بقلم د. سعاد الحاج موسي
16/01/2020
عندما نودي على اسم السودان متمثلا في كاتبة “صقور وحمائم الحرب في السودان” لتستلم جائزة آيدو – سنايدر للكتاب في يوم 23 نوفمبر 2019 ببوسطن، لأول مرة في المحافل الأكاديمية بأمريكا، دوت القاعة بالتصفيق للكاتبة السودانية في غُرة انتاجها البحثي من بين كل المتنافسات اللائي قدمتهن كبري بيوتات النشر العالمية رفيعة المستوي. الكتاب يوثّق عهداً حربياً خرباً للإنقاذ وسلوكاً سياسياً استقطابياً لنظام اقتات لعقود ثلاثة على قيم المجتمع التصالحية وأبدلهم العداوة والبغضاء باسم الدين تارةً وباسم العروبة والقبلية تارةً أُخري. ولمَّا طابت لهم قطاف شرهم المستطير، تجاذبوا فيما بينهم ما تبقي من ثوب المجتمع الدافئ، بضراوةٍ، فأحرقوه وما فُتئوا رتقوا فتوقه بدبابيس مسمومة، ثم دفعوا به متهتكاً الي كل أقطابه وأرغموهم على التغشي به فلم يسلم أحد من الحريق والاختناق. وعندما استدرك الإنقاذ وجود نساءٍ يجدن حياكة الأطراف الممزقة في مجتمعاتهن، ساقوهن الي حِظِارِ ضوارِهم لدق الأسافين بين وحدات المجتمع ففتكوا به وبسلمية تعايشه، قبل أن تنتفض الحكامات وجِلات من فرط ما استنشقن من هواء الإنقاذ المسموم، ليشرعن، وهن مستنكرات، في استعادة ما أُسِتلِب منهن من قيم الاستقلالية والجنوح الطوعي نحو السلم ورتق نسيج المجتمع وبناء سلامه وصون ميزاته الاجتماعية. كتاب يرسم ملامح الحكامات الاجتماعية وأصالة أدوارهن، ويتتبع مسيرة انطلاقتهن السياسية، ومحاولة الإنقاذ ضمهن الي مستودع آلتها العسكرية، فهل أفلح ام غلبته فطرتهن والتزاماتهن نحو المجتمع؟
وقبل سالف السطور وبعدها وعبرها، أتمنى ليكم عام سعيد وعمر مديد وندعو الله أن ينعم على السودان بالسلام والنماء والازدهار وعلى السودانيين في كل مكان بالطمأنينة والرفاه. وأسمحوا لي يا رفاق أن أوفيكم بعضاً من حقكم وأشكركم وأنتم تنضمون الي منصة نُصِبت على بُساطِ فرحٍ دفقه غمر أرجاء الوطن، بفضل كتاب سوداني القلم تصدر قائمة الكتاب العالمي في مجاله لعام 2019، كاشفاً عن تفجر بعض ينابيع السودان الوطن الذي خلناه قد ضاع منا سُدي، ولكنَّا نشاهده الآن ينساب على هدي عزم بنيه وعزيمتهم ليُعلن بدايةَ عهدٍ حقوقي احتفالي ميسوراً ببطولات وتضحيات شهداءٍ بواسل وأحياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما عاهدوا الوطن، وليضع حجر الأساس لحاضرٍ وغدٍ سيزخر بعطاء أُمّتِه وأُمّة أمجاده وزودهم عن الوطن. أجتهد يا رفاق وأكاد أقع من راحلتي وأنا أعدو بحثاً عن كلمات نابضة قيمةً ومعني، لعليْ أوفيكم حقاً، على ما نضح من دعاش نفوسكم من طيب الخير والمحبة، وسط منارات لقاءاتنا الأنيسة ذات خطي تعجلت في الرحيل في ختام العام المنصرم/2019.
