علاء الدين أبومدين
الإقرار بأن المعارضة السودانية عجزت حتى الآن عن فرض شروطها للحوار الوطني، بينما عملية توحيد الإسلاميين أو أهل القبلة (سمها ماشئت) تجري على قدمٍ وساق، يؤكد أن تفضيل الكثير من المعارضين لوحدة الإسلاميين حتى يتم التخلص منهم دفعةً واحدة، محض تفكير رغائبي wishful thinking تحفزه نزعة الانتقام جراء الجرائم المهولة التي ارتكبها الإنقاذويين بالإضافة إلى محاولة استنبات ماحدث بدولة مصر عقب 3 يوليو 2013 في تربة سودانية مختلفة. لكن هذا الفهم يجب أن لا يعفينا بأي حالٍ من الأحوال عن إعادة النظر في جدوى هذا التكتيك على ضوء مساعي المعارضة السودانية لبناء تجربة ديمقراطية مستدامة.
الواقع والرغبات الدفينة
1. تجربة الانتخابات العامة عقب انتفاضة أبريل المجيدة عام 1985 أعطت كل من أحزاب: الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية أكثر من 82% من مقاعد الجمعية التأسيسية البالغة 260مقعداً؛ وتلك أحزاب إسلامية بامتياز. إذ أنها رفعت الشعارات الإسلامية إبان زخم انتخابات 1986. فالأمة القومي طرح برنامج “الصحوة الإسلامية” وفاز بـ 100 مقعد والاتحادي الديمقراطي طرح “الجمهورية الإسلامية” وفاز بـ 63 مقعد، أما الجبهة الإسلامية القومية فقد طرحت برنامجاً إسلامياً صريحاً يؤكد على “تطبيق الحدود” وأن “الإسلام هو الحل” وفازت بـ 51 مقعداً، بينما لم تُجرى الانتخابات في 41 دائرة انتخابية بسبب ماعُرِّف وقتها باسم “حرب الجنوب”،
2. الواقع السوداني الآن عقب أكثر من 28 عاماً على آخر انتخابات حرة ونزيهة بالسودان قد مال أكثر لصالح الإسلام السياسي، وذلك حسب الحقائق التالية:
أ. فترات الحكم الشمولي تحدث تدهوراً في مستوى الوعي السياسي وليس العكس،
ب. تنظيمات الإسلام السياسي إزداد عددها في الشارع السياسي السوداني. وهي تنظيمات ذات تمويل جيد وقدرات تنظيمية أفضل بكثير من قوى المعارضة غير الإسلامية (اصطلاحاً)، ويكفي في هذا الصدد مقارنة قدرة أي فصيل إسلامي على الحشد والتعبئة منفرداً، مع قدرات قوى الإجماع الوطني (اصطلاحاً) على الحشد والتعبئة، لا سيما بدون حزب الأمة القومي،
ج. إزدياد التصوف في أوساط طلبة الجامعات، سيما الشيوخ الحداثيين (اصطلاحاً)، أو الذي “محايتو بيبسي وحواره جكسي”، وقيام شيخ الأمين مثلاً، بدور سياسي في إطار الديبلوماسية الشعبية، في ظهور بارز لنفوذ وسطوة الإسلام الصوفي. في نفس السياق احتفى تحالف جبهة القوى الثورية السودانية (تحالف كاودا) بتوقيع الشيخ يوسف الكودة (أحد الشيوخ السلفيين) على ميثاق الفجر الجديد أيما احتفاء… ناهيك عن انبثاق ونمو (الحسينيات) الشيعية،
د. يوجد الآن تعطش حقيقي في أوساط المسلمين السودانيين لتقديم فقه إسلامي جديد يدعم مسار الديمقراطية والانتخابات والتداول السلمي للسلطة واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، أي بناء تجربة ديمقراطية مستدامة. فالسودانيون بسبب طبيعة ثقافتهم وتقاليدهم وقيمهم الحاكمة وتجربتهم مع الحكم (الإنقاذوي) لمدة تجاوزت 25 عاماً، هم الأكثر تأهيلاً بين كافة شعوب الأرض لتقديم هذا الفقه الإسلامي الجديد… النظر لضخامة ونوعية المنتج الفكري والسياسي السوداني حول علاقة الدين بالدولة، قياساً إلى عدد المسلمين في السودان، مقارنةً بمنتوج الآخرين في العشرين سنة الأخيرة، يبدو كافياً لتعضيد هذا الرأي،
