منذ القدم أدركت البشرية، العلاقة المباشرة والصلة الوطيدة بين العنف المجتمعي وغياب العدالة سيما الجنائية، فإن تحّول هذا الغياب إلى تغييب ممنهج، فإنّ نتائجها بلا شك ستكون كارثية على المجتمعات. تصرفات الحكومة الإنتقالية حيال موبقات نظام الإسلاميّن المقبور، محسوبة بحسابات دقيقة للغالية، لذا من الملاحظ رغم قِصر فترة صلاحياتها أنّها تتحرك ببطيء ولمسافات طويلة في المناطق الرمادية، وكأنها طفل يحبو في دهاليز السياسية، تخشى السقوط الإنتقالي، وتهاب مؤامرات الأيدي الخفية، إن أقدمت فلإقدامها حساب، وإن أبطأت وترددت، فأيامها محسوبة دستورياً. فقد كلّفت مذكرات التوقيف الصادرة بحق البشير ومعاونيه السفاحين، كلفت المنظومة البائدة الكثير سياسياً وإقتصادياً، فكم تكّلف الحكومة الإنتقالية المماطلة أو عدم تسليم المطلوبين دولياً للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؟
عندما نقول تتغير الأنظمة، وتتعدد الحكومات المركزية والمزاج واحد، لن نتجنى على أحد، وإلاّ كان تسليم المطلوبين الدوليين من رموز النظام السابق للـ ICC، هو أول قرار تتخذها الحكومة الإنتقالية فور تشكيلها، وها هي تشارف عامها الأول، ولا تزال الضبابية سيّد الموقف بشأن التسليم من عدمه، ولا شكّ أن هذا الغموض سبب مباشر في عدم الثقة بين الضحايا والحكومة الإنتقالية.
ففي فبراير من هذا العام، أعلن السيد محمد حسن التعايشي، عضو المجلس السيادي، مسئول محور دارفور بمفاوضات السلام بجوبا، أنهم قد إتفقوا وإلتزموا مع الحركات المسلحة المفاوضة على ضرورة مثول الذين صدرت بحقهم أوامر قبض أمام المحكمة الجنائية الدولية، وتشكيل محكمة خاصة للتحقيق وإجراء المحاكمات بما في ذلك القضايا الجنائية الدولية، في اليوم التالي، صرّح وزير الإعلام المتحدث باسم الحكومة الإنتقالية، فيصل محمد صالح، أنّ الخرطوم لم تتواصل ذلك الحين مع المحكمة الجنائية الدولية بشأن كيفية مثول الرئيس المعزول عمر أمامها، مشددا على أن كل الاحتمالات مطروحة. موضحا، لا زالت المشاورات مستمرة حول طريقة مثول جميع المطلوبين.
إلاّ أنّ الناطق باسم الحكومة الإنتقالية أشار في ذلك المؤتمر الصحفي، إلى أنّ وفد الحكومة السودانية المفاوض توافق في جوبا مع الوفد المفاوض للحركات المسلحة في دارفور على تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يفّسر أنّ الوفد الحكومي المفاوض بجوبا، منقوص الصلاحية في هذا الأمر.
فرح الناس بذلكم الإعلان، وملأوا أيديهم بذلك الإلتزام، قبل أن يدركوا أنها كانت بمثابة “قشّة فّخة” لمّا إستدركوا أنّ المثول ليس بالضرورة أن يكون في لاهاي، وزاد هذا التصريح من وزير الإعلام، غموض أمر تسليم رأس النظام البائد ومعاونيه إلي الـ ICC ضغث على إبالة، فالإعلان غامض، بيد أنه لا يوجد غموض في أنّ المكوّن العسكري من المجلس السيادي، هم من يعرقلون قرار التسليم، بذرائع غير مقنعة، مفهومة للمراقب الحصيف، ومعروفة للشارع الثوري كذلك.
ولا شك أنّ الممانعين من جنرالات السيادي، يدركون أنّهم بهذا الموقف المريب، يلعبون بنار الثوار، قبل شعارات ثورة ديسمبر المرتكزة على الحرية والسلام والعدالة، فهم يدركون أن لا سلام بدون “تسليم” المطلوبين دولياً، ولا عدالة بدون مثولهم لدى الـ ICC في لاهاي، بيد أنهم بلا شك غير مبالين أنّهم في طريق إرتهان مصير البلاد ومستقبلها بمصير هؤلاء القتلة القساة، على غرار ما إتخذ السفاح المخلوع، فقد أكّد قانونيون عدول، إستحالة مثول المطلوبين دولياً أمام محققيّ الـ ICC داخلياً، لإستحالة توفير الحماية الضرورية للشهود، في ظل التركة الثقيلة من الإستقطاب الجهوي والإثني والعقائدي التي خلّفها النظام البائد.
