سيف الدولة حمدناالله
أكثر ما يؤلم المرء أن يمضى الدكتور أمين مكي مدني من هذه الدنيا قبل أن يشهد نهاية هذا النظام وبذوغ شمس الحرية الذي أفنى عمره من أجل تحقيقه، ومثل هذا الخاطر ظل يُلازمني كلما صعدت روح واحد من أبطالنا الذين إستبسلوا في وجه هذا النظام التعيس من مُفكِّرين وشعراء ومُبدعين وسياسيين وأشخاص غير موصوفين من دائرة معارفي الشخصية، وقد كتبت شيئاً من هذا المعنى قبل بضعة سنوات عند وفاة زميلي وصديقي طه أحمد طه سورج الذي كانت هموم الوطن قد أثقلت قلبه حتى توقّف عن الخفقان، ويومها قلت لو أن الأيام قد أمهلت “طه” حتى شهد نهاية النظام، لسلٌم عنقه بنفسه لمَلَك الموت، فالإنقاذ لم تترك له ولأمثالنا من أترابه سبباً يجعلنا نتمسك بالحياة بعد زوال النظام، فنحن من الجيل الذي قضت الإنقاذ على آماله وأحلامه قبل أن تنطلق صفارة البداية، ولم يبق لنا شيئاً يُذكر من العمر لنتذوق به طعم الحياة، فأصغر أبناء هذا الجيل على بُعد نصف خطوة من القبر، ومع ذلك لا يزال هناك من يُداوم على وصفنا ب “معارضي الكيبورد”.
قيمة فقيد البلاد الدكتور أمين مكّي مدني أنه خلّف وراءه تركة فوق أن تُحصى أصولها لصالح هذا الجيل والأجيال القادِمة، وقد فعل ذلك في صمت وهدوء بالحد الذي لم ينتبه كثير من ورَثَته لعظمة ما خلّفه وراءه إليهم من ثروة، فقد جاء وقت كاد المواطن السوداني البسيط أن يجزم فيه بحقيقة أن الذين يتصدّرون العمل العام من سياسيين ونُشطاء يفعلون ذلك من أجل تحقيق أمجاد ومكاسِب شخصية، وهي مظنّة ماثِلة وحقيقية، بعد أن رأى الشعب بأنه قد أصبح لكل رجل أو أنثى ثمن يبيع به نفسه لصالح النظام، بعضهم تمّ شراؤه بمنصب سيادي بلا أعباء، وآخرين باعوا أنفسهم لقاء مناصب عواطلية يُقال لها معتمدي رئاسة، ومنهم من باع شرفه السياسي (إن وجد) بتصديق مزرعة أو قطعة أرض سكنية، من بين هؤلاء رؤساء وقادة أحزاب كبيرة وقادة حركات مُسلّحة، ومن بينهم أصحاب رأي وكُتّاب وصحفيين من بينهم من إستبدل دماء الشهداء الذين قاموا بدفعهم لمنازلة النظام بطقم بدلة “إسموكنج”.
التركة التي خلّفها فقيد البلاد الدكتور أمين مكي مدني وراءه أنه (من بين آخرين) يعود إليه الفضل في أن جعل عروق أبناء هذا الشعب لا تزال تنبض بالأمل بأن هناك شرفاء صادقين ومُخلصين للوطن، وأن ما يبذلونه من جهد وتضحيات لا يستهدِفون منها تحقيق مكاسب أو الحصول على عائد أو مجد، يحدث ذلك حين يرى الشعب أن شخصاً مثل أمين مكي مدني قد إختار بإرادته أن يكون ضيفاً على السجون والمعتقلات في سبيل وطنه وحرية شعبه وهو الذي سخّر له علمه ونبوغه بلوغ أعلى مراتب العمل في المنظمات الدولية، وقد عمل ممثلاً للأمين العام للامم المتحدة في أفغانستان (يوناما) في إصلاح القانون في أفغانستان، والمستشار القانوني للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق ورئيس بعثة مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في زغرب، كرواتيا. والمستشار الفني لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في الضفة الغربية، كما عمل مع مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين في جنيف وتنزانيا.
يُذكر للفقيد الكبير أن المنصب السياسي الوحيد الذي كان قد سعى إليه هو نزوله على رغبة المحامين الديمقراطيين حينما ترشُّح لمنصب نقيب المحامين (ديسمبر 2005)، وهو منصب مطلوب من صاحبه – في تلك الظروف – أن يدفع ثمن حصوله عليه وهو يُكافح في سبيل الدفاع عن سيادة حكم القانون وصيانة حرمة الدستور والدفاع عن الحريات، خلافاً لما كان مطلوباً من غريمه الذي فاز بالمنصب (فتحي خليل) الذي عمل على تحقيق عكس هذه الأهداف، ولا يزال سلف “فتحي” يسيرون على نفس الطريق.
كم يأسف المرء أن تؤول إدارة الدولة إلى جماعة لو وضعوا عقل شخص مثل أمين مكي مدني في كفة لرجّحت بعقول كل أقطابها مُجتمعة، وعزاؤنا أن هناك كثير من أبناء الوطن الذين سلكوا هذا الدرب الوعر الذي إختاره أمين مكي مدني لنفسه مِمّن أجهضوا بفعلهم وصمودهم معنى العبارة الشائهة التي يرددها أبواق النظام بوصف معارضيه بأنها مُعارضة فنادق وكيبورد.
لقد مضى الأستاذ الدكتور أمين مكي مدني إلى رحاب الله وترك على رقابنا دين لا تُمجّد ذكراه إلاّ بالوفاء به، وهو أن نستمر في السير على طريقه حتى يتحقق ما نذر أمين حياته من أجله.
سيف الدولة حمدناالله
[email protected]