المشروعات الاستعمارية ،لان المستعمر وضع هذا الدستور بعد أن تأكد من توطين المشروع الاستعماري في السودان ،وبذاك كان رغبة منه لنقل السلطة من حيازته إلي السودانيين او ما يسمي بالسودنة، في فترة انتقالية لمدة 3 سنوات.
انتهت هذه الفترة الانتقالية بإعلان استقلال السودان في 19/12/،1955وفي مطلع عام 1956 تم وضع الدستور المؤقت ،والمؤسف حقا استقر الرأي لدي الرعيل الأول من جيل الاستقلال علي أن يظل العمل ساريا بأحكام دستور الحكم الذاتي بإجراء بعض التعديلات الطفيفة ،إذن نستطيع القول ان المشروع الاستعماري بات يشكل حضورا كبيرا حتى بعد إعلان استقلال السودان ،وذالك لفشل المشرع الوطني لإيجاد مشروع قومي يستوعب كل الشعوب السودانية، بل تماهى المشرع الوطني مع مشاريع الاستعمارية للمستعمر الأجنبي ،وكانت هي بداية للمأزق الدستوري واستفحال الأزمة السياسية في السودان من جراء إحساس بعض الشعوب السودانية من عدم رؤية ذواتهم في المرآة السودانية ،وكان أول تمرد توريد 1955،والمقام هنا ليس الوقوف علي الإحداث التاريخية بقدرما نهدف استيضاح بعض الملامح للتجارب الدستورية الفاشلة في السودان.
ثم جاءت دستور المؤقت لسنة 1964 عقب الإطاحة للحكم الدكتاتوري العسكري الذي أطاح نظام عبد الله خليل أو بالاحري تم عن طريق عملية التسليم والتسلم، عندما أحس عبد الله خليل بخطورة موقفه حيال التحالف الذي تم بين طائفة الأنصار والختمية ،والجدير بالملاحظة أن هذا الدستور هو امتداد طبيعي لدستور 1953 ‘قد اجري عليه فقط بعض التعديلات ،لا يصلح في الواقع من الأمر إشباع والضرورات وتطورات الحياة الجديدة التي أحس بها الثوار،وعلي حسب مطالب الثوار يتم إجراء انتخابات تسفر عن جمعية تأسيسية ،إلا أن اخطر قرار اتخذ آنذاك، هو إجراء انتخابات في المديريات الشمالية بمعزل عن المديريات الجنونية الثلاث بدعاوي الحرب وهي كانت نوايا واضحة لاستعباد الجنوبيين.
ونتيجة لعدم الاستقرار السياسي وللأخطاء الدستورية الذي ارتكبت الحكومة الأخيرة من حل الجمعية التأسيسية، وحل الدستور بطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، وتأزم مشكلة الجنوب ،قام العميد جعفر محمد نميري صبيحة 25مايو 1969 بالانقلاب علي السلطة حيث اصدر الأوامر العسكرية تباعا في حل البرلمان والحكومة والأحزاب وإلغاء الدستور ،ظلت البلاد تحكم بتلك الأوامر إلي أن صدر دستور السودان الدائم لسنة 1973، فشل هذا الدستور لمخاطبة جذور الأزمة السودانية ،وازدياد حدة الاستبداد السياسي المايوي ،بمقابل زيادة حركة المعارضة السياسية مستندة علي عدة أسباب أهمها :التضخم المالي، ومشكلة الجنوب وخاصة بعد إعلان الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق في سنة 1983،كذالك ازدادت حركة الطلاب والنقابات مما أدي إلي سقوط نظام جعفر الديكتاتوري ،وتم وضع دستور السودان الانتقالي لسنة 1985 ونتيجة لوقوع التنظيمات السياسية في المتناقضات والمناكفات الحزبية لم يكن هنالك أي تقدم علي صعيد حل القضايا الوطنية في فترة الديمقراطيات ،وبسسب عدم الاستقرار السياسي الواضح في دستور 1985 وقع انقلاب عسكري بقيادة عميد عمر حسن احمد البشير ،قضي علي جميع المؤسسات السياسية والدستورية ،وظل يحكم البلاد عن طريق مجلس عسكري بموجب مراسيم دستورية بلغت أربعة عشر دستورا إلي أن صدر دستور 1998 ،هذا الدستور يعتبر تجسيد لمشروع الحركة الاسلامية القائمة علي المشروع الحضاري والذي يعبر عن قمة تطلعات والأشواق الاستعمارية للحركة الاسلامية.
