تونجيات – ايام التونج ثانية 3-3
ما لم اذكره في كتابي ايام التونج من مشاهد وتصرفات شاهدت بعضها وحدثني عن البعض الاخر من شارك فيها وهم الان احياء , وكانت تلك المشاهد والتصرفات تزيد من الغيظ والكره والرغبة في الانتقام والتي تظل تغلي داخل النفوس كحمم البركان في داخله حتي يتفجر ويقذف بحممه الحارقة المدمرة التي تبيد في طريقها كل شئ .. وكان للجيش نصيب وافر من تلك الفظاعات , فقد حدثني صهري الضابط المتقاعد انه كان ضابطا صغيرا (ملازم ثان) بعد تخرجه في الكلية الحربية في الستينيات بحامية مديرية بحر الغزال في واو , وجاءتهم اخبارية بأن المتمردين اقاموا معسكراً لهم في جهة معينة , فأرسلت قوة علي رأسها رائد لمهاجمتهم وتدمير معسكرهم , وهم في طريقهم داخل الغابة قبضوا علي شخصين واخبرهم الدليل الجنوبي من المخابرات ان هذين الشخصين من المتمردين , وقال الملازم ثان انهم اخذوا يستجوبونهما لمعرفة مكان المتمردين وعن كل ما يتعلق بهم , واعترفا بأنهما من الانانيا وكان احدهما هائجا ويسبنا ويسب الشماليين ويتوعدنا بالموت ورفض هو وزميله الادلاء بأي معلومات , وهددناه بأننا سنقتلهما اذا لم يعترفا وسنبدأ به اولا , ولم يأبه بتهديدنا بل زاد في شتمه لنا , وهنا اصدر الرائد الامر بقتله , ولكن الرقيب خاطب الرائد بقوله ان لا نطلق عليه الرصاص لأن صوت الذخيرة سينبه المتمردين ونحن نهدف لمباغتتهم واضاف لذلك احسن نقتله بذبحه بالسكين , ووافقه الرائد علي ذلك , فأوقعوه علي الارض واستل الرقيب سكينه وبدأ في ذبحه كالخروف , وكان الرجل يسبنا حتي قبل ان يجهز عليه الرقيب . وقال الملازم ثان انه تزلزل نفسيا لأنه رأي انسانا يذبح كالشاة لأول مرة .
واخبرني ايضا عن واقعة اخري , فقد كانت نوبته كضابط نوبتجي وكان كل الضباط الاكبر رتبة منه غير متواجدين , وكانت المنطقة العسكرية في واو في منطقة تدعي قرنتي وتقع علي ربوة عالية تشرف مباشرة علي نهر الجور الذي يجري اسفلها , وكان في الربوة مبني به سجن ممتلئ بالمسجونين المشكوك في امرهم او انهم من المتمردين , وعند المغرب لاحظ الضابط ان النهر في الاسفل يعج بالتماسيح التي تموج وهي في حركة ونشاط زائد , ونادي الرقيب وساله عن هذا المنظر الغريب , فأخبره بأن هذه هو ميعاد وجبتها اليومية , واخبره الضابط ان يفصح عن قوله فأخبره بأنه عند المغرب يذهب احدهم ويفتح باب غرفة السجن المكتظة اكتظاظا رهيبا بالمعتقلين ويسألهم اذا كان احدهم يود ان يتفسح , وبالطبع يود كثيرون ذلك , فيختار واحدا منهم ويجعله يقف علي حافة الهضبة مواجها النهر ثم يهوي عليه تحت اذنه ب (يآي حديد) للوري فيقضي عليه ويرمي به الي النهر حيث تتلقفه التماسيح ..وسأله الضابط ان كلن ذلك الفعل يحدث كل يوم , فرد بالايجاب , واستنكر الضابط الامر بشدة وأمره بأن يوقف هذه الفعلة نهائيا ..
