د. فيصل عوض حسن
اجتهد السيد/عمر الدقير في تطويع المُحَسِّنات البديعيَّة والفلسفِيَّة، في مقالته (النُّخبة السُّودانية وما تبقّى من رحيق)، المنشورة بصحيفتَي الجريدة والرَّاكوبة يوم 13 نوفمبر 2019، والتي قال فيها أنَّ النُخبةَ السُّودانِيَّة (انتدبت نفسها) لقيادة التغيير، رغم افتقادها لثقة الرأي العام وابتعادها عن نبض الشارع، وفشلها في توحيد وتنسيق جهودها وتكامُلها. وأكَّدَ إمكانِيَّة (استدراك/مُعالجة) تدهور مناحي الحياة في السُّودان، بالترفُّعِ عن الصغائر، وتخفيف النرجسيَّة السياسيَّة، وتطوير وسائل المُقاومة المُلائمة. واختتم مقالته، بمُناشدة (قُوَّى المُعارضة)، لإعلاء/تقديم الأمور الجوهريَّة على الثانويَّة، وإيقاف الصراعات البَينِيَّة والحوار الصادق والشَفَّاف، وتوجيه السهام من كل (الكِنَانات) نحو الهدف الصحيح الشاخص أمام الجميع.
للأسف الشديد، فإنَّ الموصوفين بـ(نُخَبْ) سُّودانيَّة، ومن ضمنهم السيد/الدقير، فشلوا في تجديد وتطوير فلسفاتنا ومُمارساتنا السياسيَّة، وظلُّوا في حالة (تَشَتُّتْ/تَوَهان)، ما بين مصالحهم الشخصيَّة وولاءاتهم الطائفيَّة/الكيانيَّة (الضَيِّقة)، ولم نشهد لهم أي إنجاز في ترسيخ ثقافة/مبدأ المنافع العامَّة، وتعزيز الاستفادة من تنوُّع السُّودان والمزايا التي يُتيحها هذا التنوُّع، واستلهام الدروس والعِبَرْ من التجارُب المُعاصرة. وكم تَمَنَّيتُ لو خرجت النُّخَب السُّودانيَّة، ولو مَرَّةً واحدة في التاريخ، من عَبَاءَاتِهم (الشخصيَّة/الطائفيَّة) ودخلوا في جُلْبَاْب الوطن الكبير، وجعلوا سَلَامَة السُّودان وتطويره هدفاً أوحد وحتمي، وتجاوزوا عمَّا دون ذلك، وقاموا بتسخير وتطويع معارفهم الأكاديميَّة وخبراتهم العمليَّة لخِدْمة السُّودان (كلٌ في مجاله)، وتحجيم سيادة الأمزجة الشخصيَّة والمُمارسات الفرديَّة، وتعزيز روح الجماعة والفريق الواحد، وتغيير التفكير النَّمَطي والتركيز على ما يُمكن تحقيقه، لكنهم فشلوا في هذا حتَّى الآن..!
بالنسبة للحِرَاك الشعبي الذي أدَّى لـ(اختفاء) البشير وبعض مُعاونيه، فقد خَرَجَ السُّودانِيُّون للشوارع بعَفَوِيَّةٍ شديدةٍ واجتهادٍ شعْبيِ خالص، يقودون أنفسهم ويحمون بعضهم بعضاً، بعدما يَئِسُوا من الكيانات المُتاجِرَة ونُخَبِها العاجزة/الفاشلة، ومن ضمنها كيان السيد/الدقير، الذي كان من أكبر الدَّاعين/المُروِّجين لانتخابات 2020، حتَّى بعد بدء الحِرَاك الشعبي (من الأقاليم) في 12 ديسمبر 2018، والتي لم يكترث لدعواتهم أحد، وواصل الشعب حِرَاكه بقُوَّةٍ كبيرة، وخلال 13 يوماً (يوم 25 ديسمبر 2018)، غَطَّت الاحتجاجات: الدمازين، الفاشر، بورتسودان، عطبرة، بَرْبَرْ، دُنْقُلَا، كريمة، كَسَلَا، الأُبَيِّضْ، القَضَارِفْ، الجزيرة أَبَا، كُوْسْتِي، رَبَكْ، سِنَّاْرْ، مَدَني/الهِلَاليَّة، النُّهُود، أُمْدُرْمَان، بحري والخرطوم، ويُمكن مُراجعة مقالتي (اَلْصَحْوَةُ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة: مَحَاْذِيْرْ وَمُتَطَلَّبَاْت) بتاريخ 22 ديسمبر 2018. وكان بالإمكان القبض على غالِبِيَّة (قَادَة) المُتأسلمين، إذا استمرَّ الحِرَاك بنفس القُوَّة والسُرعة، لولا الظهور المُفاجئ لتَجَمُّع المِهَنيين، الذي (فَرَضَ نفسه) كقائدٍ للحِرَاك دون استيفائه لمُتطلَّبات (القيادة)، والتي من أبرزها الفكر الاستراتيجي والمُؤسَّسيَّة و(التَجَرُّد/الصدق).