التفكير الرغائبي أو الرغبات الدفينة على صعيد القاعدة الجماهيرية للمعارضة وبعض التصريحات الشعاراتية المنشورة تقول بتكتيك تجميع الإسلاميين في سلةٍ واحدةٍ، بحيث يسهل من بعد ذلك رميهم في مزبلة التاريخ؛ لكأن سهولة كنسهم تُغرينا بتقويتهم حتى ننتصر لذواتنا التي لا ترضى بمنازلة الضعيف (الهُوِّين)! في الواقع هذا محض تفكير تعويضي يُعبِّر عن الرغبة في التخلص من الإسلاميين، لكنه وفي الجانب الخطير منه ينبئ عن انفصال عن الواقع النضالي وفروضه المطلوبة كتعويض عن عدم القدرة على الإنجاز. ففي ذات الوقت الذي تُؤدي فيه عدم القدرة على الإنجاز إلى تغذية نزعة الانتقام بأكثر من تغذية الرغبة في الإنجاز، تتراجع الرغبة الحقيقية في بناء تجربة ديمقراطية مستدامة إلى الخلف… قيادات المعارضة (تحالف كاودا وقوى الإجماع الوطني) تبدو مدركة لسطوة التيار الإسلامي على قلوب وعقول السودانيين، فمطالبة تحالف كاودا في وثيقة الفجر الجديد أن تكون مدة الفترة الانتقالية 6 سنوات ومطالبة قوى الإجماع بفترة انتقالية مدتها 3 سنوات، تحكيان عن مستوى الوعي في أوساط قوى المعارضة بذلك النفوذ الإسلامي، لكنه للأسف الشديد وعيٌ محدود طالما كانت قاعدة المعارضة تتبنى تكتيك تجميع الإسلاميين في سلةٍ واحدةٍ وتجد دعماً بالسكوت أو بالإشارة أو بالتصريح لمثل هذا السلوك. يؤكد ذلك على عدم قدرة وعي المعارضة على إدراك الفارق بين الجهد المطلوب منه (كمعارض واعٍ) في مكافحة ومخاتلة عدد محدود من الإسلاميين ومقارعة أعداد كبيرة منهم، بسبب عدم إدراكه لأهمية اصطياد أي فرصة لزيادة (تعظيم to maximize) قدرات المعارضة وتغيير موازين القوى لصالحها، ناهيك عن عجز قيادة المعارضة على الاشتغال المباشر على أسباب سطوة الإسلاميين على عقول وقلوب السودانيين، بسبب نفور بعضها من ذلك أو حتى بسبب عدم قدرتها على الاشتغال عليه، الأمر الذي يؤدي في النهاية للمفاضلة بين “نهج الصحوة” أو “الجمهورية الإسلامية” أو غيرهما، ومن ثم تكرار الحلقة الجهنمية إلى مالانهاية… فهل ثمة ضوء في آخر النفق؟
أول الغيث قطرة
إن إطراد خروج الإسلاميين على حزب المؤتمر الوطني الحاكم يصب في (تعظيم) قدرات المعارضة ورُجحان كفة ميزان القوى لصالحها، طالما بُذلت التطمينات المطلوبة للخارجين من المؤتمر الوطني عبر تبني وإقناع قاعدة المعارضة بجدوى عملية الحقيقة والمصالحة Truth & Reconciliation الجنوب الأفريقية، بقولبة سودانية تخرج بالبلاد من عنق الزجاجة الحالية. من السهولة بمكان توصيف خروج الإسلاميين على المؤتمر الوطني الحاكم بأنه هروب من السفينة الغارقة، تماماً كما يفعل البشر والجرذان، لكنه أيضاً من الصعوبة بمكان توصيف تخلي عناصر أكاديمية لامعة مثل بروفيسور الطيب زين العابدين أو صحفية مرموقة مثل عثمان ميرغني بالهروب من السفينة الغارقة، إذ قدم هؤلاء وكثيرون غيرهم خدمات جليلة لصالح بناء تجربة ديمقراطية مستدامة بأكثر مما قدمه بعض المحسوبين على المعارضة. رغم أن كلاً من بروفسور الطيب زين العابدين والصحفي عثمان ميرغني، كانا يوماً ما في صفوف إسلامويي الحزب الحاكم. بل كان بإمكانهما كنز الأموال والنجاة بجلديهما إلى مهارب دول شرق آسيا مثلما فعل آخرون. الإثنان هما مجرد نموذج لآخرين ظلوا بداخل البلادوانشقوا من الحزب الحاكم وبادلوه العداء وساهموا بتحريك المياه الراكدة عبر حراك ملموس، بل قال بعضهم بعدم ممانعته في الذهاب إلى المحاكم وأن المخرج الحقيقي للأزمة الوطنية يكون عبر التنسيق مع المعارضة… أليس من باب أولى أن يدفعنا ذلك إلى التركيز أكثر على هدفنا في بناء تجربة ديمقراطية مستدامة؟ إلى توفير مطلوبات التغيير المنشود؟ أليس للتغيير المنشود مطلوبات تغيير في النفوس والخطط والآليات لإحداث تغيير حقيقي وناجز؟ ثم، وهو الأمر المهم، ألا يمثل إطراد خروج الإسلاميين من عباءة المؤتمر الوطني تغييراً في المواقف ومُعطياً جديداً في المعادلة السياسية ينبغي أن نُحسِّن استخدامه لصالح تعظيم قدرة المعارضة وفرصها في إحداث التغيير الحقيقي وتقليل تكلفته البشرية والمادية، عبر الوقوف حائط صد أمام وحدة الإسلاميين. فمن الملاحظ أنه في حين أن كل العوامل الموضوعية والذاتية تدفع باتجاه المزيد من الخروج من عباءة المؤتمر الوطني زرافات ووحدانا، يدفع المؤتمر الوطني باتجاه وحدة الإسلاميين (ترهيباً) بناءً على عامل وحيد هو تنامي نزعة الانتقام وروح الثأر القبلي والسياسي تأسياً بما حدث في دولة مصر بعد 3 يوليو 2013…
لا غرو من خروج الإسلاميين المُطرَّد من عباءة حزب المؤتمر الوطني الحاكم إزاء عدم جدية دهاقنة الفساد والاستبداد في التغييير، رغم دفعهم للجنوبيين دفعاً لتبني خيار الإنفصال عن السودان في استفتاء تقرير المصير عام 2011، ورغم مجزرتيهم المؤسسستين لسلطانهم: مجزرة الفصل السياسي من العمل المدني باسم “الفصل للصالح العام” ومجزرة ضباط رمضان “حركة الخلاص الوطني” في عام 1990. في الواقع بدون هاتين المجزرتين المؤسستين في وسط وشمال وشرق السودان؛ فالفشل نصيب خطة “التمكين” الإسلامية، بل العجز عن ارتكاب مجازر وجرائم أخرى في عموم السودان، لا سيما ماحدث في مناطق دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق… المهم إن ذلك كله قد حدث، فإما أن نتعلم منه مايدفعنا إلى مستقبل مزدهر، أو نغرق فيه بكاءً على الأطلال ومطاردة لثأرات قبلية وسياسية متبادلة لا تُبقي ولا تذر، لأنها ببساطة تتحول تدريجياً إلى ثأرات قبلية وسياسية داخل القبيلة الواحدة، بل داخل الحزب الواحد…
تكتيك عدم وحدة الإسلاميين يمهد الطريق لحل جذر الأزمة
أولا: فوائد عدم وحدة الإسلاميين على التيار الإسلامي
1. تطور أصول الفقه والفقه الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين؛ إنما يُعزى أساساً إلى تعدد الفرق والمذاهب الإسلامية في أجواء متسامحة مع العلم، حتى صار إلى القول الدارج “اختلاف الفقهاء رحمة”؛ وعدم وحدة الإسلاميين يتيح لأصحاب الملكات الفكرية منهم العمل على تطوير أصول الفقه والفقه دون غطاء مركزي ثقيل،
2. يحتاج الإسلاميون السودانيون إلى تقديم صورة جديدة عن أنفسهم تؤكد على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان؛ مع استحالة تحقيق ذلك في إطار مركز إسلامي واحد، فقد جربوا ذلك من قبل ثم تمردوا عليه. من جانب آخر، فإن توزع الإسلاميين على عدد من الأحزاب والحركات والمنابر الإسلامية، يخلق أجواءً من التنافس الإيجابي، بما يُطوِّر فقهاً إسلامياً توافقياً يؤمن حقيقةً بالعملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والحريات العامة وحقوق الإنسان،