بسبب ملف مطلوبي الـ ICC لا يزال السودان في مفترق طرق، إمّا أن تكون دولة محترمة ومتعاونة مع الأسرة الدولية، وإمّا أن تظل كما هي دولة مارقة تحمي “عتاولة” المجرمين، وتتواطأ مع المطلوبين دولياً، سيما أنّ النائب العام تاج السر الحبر قد أكّد عدم وجود نصوص في القانون السوداني تجّرم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، في حثّ ضمني منه بالتسليم إلى الـ ICC وهو قرار سيادي وسياسي وليس قضائي بحت، ومما يمكننا قوله دون تردد أنّ الحكومة الإنتقالية، بهذا الموقف الضبابي من أمر التسليم تستهتر بأرواح مئات الآلاف من شهداء الإبادة الجماعية، وتظهر اللامبالاة بالآلام المستمرة للملايين من الضحايا، وأنّها لا تواري تعاطفها المخزي مع هؤلاء المطلوبين دولياً.
لإعتبارات الجهويّة والعصبيّة الإثنية، والتحّيز المهني (عسكر)، بالإضافة إلى تقاطعات التهم الموجهة للمطلوبين دولياً مع صحائف بعض ممن هم على سدة الشق العسكري من المجلس السيادي، والمجلس القيادي لقوى الحرية والتغيير، لكل ما سبق نستبعد إنفاذ عملية “التسليم” خلال الفترة الإنتقالية، الأمر الذي يجعلنا نشكك في إمكانية الوصول إلى سلام عادل، ما لم يمارس ضغط ثوري عارم، وتحريض دولي بعدم التعاون مع الحكومة الإنتقالية قبل تسليم المطلوبين دولياً إلى لاهاي، سيما وأنّ النائب العام تاج السر الحبر، ذكر في تصريحه عقب مثول على كوشيب أنّ هنالك عدة عقبات في طريق تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تشمل انتظار نتائج المفاوضات محادثات السلام الجارية الآن، وتعديل الدستور، إضافة للقرارات السيادية المتعلقة بذلك، والأخيرة هذه هو مربط الفرس. إذ أن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك صرّح للبي بي سي في أكتوبر الماضي أنّ القضاء هو من سيحسم تسليم البشير إلى الجنائية الدولية من عدمه، وأن هذا القرار لن يكون سياسيا، وها هو النائب العام يعيد له الكره إلى ملعبهم، سيادياً ودستورياً.
الذين تابعوا ردة فعل الضحايا، وأهاليهم تجاه مثول القاتل المأجور علي كوشيب، يدركون عظمة جرائمه التي إرتكبها في حقهم إنصياعاً لنزعات نفسه الأمّارة بالسوء، ودواخله المترعة بالشر المطلق، وطمعاً في مزايا دنيوية رخيصة وعابرة تحصّل عليها من أولياء نعمته، الذين كانوا يرونه مغفّلا إلى أن فاجأهم بمثوله الطوعي لا شك أنه طامعاً في الإستفادة من المادة 110 من نظام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بتخفيف الحكم على المدان حال تعاونه إيجابياً معها.
وبلا شك أنّ مثول علي كوشيب بهذه الطريقة الماكرة، سيصعّب من إمكانية إنهاء غموض أمر تسليم بقية الثلاثة الكبار، البشير وعبد الرحيم حسين وأحمد هارون، ويعزز من فرضية جنوح جنرالات السيادي إلى الشمولية التي تمكنهم من الإستمرار في المماطلة وحبك ذرائع تهويلية لأمر “التسليم” ومن ناحية أخرى بلا شك أنّ إفادات على كوشيب خلال إستجوابه مستقبلاً، سيوحد إصرار الضحايا على أمر “التسليم”
نناشد اخوتنا الثوار المفاوضين في مدينة جوبا، إعادة فتح هذا الملف، لأننا نعتقد أنهم قد خدعوا وخدّروا بإعلان الإلتزام بمثول المطلوبين دولياً لدى الـ ICC، ذلك يقيننا أن أسر الضحايا لن تتنازل قيد أنملة عن مطلب “التسليم” وليس المثول كيفما إتفق، ويقيننا لا يمكن تحقيق سلام عادل قبل تحقيق العدالة الجنائية في رموز النظام البائد، ولا نظن أن هناك ثائر شريف مستعد للتوقيع على إتفاق سلام منقوص العدالة، ومن يرى غير ذلك، ثكلته أمه، ولاحقتهم لعنته معسكرات اللجوء والنزوح القسري على إمتداد الإقليم المنكوب بمكر الحكومات المركزية.
بلا أدنى تردد، يمكننا القول، أن ثمن حماية المطلوبين دولياً، سيكون تعثر السلام، وإطلالة شبح الحرب، وتزايد الشرخ الإجتماعي، وتسيس الشأن العدلي، وإنتكاسة مساعي الإصلاح القضائي، فهل الحكومة الإنتقالية مستعدة لدفع هذه التكاليف؟ ومن أجل ماذا ولصالح من؟
//إبراهيم سليمان//
30 يونيو 2020م