لم يحفظ تَجَمُّع المِهَنيين (الثقة) التي مَنَحها له الشعب، بقبول قيادته لحِرَاكه وسَارَعَ للتَحَالَفِ، (دون تفويض) مع الكيانات الانتهازِيَّة، وعلى رأسها الكيان الذي يَتَزَعَّمه السيد/الدقير، رغم أنَّنا تَجاَوَزنا تلك الكيانات وصَنَعْنا ثورتنا بعيداً عنها، بعدما اكتشفنا مُتاجرتها بأزماتنا دون مُعالجة (جذورها). وبمرور الأيَّام، تأكَّدنا تماماً أنَّ انضمامهم (الشكلي) للثُوَّار، عبر تَجمُّع المهنيين، استهدف تعطيل/إفشال الثورة، التي لاحَت مُؤشِّرات نجاحها في الأفُق! فما أن تَشَكَّلَت جماعة الحَرِّيَّة والتغيير (قحت) إلا وبدأت الربكة/الخلافات، وشَاهَدنا أسوأ صور الغَدرِ والانبطاح، حينما تَسَابَقت بعض مُكوَّنات قحت للتَفَاوُض (الانفرادي) مع المجلس العسكري، والسفر (خِلْسَةً) للإمارات وغيرها من مظاهر الخزي، وتَرَاجَعت التظاهُرات الشعبِيَّة التي غَطَّت 13 مدينة/منطقة في أقل من أسبوعين، لتُصبح فقط في (حَيَّيْنِ) اثنين أو ثلاثة من أحياء الخرطوم، عقب قيادة المِهنيين وحُلفائهم في قحت، و(تَقَزَّمَت) السقوف المَطلبِيَّة إلى (التَفاوُضِ) وقبول الفِتَات الإسْلَامَوِي، بدلاً عن (الإسقاط الكامل) للمُتأسلمين، وهي أمورٌ مُوثَّقة (صوت وصورة)!
قد يتَبَاهَى السيد/الدقير ومن معه من (انتهازيي) قحت، بأنَّهم صنعوا الاعتصام وقادوا التفاوُض، وغيرها من الإنجازات المزعومة. وفي هذا أقول، بأنَّ (التَفاوُض) لم يكن مَطلَب السُّودانيين أبداً، وإنَّما هو (خِيار) الانتهازِيين، الذين أتوا عبر المهنيين وفرضوه علينا (قَسراً/احتيالاً)، وعملوا على تزيينه وترويجه. وأمَّا الاعتصام، فقد أفشلته جماعة قحت عمداً، ولم يطرحوا أي استراتِيجيَّة نَّاضجة/واضحة لدعمه، ورفضوا جميع الأفكار التي قَدَّمها العديدون، ومن ضمنهم شخصي سواء بنحوٍ مُباشر أو عبر المقالات المنشورة، وعملوا على (إلهائنا) بتصريحاتهم الجوفاء وصراعاتهم (الهايفة)، وفي خضم ذلك هَرَبَ (قادة) المُتأسلمين مع أُسرهم للخارج، وتَراجَعت نِسَب/احتمالات استرداد أموالنا المنهوبة، وَوَجدَ الطَّامعون الخارجيُّون فرصة التَدَخُّل وتحوير خياراتنا، وزادت مُعاناتنا الاقتصادِيَّة والإنسانِيَّة والأمنِيَّة. والأخطر من ذلك، أنَّ الاعتصام تَسَبَّبَ في اقتناص/استهداف خيرة شبابنا (اغتيالاً وخطفاً/اعتقالاً)، سواء بنحوٍ فردي كما شاهدنا بصورةٍ يوميَّة، أو بنحوٍ جماعي كما جرى في (مَجْزَرَة) فَضِّه البشعة!