لكم أسعدني أن ألتقيكم عبر الأسافير على ضفاف تظاهرة تتويج كتاب “صقور وحمائم في السودان”، تلك الفرحة المذهلة التي غمرتنا جميعاً بدفقها الرطيب اللطيف. أسعدني لقاؤكم عبر أقلامكم التي تضوأّت بكلماتٍ أغنيات صدح بها اخوةٌ بواذخ القامات والمَلَكات على صحوات الإبداع الأدبي الرفيع فجادوا وأجادوا حتى صِرتُ أبحث عني أنا، وأتحسس عمن هي، وأين هي، وكيف هي هذه السُعاد من زفة اخوتي ومهرجانات حروفهم البديعة آسرة التوهج، فوجدتني أغرق في رحيق كلماتهم وأصوْح بها وأجول في أعماق قطراتها لعلي أتندّي ببعض العبارات التي وصفت فأبدعت وأشْجَتْ فأبْكَتْ، وأُمني النفس لو أستحق ولو بعضها جوازاً لأنضم الي احتفال فرح العزاز بني قبيلة الحب والكرامة.
وأسعدني أن ألتقيكم حضورا حياً عبر جموعكم الكريمة الألق والبهية الملتف من أنحاء أمريكا، اخوة واخوات رفاقٌ، علي مرافئ سويعات بهيجة لؤلؤية الإشراق، ونحن متسامرون علي فضاءات الندوات أو علي شرفات منازلكم العامرة – لحظات غمرها غيض من فيض الترحاب والكرم الأنيق، وعلي أساريركم الباسمة تومض بشريات أمل طفولي البريق في غدٍ عازمٍ زاخمٍ واعدٍ للوطن، متفائلٍ يرتفع بالسودان علي ثريا طموح وآمال أبنائه وعملهم واجتهاداتهم، أمل يوعد باقتراب زفة أفراح مستديمة الإقامة والبقاء بعودة وطن ضاع نصفه علي حين غفلة بين الأحراش المظلمة الكئيبة واشتعل الحريق في نصفه الآخر. زفةٌ تجوب أعالي البلاد وأسافله شرقاً وغرباً وشمالا وجنوباً لوطن عائد قافلته ترفل في لبوس الشوق والتوق الي الاستشفاء والاستجمام وهو يزرف الدمع السخين مدرارا، ويزهو بحب بنيه فتزدهي ربوعه وتزهر أشجاره بترياق من أزاهير الود والسلام والمحبة.
لعقود من الزمان اجتاح قلوبنا وابلٌ من هاجسٍ أسيٍ فصِرْنا نزرع الأمكنة جيئة وذهابا نبحث كل يومٍ وفي كلَّ شبرٍ وكلَّ ركنٍ وبين الحنايا، عن ملامح وطن طُمِّرَت ساحاته وحدائقه ومزارعه بالرصاص القاتل وجثث الضحايا، وأُبدلت زقزقة عصافيره بقرقعة السلاح وصوت البنادق ودوي المدافع، وشُقَّ صدور أبنائه بالقهر الدامي، وأُذلت بناته بكل أنواع السِفاح. نبحث بين الناس والأشجار والأشياء من حولنا وفي الأجواء، في الداخل والخارج، وبين طيات السحاب ورذاذ المطر على سقوف المنازل والرواكيب والقطاطي المهجورة وبين الأنقاض، وفي حلم الليل واليقظة وحتى بين بيوت الرمل في الخريف نبحث عن بقايا للوطن! ولكننا تُهْنا أكثر وتاهت معنا بوصلة الطريق بفعل من استغفلنا عُنْوةً وأقام من نفسه اماماً وصدّق أنه دليلٌ مُرْشِدٌ. ومع التيهان لم نعد نستبين مكان المحراب لنصلي لربنا ونقدم قرابين الطاعة ونبتهل ونتضرع الي لله ألاّ يزيدنا بلاءً، وندعوه أن يرد الينا بقايا ذلك الوطن الجريح الذي احترق بفعل من استهوتهم الشياطين فاستباحوه للأفاعي والأشباح لتسكنه حتى توهّمنا أنه ما عاد قادرا على تجميع أشتاته وتحنيط أشلائه، واطفاء نيران حرائقه وتأمين منازله وأزقته، وأنه لم يعد قادراً على التمييز بين من يُنير، ومن يسعَ الي أو أدمن اشعال الحريق واستهوي رؤية الموت والخراب المبين. ولكن الإله الكريم استجاب لمناجاتنا وصبرنا وألقي على قلوبنا وبصائرنا نعمة أن نهب لانتشال الوطن من وهدته واسترداد كرامته فكانت الثورة ينبوع لا ينضب لتحقيق قيم الحرية والسلام والعدالة!
