صوت من الهامش
من أكثر الحِكَم والأمثال الشعبية تداولا، النيّ للنار، والمتفق عليه لدى الأكاديميين، البدايات الخاطئة، تقود بديهياً إلى نتائج خاطئة، وقديما قيل، الشاطر من إتعظ من أخطائه، والحكيم من إعتبر بغيره، واللوم كل اللوم من يُلدغ من جحرٍ واحدٍ أكثر من مرة، ويكفي من العناد، تجريب المجّرَب.
ليس هنالك مصوغ، لعزل المجلس الأمني الإنقلابيّ، بقيادة السفّاح عبد الفتاح البرهان، وحليفه المجرم الجنرال المليشي محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن المستنقع الدموي للمشير القاتل عمر البشير، ومنظومة حكمه القائمة على السحل والبطش والإبادة الجماعية للأبرياء العزّل، هذا الخطأ المستمر، هو أُس أزمة قوى الحرية والتغيير منذ فجر 11 أبريل، يوم أن أزيح رأس النظام السابق عن سدة الحكم، خلال مسرحية سيئة السبك وردئ الإخراج، فالمعلوم بديهياً، أنّ المجلس الأمني الذي كونه المشير البشير، في أواـخر أيامه، قوامه أقذر القيادات العسكرية والأمنية، ممن لُقنوا أساليب الغش والخداع ونقض المواثيق، وتشربوا بعصارة المراوغة وأتقنوا فنون اللف والدوران، وأدمنوا سفك الدماء، واعتادوا على البطش والسحل، في نظر هؤلاء، الحوار يعني لهم كسب الوقت، والتفاوض، عندهم لعبة عديمة الضوابط والأخلاق، ومصير الإتفاقيات بالنسبة لهم، أن يبلّها الخصم، ويشرب مويتها.
نظام الإنقاذ الذي تربى جنرالات المجلس الأمني الإنقلابي في كنفه، وقّع ما يصعب حصرها من إتفاقيات مع خصومهم السياسيين والمسلحين، بضمانات دولية ورعاية إقليمية، ولم يلتزموا إلتزاماً تاماً بواحدة منها، فما الذي يدفع قوى الحرية التغيير للتعويل على تطمينات البرهان وحميدتي بعدم فض الإعتصام بالقوة، و أخذ إتفاقهم معهم بشأن هياكل السلطة الإنتقالية محمل الجد؟
تمّكن تجمع المهنيين، بصورة أقرب للمعجزة من تنظيم الشباب الثائر، وتحريك الشارع السياسي في ديسمبر الماضي، وبشعار واحد موحد# تسقط بس، نجح الثوار في زلزال الأرض تحت أقدام المشير المخلوع، فما الداعي لتغيير هذا الشعار بالتفاوض، في الوقت الذي لم يتغير فيه شيئا في أرض الواقع إلاّ شكليا، ولم تتغير هِمة الشباب في إستئصال شأفة الظلم والقهر والإستبداد؟
لم يخّيب المجلس الأمني الغدّار، آمال السفاح المخلوع الذي كلفهم بمهمة مواصلة مشوار الغدر والسحل والتنكيل بالشعب السوداني، إذ غدر هؤلاء الوكلاء النزقين بالمعتصمين العزل، في الثالث من يونيو وفي خواتيم الشهر الفضيل، وأبادوهم شر إبادة، مع سبق الإصرار والترصد، في أبشع جريمة مما عرفتها الإنسانية، ظننا أنّ هذه الجريمة الشنعاء، تعيد قوى الحرية والتغيير إلى صوابها، برفض التفاوض مع هؤلاء الأوباش مبدئياً، والعودة إلى شعار # تسقط بس المجرّب، إلاّ أننا نراهم قد إكتفوا بالمطالبة بإجراء تحقيق دولي بشأن المذبحة، والقبول بالتفاوض غير المباشر مع القتلة، حتى قبل حصر عدد الشهداء، ناهيك عن مواراة جثامينهم الطاهرة الثرى.
