(الانقاذ) ردت الجميل لدارفور بالموت والدمار لأكثر من 10 سنوات مستمرة
بسبب هتاف عبدالرحمن دبكة (عاش السودان حراً مستقلاً) اقتنع الأزهري باعلان الاستقلال
خالد عبدالله- ابواحمد
الصور الفوتغرافية أبلغ في عكس الحدث من أي حديث يقال بالكلمات، فإن صور المآسي التي تعكس واقع الحال في بلادنا العزيزة كثيرة ومؤلمة للغاية وتشعر البعيد عن وطنه بتعذيب الضمير والاحساس بعدم القدرة على استيعاب درجات هذه المآسي، لكن..!!.
الصّور الموجعة والمبكية للمجازرة التي حدثت في دارفور لأكثر من 10 سنوات متواصلة خلدها التاريخ كأسوأ مجزرة انسانية في العصر الحديث، أوقفت الدماء في العروق وأحرقت القرى والبيوت الآمنة، وقتلت الحيوانات التي كانت تزخر بها المنطقة، صور مأساوية انطبعت في الذهن وفي الفؤاد ووثقتها وكالات الأنباء في الكثير من بلاد العالم، وبطبيعة الحال أن النظام الجاثم في صدور السودانيين يمنع نشر هذه الصور في الصحافة المحلية، في اعتقاده بأن الأجهزة الأمنية والاعلام المرتزق يمكن أن يغطي عليه فضيحة القرن، وانا له هذا؟؟.
ما أحتفظ به في مكتبتي من صور للقتل والخراب في دارفور يصعب التعبير عنها بالكلمات، شكلت بالنسبة للبشرية صدمة انسانية لأبعد الحدود، تجعل المرء يتفه نفسه ويلعنها لأنها عجزت أن تفعل شيئا تجاه المآسي المتكررة لأهلنا في دافور، سواء على أرضهم أو هنا في الشمال أو هناك في الجنوب، تتراكم عليهم الفتن النكبات كقطع الليل المظلم، دموع وآهات وبكاء ونحيب وفقدان عزيز وغالي، وفقدان المأوى، وفداحة المصير.
لم يحدث في العصر الحديث أن أمة من الأمم تعرضت لمثل ما تعرضت له دارفور لـ 10 سنوات مستمرة، العجزة والنساء والاطفال، وطلبة دارفور بالجامعات في الخرطوم قمة المأساة، ما لم يوصف، وأسئلة كثيرة في البال وفي الخاطر، دارفور ليست نكرة بل شامة في جسد الإنسانية جمعاء، لها تاريخها الثمين والنفيس، وعلى المستوى الوطني لعبت دارفور دورا عظيما في معركة الاستقلال، وذات الفاجعة حديث أيضا في جبال النوبة بسيناريو أسوأ مما هو عليه في دارفور.
وفي ذلك المنحى يحدثنا أستاذنا الجليل المهندس العميد (م) أحمد عبدالقادر أرباب في كتابه الذائع الصيت (دارفور عبر العصور) ويذكر “أنَّ مناطق الوعى والحركة السياسية في دارفور قد تمددت رويداً رويداً لسائر أنحاء هذا الاقليم متأثرة بالزخم القومى وحركته نحو الإستقلال ومتفاعلة بما يحدث فى الفاشر عاصمة المديرية, وتبعاً لذلك تحولت مدن مثل نيالا والجنينة وأم كدادة والضعين وكتم وعد الغنم إلى مراكز إشعاع سياسى نشط تكاملت مع مدينة الفاشر فى إبراز وجه دارفور النضالى من أجل التحرر من المستعمر”.
ويشير إلى أن اسماعيل الازهري ونسبة لتنامى المطالبة بالإستقلال الكامل قرر القيام بطواف على الإقاليم الغربية للبلاد, فإنبهر الرجل بضخامة الإستقبال الذى وجده بالنهود, فى أول زيارة له بكردفان, وتيقن ألاَّ مناص من تبنى فكرة الأستقلال كهدف ثابت, ثم قادته زيارته لمدينة عد الغنم بجنوب دارفور(عد الفرسان) حاليا, كأول منطقة بدارفور يزورها فى جولته تلك, وكان قد وصل إليها قبله نائب المنطقة, عن حزب الأمة لدائرة غرب البقارة, السيد عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة فوجد الأزهري عند وصوله لمطار المدينة مئات الألوف من الفرسان يغطون الأفق على صهوات الخيول مشهرين سيوفهم ورماحهم ويهتفون “عاش السودان حراً مستقلاً” فى منظر رهيب وداوى تأثر به الأزهرى حتى سالت دمعته من فرط إحساسه بعظمة الموقف.