3. سوف يُجنِّب ذلك الإسلاميين السودانيين (خاصةً تيار الإخوان المسلمين) مخاطر خلق استقطاب مقابل بالضد منهم يعود بالضرر عليهم وعلى عموم البلاد، فقد انتهينا مباشرةً إلى زمنٍ صار فيه لكل فعلٍ رد فعل وتداعيات إقليمية ودولية، فعليهم أخذ العبرة العقلانية من درس مصر عقب 3 يوليو 2013ومصائر رصفائهم بها. ذلك مطلوب بشدة، رغم المُعطيات المحلية لفروقات المناخ بين القاهرة والخرطوم، بل رغم أن الظروف غير الظروف والملابسات غير الملابسات والشعب غير الشعب والوعي غير الوعي والسودان غير مصر… فقد تشتبك الدوائر المحلية والإقليمية والدولية على رأس الخرطوم،
4. عدم وحدة الإسلاميين سوف يمنع توطيد الاجراءات الاستثنائية وهيمنة النزعة المركزية وشيطنة الآخر وإزدياد النزاعات العنيفة بما يهدد كيان الدولة السودانية، بالمقابل وحدتهم لا تخدم قضايا الإسلام؛ بل سوف تضيف وصمة عار جديدة إلى الإسلاميين السودانيين،
ثانياً: فوائد عدم وحدة الإسلاميين على المعارضة السودانية
1. وصولاً لهدف المعارضة السودانية لبناء تجربة ديمقراطية مستدامة فإن الخيار أساساً بين توطين الديمقراطية كثقافة وممارسة في أوساط الشعب السوداني وبين تكرار التجارب السابقة. ولما كان التيار الإسلامي بتنويعاته على نفس نغمة الإسلام هو صاحب الوزن السياسي الأكبر في السودان، فإن المطلوب حالياً هو تطوير أصول فقه وفقه إسلامي متوافق استراتيجياً مع العملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان. إمكانية تحقيق ذلك بدون تكلفة بشرية ومادية باهظة وغير مضمونة العواقب، تتوفر في الوقوف ضد وحدة الإسلاميين، وذلك منعاً للاستقطاب والاستقطاب المضاد ولأجل التطوير المنشود للفقه الإسلامي،
2. عدم وحدة الإسلاميين تؤدي إلى تقليص فترة الأزمة السودانية الشاملة، لأن عدم الوحدة يؤدي ببساطة إلى عمليات مُطرَّدة من الاصطفاف وإعادة الاصطفاف تؤدي بالنتيجة إلى تعظيم قدرات المعارضة للقيام بالتغيير المنشود. في الجانب المقابل يطيل تجميع الإسلاميين في سلةٍ واحدةٍ من أمد الأزمة ويزيد من معاناة الشعب المرهق أصلاً،
3. عدم الإنجراف وراء التفكير الرغائبي جراء جرائم الإنقاذويين المهولة بمحفزات الثأر القبلي والسياسي إزاء عدم القدرة على إلحاق الهزيمة بهم، بما يؤدي إلى الإنحراف عن المبادئ النبيلة للثورات عبر التاريخ الإنساني، بما في ذلك الهدف الرئيسي للمعارضة السودانية في تكريس تجربة ديمقراطية مستدامة، بعيداً عن روح الانتقام والتشفي وتلبية النوازع والرغبات الشخصية الضيقة،
4. تجنيب دولة السودان مصائر دولة مصر التي أزالت حكم الإخوان المسلمين تحت دعم إسلاميين آخرين منهم: حزب النور السلفي وحكومة المملكة العربية السعودية (على سبيل المثال)، فلم تحل إشكالية علاقة الدين بالدولة ولم تُطوٍّر فقهاً جديداً ولم تحقق الاستقرار ولا تبدو في الأفق القريب احتمالات إيقاف الاستقطاب الحاد والعنيف بداخل معظم المحافظات والمدن المصرية،
بذا، فالضرورة القصوى تحتم علينا التنبيه إلى عدم تكرار مغامرة (العلمانيين) السودانيين عبر تجربة 25 مايو السودانية، التي استمرت لمدة 16عاماً أو عبر تجربة (الإسلاميين) السودانيين التي استمرت 25 عاماً حتى الآن. الاختراق الأكثر حيوية يكمن في اقتراح أصول فقه وفقه جديدين يمهدان الطريق لتجربة ديمقراطية مستدامة، بينما التكتيك الآني الأمثل يتلخص في منع وحدة الإسلاميين. معاً ليكون شعار المرحلة “منع وحدة الإسلاميين فرض عين على كل مسلمٍ ومسلمة، وكل علماني وعلمانية”، خاصةً (العلمانيون) منهم؛ سواءً أكانت (علمانيتهم) منسوبة إلى العلم، أم منسوبة إلى العالم.
علاء الدين علي أبومدين محمد، كاتب سوداني
[email protected]