فنعم اللقاء كان لقاؤكم يا رفاق وسيبقي لقاءاً للسودان الذي نسعى معاً لاسترداد ملامح أصالته الدفينة، ففيكم ومنكم وحولكم تبدت ملامح الوطن الذي أهلكته ودمرته الآلة التي غَيَّبَتْ حُسَان أبنائه وحسناتهم وأبدلتهم بآخرين يفر منهم المرء وأخيه وصاحبته وبنيه. ولكن نؤمن أن الله لم يخلق الكون ليسود فيه الشر والبغضاء والعداوة فيهلك ساكنيه ويفني جمعُهم، بل يقيننا أن الرب يُعَمِّر الكون بحصيلة ما يصنع الإنسان من المحبة والسلام، وينشر، والطغاة الظالمون لابد الي غياهب الجب عالقون وهامدون ولو استطال الزمان وظنوا أنهم هم الغالبون. فعندما نغيب عن عالم الشمس والقمر لا يقترب من حضرة الملكوت من كان في نفسه غِلٌ وأجرم في حق البشر، فتلك المفاسد مصيرها الاحتماء بظلام المقبرة الأبدية ليشهد ويستأنس عرابوها ومرتكبوها بجرمهم ويهنئون.
فلله دركم يا أبناء السودان وبناته، وطوبي لكم ما تختزنونه من سماحة النفس وكريم الخصال وما يقتضي أن يقوم عليه بناء السودان. إليكم نشرئب بمحبة وندعوكم صادقين أن تحافظوا على إرث الاحترام والود والإلْفْ، وبوسع كل منكم ومنكن أن يقود مشروعاً للسلام الاجتماعي والتنمية، وأنتم أهلٌ له وقادرين عليه، لدعم السودان وأهله بأعمال خيرية تجوب قراه ومدنه ترتق نسيجه المتهتك وتَصُد عصابات مخربيه.
أخص بالذكر شكرا وعلى استحياء:
الأساتذة الكتاب والصحفيين: إبراهيم سليمان (صوت من الهامش)، الصادق بشير، الهادي مبارك، خالد أبو جارة، إسماعيل عبد الله، محمد سليمان، محمد صالح ياسين، أحمد المهدي جوه، والأستاذ خالد تارس مؤسس صحيفة البنابر، وبرنامج الكنداكة براديو دبنقا.
المنتدى الثقافي للدار السودانية بشمال شرق فيلادلفيا، جمعية الرائدات ونادي الكتاب بواشنطن، الملتقي الثقافي السوداني والجالية السودانية الأمريكية برتشموند فرجينيا، اللجنة التنفيذية لأبناء الفور برتشموند، كنداكات وميارم فلادلفيا، ورتشموند وواشنطن.
الأفاضل بروف. حامد علي، السيد آدم قردية واسرته، د. علي بحر الدين علي دينار واسرته، د. طاهرة زيادة (تونة) واسرتها، د. عبد المنعم خضر واسرته، د. ندي مصطفي واسرتها، الاستاذ بشير اسحق، اسرة د. سليمان جدو، الأستاذة رجاء بشير واسرتها، الاستاذة مني أبوبكر واسرتها، الأخوات هالة الشوية واسرتها، الأخ منصور أحمد منصور واسرته.
وجميع الاخوة والأخوات الذين أكرموني بوقتهم وأتحفوني بتبريكاتهم عبر الزيارات والتلفونات والفيس والواتس! والعتبى لمن سهوتُ عن ذكرهم، لكم ولكن جميعاً تقديري وامتناني ومودتي والله ما جاب يوم شكركم.
المجد والخلود لشهداء الثورة والوطن، والعزة والشموخ والسلام والتقدم للسودان وبنيه الكرام.
سعاد مصطفي الحاج موسي
[email protected]