ويصف أرباب هذه اللحظات فيقول “بعد أن أخذ الرئيس مكانه المعد له تقدم السيد عبدالرحمن دبكة إلى المنصة وألقى كلمته مرحباً برئيس الحكومة وأعضاء وفده ترحيباً حاراً, وفى ختام كلمته هتف “عاش السودان حراً مستقلاً”، فهتفت الجماهير المحتشدة خلفه “عاش السودان حراً مستقلاً”، ورعدت السماء بالهتافات الداوية, ثمَّ نهض السيد إسماعيل الأزهرى وسط تلك التظاهرة مخاطباً الحشد الكبير وفى ختام كلمته هتف “عاش السودان حراً مستقلاً, السودان للسودانيين”، فهاجت الجماهير من الفرحة حيث إنتصرت إرادة الشعب, وإنهمرت الدموع من الفرحة, ودوت الهتافات دون توقف وتعالت لعنان السماء باعثة هديراً صاخباً إهتزت له الأرض, وتحركت الجماهير فى حركة جنونية تعانق بعضها البعض وزغردت وإبتهجت الدنيا لهذا اليوم التاريخى العظيم المشهد”.
إن هتاف عبدالرحمن دبكة في دارفور أثناء اللقاء الجماهيري للرئيس الازهري (عاش السودان حراً مستقلاً) اقتنع الأزهري باعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وكان حدثا تاريخيا وثقته كل بلاد العالم بإذاعاته ووكالات أنباء، وكتبت عنه الصحافة البريطانية، هذه هي دارفور التي في وجدان كلي سوداني شريف، وهذه هي دارفور في تاريخ السودان وفي قلبه وضميره، لم تكن يوما إلا صمام الأمان لبلادنا العزيزة وكان لا زال انسانها الرائع الوطني الجسور، فإن الموقف التاريخي للنائب البرلماني السيد عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة قد سجله التاريخ بأحرف من نور ومن ذهب لا يمكن لأحد مهما كان أن يزيله من ذاكرة الوطن لأن الأعمال الخالدة في ذاكرة الشعوب هي بمثابة الهادي لطريق الحق والمجد والكرامة، فإن عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة أول شخصية سودانية جهر بصوته عالياً مطالباً بإستقلال السودان وفى منطقته الإنتخابية, فأجبر بموقفه ذلك رئيس الحكومة المتردد ألاَّ يحذو إلاَّ حذوه, ولقد كان ذلك المشهد رهيباً وملهماً فى آن واحد تكرر مرة أخرى فى بداية الستينات عندما زار الرئيس جمال عبدالناصر السودان فصحبه الرئيس إبراهيم عبود فى زيارة لمنطقة الغزالة جاوزت بجنوب دارفور حيث تدافعت جماهير قبائل البقارة ونظارهم وقياداتهم لإستقبالهما, ويقال أنَّ قرابة ربع مليون فارس قد إحتشدوا فى تلك المناسبة يهزون حرابهم الطويلة فى منظر سدوا بها عين الأفق من كل جانب فتأثر الرئيس عبدالناصر تأثراً بالغاً وإلتفت إلى الرئيس عبود قائلاً “والله لو كان عندى مثل هؤلاء الفرسان لكنت قد دخلت إسرائيل فى يوم واحد”.
إن الأمم الحية هي التي تحافظ على أرثها وعلى تاريخها، وعلى الذين رسموا تاريخ البلاد بدمائهم العزيزة وبنضالاتهم المشهودة، بأن تكِرم مُسواهم وأن تجعلهم في مكان التقدير والتكريم الذي يستحقونه، وكذلك الأمم الحية هي التي تصون وحدتها وتحفظ دماء شعبها وتدفع في ذلك كل غال وكل ثمين، لأن الانسان عندها يمثل ثروة وهو أغلى ما عندها، يا سادة أن دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق..وكل مدن وضواحي بلادنا أغلى ما نملك في هذا السودان.
إن الحكومة التي تقتل شعبها وتحرق مدنه وقراه، وتحارب طلبة الجامعات بشتى السبل لأنهم من اقليم معين او من تركيبة سكانية معينة، هي حكومة لا تشرف السودان ولا تاريخه ولا التنوع الموجود فيه، وهي حكومة أفضل أن يطلق عليها الناس العصابة لأنها لا تحترم شعبها ولا إرادته ولا تاريخه، فإن إذلالها للناس وتبخيس كرامتهم قد وضعها في قائمة أسوء الحكومات البشرية على مدى التاريخ الانساني.
..إن الله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون..
5 مايو 2014م