الحلقة الأولى
خالد عبدالله- ابواحمد
[email protected]
يوما ما في السودان كان الدخول للجماعات أو الحركات لاسلامية مثل (الاخوان المسلمين) أو (أنصار السنة المحمدية) أو الطرق الصوفية ينطوي على أهداف سامية للغاية وبعيدة كل البعد عن حظوظ الدنيا الزائلة، ولم تكن في حينها هذه الكيانات تقدم امتيازات أيا كانت مادية او سياسية او اجتماعية للمنضوي تحت رايتها، و كانت تقدم للفرد الغذاء الروحي وتجعله في مكانه قريبة من الذات الإلهية من خلال الاهتمام باصلاح نفسه وتربيتها من خلال قراءة القرآن الكريم والتطرق للسيرة النبوية المطهرة، والتزود بالمعرفة العقدية، والأذكار اليومية التي يتقرب بها المرء من ربه، والتأسي بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأجلاء، وهذه التذكرة الروحية تجعل المرء في وضع روحي وصفاء ذهني معتبر، بحيث يكون انسانا صالحا في المجتمع يقدم له كل ما يحتاجه من خدمات.
ولم يكن في خلدي أبدا عندما انضممت للحركة الاسلامية التفكير في شئ غير خدمة الاسلام والمسلمين وتزكية نفسي وجعلها في مكان رفيع بُعدا عن المنكرات، وكل ما يبعدني عن ديني وعن ربي، وكنت قد درست الموسيقى في صغري، وصرت عازفا لكن قبل أن أحصد ثمرة دراستي واجتهادي الشخصي في هذا المجال شاءت إرادة الله تعالى أن ألج الحركة (الاسلامية) من خلال جامعة الخرطوم التي كنت أعمل فيها صباحا، تاركا حياة الفن والطرب و(العدادات) للآخرين، ولم أدخل هذه الحركة طمعا في مآرب دنيوية، مثل الكثير الذين دخولها من أول يوم لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة ليس لها علاقة بالجانب الروحي، وهؤلاء منهم في مراحل متقدمة عندما رأوا العمارات (السوامق) للجبهة (الاسلامية) ومؤسساتها المالية تنتشر يوما بعد يوم، أدركوا بأن الجماعة تسير حثيثا نحو السلطة دخلوها وبسرعة البرق تلاحقت كتوفهم مع قدامي (المحاربين).
وفي ذلك الوقت كانت الحركة تزخر بأصحاب النفوس النقية والقلوب الطاهرة الزكية أمثال أحمد عثمان مكي، وعبيد ختم البدوي عكود، ومعتصم الفادني، د. زكية عوض ساتي، والمهندس عبدالمتعال الجميعابي (بورتسودان) والشيخ والاستاذ الشفيع ابراهيم سعيد، أحمد الرضي جابر، ود.فضل السيد أبو قصيصة، والأستاذ عبدالله بدري، ومحمد صالح عمر، ومحمد محمد صادق الكاروري، وميرغني سلمان وأبناءه وبناته..إلخ، رحم الله المتوفين منهم والأحياء، وحينها لم تكن هناك أحاديث عن فساد مالي ولا اخلاقي، كان جل الحديث عن القربى من الله بتعمير جلسات التلاوة وأحياء الليالي في العبادة، وخدمة الآخرين، و قد كان الكبار يحدثوننا عن بطولة الشهداء عبدالإله خوجلي وحسن سليمان، وقصة دار الهاتف.. وكنا ننشد مع عبدالقادر علي:
هلم رسول الله أعددنا العريش
القوم هم القوم كأنهم قريش
و الحق هو الحق مرماه لن يطيش
انصارنا و مهاجرا من بايعوا بالشجره
هاكم بمينا من فتاُ اركان بيع العشره
خلى الاحبة حيراُ من بينهم حين انبرا
املاً مستبشراً في وفدكم ان يحشرا
ومع حسن سليمان هتفنا:
قسمات الفجر تتهلل بندى الإسلام تتبلل
والنسم الطيب يتعلل بأريج القرأن الزاكي
الحق منار نرفعة والظلم ظلام نقمعه
ورضاء الخالق نطمعة ياعدن قد هب صباك
وارتوينا من هذا الأدب حتى فاضت أشواقنا للجنة ولمصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن القدوة كانت موجودة وسط مجتمعات الحركة (الاسلامية) كان الكثير من رجال المال والاعمال يدفعون من جيوبهم الخاصة لإقامة البرامج الروحية، وكان الاعتقاد السائد لدي شخصيا، ولكل الحركيين أن الحركة (الاسلامية) عندما تستلم السلطة ستحكم بالشريعة الاسلامية، وتؤلف قلوب السودانيين لبعضهم البعض، وتزرع المحبة والإلفة بين مكونات السودان المختلفة، وتقوي الاقتصاد الوطني، وُتمكن للقوي الأمين الذي يحفظ مقدرات البلاد، وتجعل البلاد تكتفي من الغذاء، وتنهض بالصحة والتعليم والاسكان، ووووووووو..لكنها كانت أحلام زلوط..!!.
والأحلام التي ذكرتها لم أكن أتصور على الاطلاق أن يحدث نقيضها تماما، أن يغيب الدين في دولاب الدولة، و يُحكم السودان بالقهر والجبروت وبالتنكيل والتقتيل، وتزرع الكراهية والبغضاء بين مكونات البلاد المختلفة، وينهار الاقتصاد السوداني، وغاب (القوي الأمين) وجاء الحرامي المتين، وظلت الاختلاسات في المال العام تزداد عاما بعد آخرا، حتى أصبح المسؤول الذي لا يسرق ولا ينهب من المال العام هو الحالة الشاذة، والنقطة السوداء في بحر آكلي قوت الشعب المسكين، وسرقة المال لا تنفك تفتح مشاهد الفساد الاخلاقي الذي عشته بنفسه في مرحلتين في عهد (الانقاذ)، وفي الحالتين كنت أعيش في أوضاع نفسية غريبة بعض الشيء، أتذكر معها أيامي الأول وحماسي الكبير في الانخراط في الحركة وترك مواهبي وتطلعاتي السابقة والعيش مع بشر لا يتحملون سماع كلمة الحق في أشخاص فاسدون ومفسدون وبما توافرت لديك كل الأدلة اليقينية الثابتة بارتكاب أشخاص لفعل لا يتماشى مع الآمال والطموحات التي عملت من أجلها سنين عددا..!!.
لا يتحملوا كلمة الحق حتى داخل الأطر التنظيمية المؤسسية، بل يشعرونك بأنك لا تنتمي إليهم، ولأنك ما دمت تتحدث عن اقرانهم وزملاءهم وتفضح نفر منهم يعني سيأتي الدور على الشخص الذي تخبره بما شاهدته بأم عينيك، وبرغم تشدقهم بالاسلام وبالشهادة في سبيل الله لا يرؤن بأنك تريد اصلاح المنظومة التي تعمل داخلها، وهم لا يفهموا أصلا معنى التواصي بالحق، ولا يدركون قيمة أن (الدين النصيحة)، يؤمنون فقط بأنهم في مواقعهم القيادية هذه فليفعلوا ما شاء لهم، وغريبة جدا كانوا يطلقون على بعضهم البعض (البدريين) أي أهل بدر الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصدق والثبات على المبادئ، لكن الواقع المعاش في السودان أثبت وأكد بما لا يدع مجالا للشك بأنهم أحفاد مسيلمة..
……نواصل