تَوَقَّعنا إيقاف التفاوُض تماماً عقب (المَجْزَرَة)، خاصَّةً مع استبداد/وقاحة وانحطاط العَسْكَرْ، واعترافاتهم (صوت وصورة) بارتكاب المَجْزَرَة، إلا أنَّ (انتهازيي) قحت تَجَاهلوا ذلك الإجرام، واستخفوا بالأرواح والأعراض السُّودانِيَّة، وواصلوا التفاوُض باسمنا و(تغييبنا) عَّما يجري في الخفاء، ودونكم إقرار (مدني عباس)، في ندوة مساء 14 يوليو 2019، حينما قال بالنص: أنَّهم تعاملوا مع الشعب دون شفافِيَّة! وعقب خروج السُّودانيين في مسيرتهم الشعبِيَّة (المليونِيَّة) يوم 30 يونيو 2019، تَوَقَّعنا أنَّ (انتهازيي) قحت، ومن ضمنهم السيد/الدقير، سيُغيِّرون نهجهم (المُخزي) ويُوقفوا مُفاوضاتهم العَبثِيَّة/الذليلة، لكنهم (فاجأونا) بخيانةٍ أعظم أسموها (اتِّفاق)، مَنَحُوا عبرها (الشرعيَّة) للمُجرمين، وحَصَّنوهم من المُلاحَقة والمُحاسبة والعقاب، وأغفلوا المليشيات ونَزْعِ أسلحتها وتسليم قادتها/أفرادها المُتورِّطين للعدالة، وإيقاف الارتزاق وتجارة البشر. كما أغفلوا شبابنا (المفقودين) الذين صنعوا هذه الثورة المجيدة بدمائهم وأرواحهم وأعراضهم، وتجاهلوا التغيير (المُتسارع) للتركيبة السُكَّانِيَّة والتجنيس العشوائي، وإعادة النَّازحين لأراضيهم الأصيلة وتعويضهم، واسترجاع الأراضي المُحتلَّة، وهيكلة القُوَّات النِّظامِيَّة وتعديل القوانين/التشريعات، وغيرها من الجوانب التي لا يسع المجال لتفصيلها.
لقد أضاع السيد/الدقير ورُفقائه (الانتهازيين) بجماعة قحت، الفرصة التاريخيَّة الوحيدة التي (اتَّحَدَ) فيها السُّودانِيُّون، على اختلاف مناطقهم وأعمارهم وعقائدهم وأعراقهم، رغم الأزمات الإسْلَامَوِيَّة (المُتراكمة)، وكان بالإمكان إعادة بناء السُّودان على أُسُسٍ إنسانِيَّةٍ وقانونِيَّةٍ وأخلاقِيَّةٍ وعلميَّةٍ سليمة، لولا (انتهازِيَّة) ما يُسمَّى كيانات و(نُخَبِها) الفاشلة/المُتآمرة، وأصبحنا نحيا واقعاً مُختلاً يصعُب التَنَبُّؤ بمآلاته ونتائجه النهائِيَّة. فالدقير ومن معه، أجروا (صَفْقَة) لتقاسُم السُلطة والثروة، ولا علاقة لفعلتهم هذه بالانتقال الديمقراطي وإعادة بناء السُّودان، وتنمية إنسانه وتحقيق رفاهيته وسلامته!
إنَّ ما يُزيد جراحات السُّودانيين (سخونة)، ويُعمِّق إحساسهم بـ(الاشتراك) في الفشل، أنَّهم (وَثَقوا) في الدقير ورُفقائه انتهازيي قحت، الذين (خانوا) العهد واتفقوا مع القَتَلَة/المُجرمين، ومنحوهم (الشرعِيَّة) التي كانوا يفتقدونها، و(تَلاعبوا) بالوثيقة، و(تَنَكَّروا) للوعود، ثُمَّ بدأوا يتضايقون من مطالب الشعب (المشروعة) في المُحاسبة و(القصاص)، ويحثُّونه على الصمت والقبول بالانحطاط، على نحو ما رأينا في مقالة الدقير المُشار إليها أعلاه، ومن سبقه من (الانتهازيين)، عبر (مَوْجَة) النصائح المُتصاعدة هذه الأيَّام.
بدلاً من هذه التَدَثُّرِ بثوب النصيحة، ليت الدقير ومن شايعه، يُكَفِّرون عن (خيانتهم) التاريخيَّة للسودان وأهله، بإيقاف تحالفاتهم المُخزية مع (المُتأسلمين) وأزلامهم من العَسْكَر و(المُرتزقة)، و(انبطاحاتهم) المُخجلة مع الطَّامعين الخارجيين، ويقوموا بأدوارهم (الأخلاقِيَّة/الإنسانِيَّة) الأصيلة، ويكملوا الثورة المُباركة لتبلغ أهدافها المرجوة، وليعلموا بأنَّ دورهم آتٍ لا محالة، وأنَّ العَسْكَر وسادتهم بالخارج سليفظونهم حال اكتمال مُخطَّطاتهم، فقد تَعَلَّمنا من التاريخ أنَّ (الفَجَرَة) لا أمان لهم ولا عهود.