وأخيرا وليس آخرا تم وضع الدستور الانتقالي لسنة 2005 الذي جاء به اتفاقية نيفاشا ،وتعتبر دستور 2005 دستورا نموذجيا لانه تضمن من الحقوق والحريات بما لا يتضمنه الدساتير السابقة .
ومن الخلال الوقوف بصورة موجزة علي التجربة الدستورية في السودان ،توصلنا الي نتائج او تخريجات، أن الأزمة الحقيقية لا تكمن في أننا نفتخر للتجربة الدستورية الحقة ،بل لب الأزمة تتمثل في إقصاء السواد الأعظم من أبناء الشعوب السودانية من فلك الدولة ،وحتى الانقلابات العسكرية ظلت تدور في يد جماعات عرقية محددة ،وعبر التاريخ ان الشعوب لم يتح لهم الفرصة في التعبير عن أصواتهم حتى في التجارب الدستورية الفاشلة ،والملاحظ في خلال هذه الأيام ذات القوي والتنظيمات المركزية يتحدثون عن مسالة صناعة الدستور من خلال حراك دءوب بمعزل عن قوي الهامش !!! أي دستور يسعون لوضعه ؟ هل نحن بحاجة إلي تكاثر وتناسل الدساتير الفاشلة ا الذي لا يعبر عن الشعوب السودانية ؟! ان تواطؤ التنظيمات المركزية مع المؤتمر الوطني إن دل يدل علي عدم استظهارهم النية الجادة في عملية التغيير الحقيقي في السودان، بل يعملون من اجل إعادة إنتاج سلطة المستعمر الثاني بإشكال مختلفة وضمان استمرار يته! وإذا كان الأمر خلاف ذالك، إذن كيف الحديث عن صناعة الدستور في ظل تحكم المؤتمر الوطني علي كل مفاصل الدولة حتى علي مصائر الناس!!! كيف الحديث عن الدستور في الوقت الذي يعاني شعوبنا من التشرد والقتل والاغتصاب؟!! أليس من الأجدر إيقاف الحرب أولا وذالك باستئصال مصدر الحرب وهو المؤتمر الوطني، لضمان مشاركة الشعوب السودانية في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة قبل الحديث عن الدستور؟!! هل يمكن الحديث عن الدستور في ظل غياب الحريات وعدم مقدرة المواطنين للتعبير عن آراءهم حتى في الخرطوم ناهيك عن المناطق المأزومة؟!! إذن أي حديث عن صناعة الدستور في ظل هذا الوضع التاريخي المأزوم وفي ظل غياب كتل الهامش يعني أننا أمام عدة سيناريوهات ، السيناريو الأول هو المزيد من استفحال الأزمة السودانية وتدمير كل البني والعلائق الاجتماعية ،وهذا السيناريو يقود بدوره إلي سيناريو أكثر خطورة هو تفكك ما تبقي من شمال السودان وتأسيس علي الأقل ثلاث دويلات . إذن لتلافي هذه السيناريوهات المحتملة هو ضرورة إسقاط نظام المؤتمر بأسرع ما أمكن ،وتكوين حكومة توافق وطني يشرع في تأسيس جمعية منتخبة يقوم بوضع دستور ينطلق من واقع الشعوب السودانية ،ويتم فيها إشراك كل القوي السياسية والحركات الثورية ،ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المختلفة ،وتمثيل حقيقي لكل التنوع الثقافي والعرقي والديني للوصول إلي عقد اجتماعي وثقافي واقتصادي للشعوب السودانية .
[email protected]