د. فيصل عوض حسن
يقودُ الشبابُ السُّودانيُّ الحِراك الشعبي القوي بوعيٍ واقتدار استثنائيين، ضد البشير وعصابته ومليشياتهم الإجراميَّة، رغم إجرامهم غير المسبوق بدءاً بالاعتقال والتعذيب وانتهاءً بالقتل، ولم تَلِنْ عِزيمةُ الشباب والمُواطنين أمام البطش والقمع الإسْلَامَوي المُتزايد، ويزدادون قُوَّةً وصَلابة دفعت بالبشير وعصابته للتَخَبُّطِ والارتجاف، وجعلت المُغامرين والمُتآمرين وطُلَّاب السُلطة وتُجَّارِ الحرب يتقافزون، عقب بياناتهم وتصريحاتهم ومواقفهم المُخجِلة، ومضى بعضهم لتشكيل حكومة ما بعد المُتأسلمين دون حياءٍ أو خجل، أو رُؤى وبرامج موضوعيَّة واضحة لمُجابهة التحديَّات المُرعبة التي نحياها الآن وتنتظرنا عقب اكتمال التغيير.
المُدهِش والصادم في آنٍ واحد، أنَّ النُخَبْ السُّودانيَّة ما تزال (تائهة ومُشَتَّتة)، بين مصالحها الشخصيَّة وولاءاتها الطائفيَّة/الكيانيَّة (الضَيِّقة)، وبعيدة عن أدوارها (المِحْوَرِيِّة) المأمولة، وبصفةٍ خاصة نشر وترسيخ ثقافة/مبدأ المنافع العامَّة، وتعزيز الاستفادة من تنوُّع السُّودان والمزايا التي يُتيحها هذا التنوُّع، واستلهام الدروس والعِبَرْ من التجارُب المُعاصرة. وكم تَمَنَّيتُ لو خرجت النُّخَب السُّودانيَّة، ولو مَرَّةً واحدة في التاريخ، من عَبَاءَاتِهم (الشخصيَّة/الطائفيَّة) ودخلوا في جُلْبَاْب الوطن الكبير، وجعلوا سَلَامَة السُّودان وتطويره هدفاً أوحد وحتمي، وتجاوزوا عمَّا دون ذلك، وقاموا بتسخير وتطويع معارفهم الأكاديميَّة وخبراتهم العمليَّة لخِدْمة السُّودان (كلٌ في مجاله)، وتحجيم سيادة الأمزجة الشخصيَّة والمُمارسات الفرديَّة، وتعزيز روح الجماعة والفريق الواحد، وتغيير التفكير النَّمَطي والتركيز على ما يُمكن تحقيقه، وفق المُعطيات المُتاحة (ماليَّة، ثقافيَّة، اجتماعيَّة…إلخ).
لعلَّ الفرصة مُواتية تماماً الآن أمام نُخَبَنا السُّودانيَّة، ليقوموا بأدوارهم المفقودة وسيحفظها لهم التاريخ وستتناقلها الأجيال القادمة بعزَّةٍ وفخر، وذلك إذا سارعوا بإعداد استراتيجيَّة رصينة/شاملة، وواضحة المعالم لتسيير وإدارة الدولة عقب اقتلاع المُتأسلمين، مشفوعة بأدوات وأُسُس مُتابعة وتقييم وتقويم دقيقة. وهذا مَطْلَبٌ (حتميٌّ) وعاجل، فَرَضته أزماتنا (الاستثنائيَّة) والمُعقَّدة الماثلة في كافَّة الأصعدة، ومن السهل تحقيقه في وقتٍ وجيزٍ جداً، بالنسبة للمُتخصِّصين من نُخَبِنا، مُستفيدين من وسائل التواصُل العصريَّة المُتاحة. وكبدايةٍ عمليَّة، يمكن تشكيل مجموعات عمل من النُّخَبْ وفق تخصُّصاتهم العلميَّة، وبعد الإعلان عن تشكيلها يُمكن قبول (المُتطوَّعين) من ذوي التخصُّص المعني، للمُساهمة في إعداد/تجهيز استراتيجيَّات قطاعيَّة شاملة، تحوي المحاور/الأهداف العامَّة للقطاع المعني، كالصحَّة والتعليم والاقتصاد والزراعة وغيرها وفق الإمكانيات المُتاحة فعلياً، وتحديد تفاصيل خطط العمل التنفيذيَّة (طويلة، مُتوسِّطة وقصيرة) وتكاليفها ومُكوِّناتها/عناصرها، وفترات وآليات وأُسُس المُتابعة والتقييم والتقويم/المُعالجات، بما في ذلك شكل الحكم/التنظيم الإداري المُقترح للسُّودان، ومُتطلَّبات/شروط شغل الوظائف، أخذاً في الاعتبار أوضاعنا الماليَّة والسياسيَّة/الأمنيَّة والاجتماعيَّة، و(حَتميَّة) احتوائها ومُعالجتها بصورةٍ عَادِلَةٍ ومُرْضِيَةٍ للجميع. وعقب تجهيز الاستراتيجيات القطاعيَّة، يتم تجميعها لتُشكِّل (الاستراتيجيَّة/الرُؤية) العامَّة لتسيير الدولة، ثُمَّ إتاحتها للشعب والكيانات (الجَادَّة) في اقتلاع المُتأسلمين، وعلى رأسها قطاع الشباب الذي أثبت (أهَلِّيته) الكاملة، لـ(قيادة/إدارة) السُّودان دون وصاية، من واقع وعيهم واستشعارهم للمسئوليَّة وتضحياتهم الصادقة والقوِيَّة الماثلة، ومن ثُمَّ تطبيق مضامين تلك الاستراتيجيَّة عقب نجاح التغيير مُباشرةً، تلافياً لأي فراغ مُؤسَّسي قد يحدث.