ماذا يتوقع قوى الحرية التغيير من هؤلاء، غير الغدر والخيانة والتنّصل عن المواثيق؟ باسم من يقبلون هؤلاء القتلة كشركاء في المرحلة الإنتقالية؟ لا نظن أنهم مرغمون لا أبطال، ونحن ندرك مقدار السند الجماهيري الذي يتمتعون به، وأنّ الشعب السوداني بطول البلاد وعرضه لا يزال رهن إشارتهم، إن كان هنالك إحتمال ولو بقدر ضئيل، أن يلتزم هؤلاء الكَذَبَة بما سيتم التوصل إليها من إتفاقيات مستقبلا، لوجدنا لهم العذر، لكننا على يقين أنهم يجربون المجّرب، وأنّ هذه الجوقة الأمنية ستستمر في التلاعب بهم، وتراهن على الزمن لإكتساب الشرعية، وينتظرون أن تفلّ عزيمة الشباب الثائر، وأن تتسع الشقاق بين مكونات المعارضة، وأن ينصرف المجتمع الدولي عن الإهتمام بالشأن السوداني لشأن دولي مستجد، حينها سيخرون للشعب عراة في السهلة.
لماذا يتساهل قوى الحرية والتغيير في التعامل مع المجلس الأمني، بعد مذبحة إعتصام القيادة العامة؟ ولِمَ تعّول على التفاوض مع مجلس منقسم على نفسه، ومرتهن قراره لمصالح إقليمية وقِوى دولية؟ التفاوض لم يكن خياراً لدى تجمع المهنيين مع السفاح البشير، فلماذا الإصرار عليه مع وكلائه الأمنيين؟ الذين أثبتت تصرفاتهم بصورة لا يدع مجالاً للشك أنهم لم ولن يكونوا شركاء في الثورة، هذا ما لا يدخل العقل السليم، وما يتجافى مع منطق الأشياء، الذي يفرض الإصرار على إسقاط هذا المجلس الأمني بكامل شخوصه ومنظومته، لأننا على يقين، بعد هذه التضحيات الجسام، لن يقبل الشعب السوداني الأبيّ بنصف ثورة، وأنّ هؤلاء الجنرالات القتلة، قد آلوا على أنفسهم، وتعهدوا لمن كلفوهم بالمهام الأمنية، بأن المحاسبة والعقاب على جرائمهم لن يحدث قبل قتل ثلثا الشعب.
ماذا يُنتظر من التحقيق الدولي بشأن المذبحة، إذا تم، وتمت إدانة المجلس الأمني الإنقلابي، وقد أصدرت محكمة الجنايات الدولية من قبل مذكرات توقيف بحق رأس النظام المخلوع، وأربعة من رموز نظامه المتداعي؟ وظل المشير السفاح، يجوب العالم طولاً وعرضاً، دون أن يزعجه أحد إلاّ ما ندر! وقد أدين قبيل سنوات، الإنقلابي المصري عبد الفتاح السيسي بسبب مذبحة رابعة العدوية، لم ولن يحدث شيء، وهذا الشرط لا يعدوا أكثر من كونه حفظ ماء الوجه، لأن بعض مكونات قوى الحرية والتغيير، كانوا على علم بقرار فض الإعتصام بالكيفية المأساوية التي تمت، ومنهم من ساهم في تهيئة مصوغاته الهزيلة، ولو بحسن نية، والأصح الإحتفاظ بهذا الحق، والتطلع لتحقيق العدالة لدى الحكومة المدنية القادمة بقوة عناد وإصرار الشعب الغاضب.
العودة المجيدة إلى شعار # تسقط بس، هو السبيل الوحيد والمجرّب، لإنتزاع السلطة كاملة من المجلس الأمني، دون مِنّة ودون رجاء مهين، والشعب مستعد لدفع الثمن مهما يكلف من دماء وأرواح، وليدرك تجمع المهنيين، أنّ فرص صمود المجلس الأمني الإنقلابي على سدة السلطة، شبه معدومة، مقارنة بفرص السفاح المخلوع في الإستمرار، فقد وقعوا في شرّ أعمالهم، بإرتكاب مذبحة إعتصام القيادة، وإستباحة العاصمة، والإصرار على التفريط المذل في القرار السيادي للبلد، وتسليم الشأن الأمني لقائد مليشيّ لديه سوابق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
على قوى الحرية والتغيير، ومن خلفها الشارع الثائر، أن يتمسك بشعار# تسقط بس، دون الحياد عنه، وعلى المجلس الأمني الإنقلابي البحث عمن يغض الطرف عن جرائمه، ويغفل عن نواياه المفضوحة ليتفاوض معه ليسلمه السلطة، نيابة عن الشارع الغاضب.
هم الآن يجلسون على كراسي من نار، وقودها الغضب المشتعل في قلوب امهات الشهداء وزملائهم الشباب، وعامة أفراد الشعب، فأنى يهربون من القصاص؟
للإطلاع على المقالات السابقة:
http://suitminelhamish.blogspot.co.uk