كما قال لي ان لديهم تعبير معروف وهو (لجِّن) المكان ويعني ذلك اضرام النار في اكواخ القرية بما فيها من بشر وحيوان , وذلك اذا اشتبه ان فيها متمردين , ومن يحاول النجاة من الحريق يقضي عليه بالرصاص . واخبرني خالي الذي كان يسكن في حي دردق في مدني ان احد اصحابه كان عريفا في الجيش يعمل في الجنوب ضد المتمردين , وقال له انه يعاني من ألم شديد وثقل في الحركة في رجله اليمني , وقال انه يعتقد انه عقاب له من الله لأنه في احد المرات التي احرقوا فيها قرية خرجت امرأة تحمل طفلها الذي لم يتعدي عمره السنتين فأصابها الرصاص ووقعت علي الارض ووقع الصغير بعيدا عنها , فركلته بحذائي ركلة قوية اخمدت انفاسه .
وعقب خروجنا مع عائلاتنا من التونج في كنفوي (قافلة) يحرسها الجيش ميممين واو ومن هناك سنركب القطار الي الخرطوم وذلك بعد ان قررت وزارة التربية والتعليم قفل المدارس وتعطيل الدراسة الي حين ان تهدأ الاحوال ويستتب الامن , وذلك بعد الهجوم علي التونج وكذلك بعد قتل ناظر مدرسة كواجينا الاولية ومساعده الشمالييّن وحرق جثمانيهما, ونحن في الطريق الضيق الذي تحفه الحشائش الطويلة من الجانبين وبعده تمتد اشجار الغابة الي ما لا نهاية , خرج رجل جنوبي يحمل قرعة بها شئ من العصيدة ولعل صوت العربات دفعه ليستطلع الامر , ولكن الضابط المسئول عن القافلة استوقفه وتحدث معه و ساقه الي داخل الغابة , وبعدها سمعنا صوت طلق ناري ورجع الضابط بدون الرجل وواصلت القافلة السير .
مما أود التأكيد عليه ان اقتراف هذه الفظاعات كان متبادلا بين الجيش والمتمردين , فالعنف يولد العنف الممزوج بشهوة الانتقام والتشفي , والقضاء علي الخصم في الحرب يبيح عمل أي شئ لا انساني ولا اخلاقي برغم المواثيق الدولية التي تحرم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسان , ويبقي الضحايا هم المدنيين الابرياء , ويبقي الشباب دوما هم الوقود للحرب .
وفي قضية اخفاق الحكام الشماليين من تغيير حياة الجنوبيين وانتشالهم من وهدة العوز والحرمان شاهدت منظرا امام متجر اكبر التجار الشماليين في التونج ينفطر له القلب , فقد رأيت مجموعة من الفتيات الصغيرات العاريات تماما يلتقطن كالطيور من التراب بعض حبات الذرة التي تقع عند تضرية العيش , وكان من السهل علي الرائي عد اضلعهن في اجسادهن الهزيلة الجائعة !!
وفي اعتقادي ان هذه التصرفات والممارسات المتراكمة والمعالجات الخاطئة عبر السنين هي التي تسببت في الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب وزرعت الشك وعدم الثقة والكراهية بين الاثنين وبخاصة الجنوبيين .
ولا اجد انسب مما اختم به هذه الصفحات من الكلمات التي كتبتها في نهاية الكتاب وهي :
اما التونج الجميلة فما قليتها ولن انساها فرغم مرارة ختام البقاء فيها , والذكري الموجعة للأحداث الاليمة التي عشناها بآخرة , فقد كان لنا فيها ايام عبقت بالصفاء وضمخت بالود وتوشحت بالبهجة وتجللت بالمسرة .. فهل من لقاء جديد في احضان الحب والسلام !
أود ذلك فما يزال الامل حيا في الخاطر .
هذا ما عنَّ لي ان اذكره مما لم اذكره في كتابي ايام التونج , واشكر الاخ الاديب بشري الفاضل الذي حفز قلمي ليسطر هذه الصفحات .
هلال زاهر الساداتي
[email protected]