على نُخَبِنا السُّودانيَّة الخروج من مُربَّع وصف وتحليل الأزمات، والانتقال لمُربَّع المُبادرة والأفعال (العمليَّةً) الحقيقيَّة، وتأسيس مبادئ الإدارة العلميَّة في الحُكْم، وهي ثقافةٌ يفتقدها السُّودان منذ الاستقلال وحتَّى الآن، ودفعنا الثمن غالياً وسندفعه أكثر إذا لم نُعدِّل مَسَارِنا، ولقد آنَ الأوان لِنَحْتَكِم للعِلْمِ ومُواكبة التطوُّرات/المُستجدَّات الدَّاخليَّة والخارجيَّة، والابتعاد عن العواطف والأمزجة الشخصيَّة. وكما شهدنا جميعاً، فإنَّ الحِرَاك الشعبي الماثل، أشعله الشباب السُّوداني وقاده بصلابةٍ ووعيٍ كبيرين، ولا يحتاج لإهدار طاقات نُخَبِنا في بياناتٍ، تُتيح للمُغامرين وطُلَّاب السُلطة وتُجَّار الحرب التقافُز، وسرقة تلك التضحيات الكبيرة لشبابنا الأبي. وبعبارةٍ أدق وأوضح، فإنَّ السُّودان وشعبه يحتاجون من نُخَبِنا تجهيز برنامج علمي وعملي مدروس بعناية، ويتضمَّن (بدِقَّة): ماذا سنفعل وكيف ومتى، منذ الساعة الأولى لاكتمال اقتلاع الكيزان، لأنَّ ظروفنا خاصةً السياسيَّة/الأمنيَّة والاقتصاديَّة الحاليَّة والقادمة، لا تحتمل التسويف وتأجيل التفكير، لا سيما مع الكوارث الإسْلَامَويَّة العديدة، ومن بين أخطرها الديون الخارجيَّة وتَوَغُّلات دول الجِوَار المُتلاحقة واحتلال أراضينا، بجانب الأزمات الاجتماعيَّة والأمنيَّة الدَّاخليَّة، بخلاف أنَّ هذه الخطوة، تَتَوَافَق مع مُتطلَّبات المُؤسَّسيَّة، وعلى رأسها التخطيط المُحكم والمُسبق لكل مُمارساتنا.
إنَّ نُخَبَنا السُّودانيَّة مُطَالَبة بنشر الوعي والنُّصْحِ والإرشاد (قبل وبعد) التغيير، ومُتابعة وتقييم وتقويم سُبُل استقرار ونهضة السُّودان وأهله، وهذا يتطلَّب تسخير وتطويع علومها الأكاديميَّة وخبراتها العمليَّة، بما يقود لتلافي القنابل الإسْلَامَوِيَّة الموقوتة الماثلة وتخفيف حِدَّتها، وانتشالنا من القاع الذي بلغناه، وعدم تكرار وتدوير الفشل (المُتَوَارَث). وليت نُخَبِنَا يُسرعون في الانتظام في مجموعات عملٍ تخصُّصيَّةٍ بالنحو الذي أشرنا إليه أعلاه، والشروع في إعداد وتجهيز الاستراتيجيات القطاعيَّة، وتجميعها لتُشكِّل (استراتيجيَّة/رُؤيةٍ) عامَّة مُوحَّدة وشاملة لتسيير الدولة ككل في الفترة القادمة، وهذه هي الأدوار (الأصيلة) المُتوقَّعة من نُخَبِنا، تجاه السُّودان وأهله.. وللحديث بقيَّة.