د. فيصل عوض حسن
يبدو أنَّنا لم نُدْرِك بَعْدْ غَدْرْ/أطماع العالم الخارجي (المُجتمع الدولي/الإقليمي، الأشقَّاء وغيرها من المُسمَّيات)، واستهدافه الحصري لمُقدَّرات السُّودان المُتنوِّعة، بعيداً عن القِيَمْ الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والقانونيَّة. فمنذ انطلاق الحِرَاك الشعبي مُنتصف ديسمبر الماضي، وكثيرٌ من السُّودانيين يتسابقون نحو (الخارج)، بالمُذكِّرات والمُناشدات والبيانات والصور ومقاطع الفيديو، وكأنَّ ما يُسمَّى مُجتمع دولي وإقليمي يَجْهَلْ جرائم المُتأسلمين المُتَطَاوِلَة ضد السُّودان وأهله.
تَنَاسَى غالبيتنا الأقمار الصناعيَّة وأذرع التَجَسُّسِ المُختلفة، الذين ينقلون ويُوَثِّقون (بدِقَّة) لكُلَّ ما يحدث في العالم، حيث تقوم الدول الكُبرى بفَلْتَرَة الأحداث وتطويعها تبعاً لأهدافها/مَطَامِعها، وتَقَاسُم (الغنائم) في ما بينها، وفق اتفاقاتٍ مُسبقةٍ وأدوارٍ معلومة، وهذه حقيقة لم تَعُدْ (خافية) على ذوي البصائر! وبالنسبة للسُّودان، فقد عَانَى كثيراً من الإجرام الإسْلَامَوِي طيلة الـ30 سنةً الماضية، ولم يَتْرُك المُتأسلمون جُرماً إلا وارتكبوه، ولنتأمَّل في إجرامهم غير المسبوق بدارفور والمنطقتين، والذي لم يحدث حتَّى في حِقبة المُسْتَعْمِر! حيث مَارَسَ البشير وعصابته أبشع صور الإبادة والجرائم ضد الإنسانيَّة، كالاغتيالات والاغتصابات الجماعيَّة والفرديَّة وحَرْق القُرى والحَواكِير، وتشريد الآلاف من المُواطنين ونهب مُمتلكاتهم، ورَدْمِ آبارِ المياه وتدمير المَزَارِعِ والحقول البُستانيَّة، والضربِ بالبراميلِ المُتفجِّرةِ والأسلحةِ الكيماويَّة، وغيرها من الجرائم التي تَقْشَعِرُّ لها الأبدان.
جميعها كانت جرائم واضحة، والمُتأسلمون أنفسهم لم يُنكروها بدءاً بالبشير، الذي أقَرَّ (صوت/صورة) بِسَفْكِ دِمَاء الآلاف، ومع هذا تَرَاخَى (المُجتمع الدولي/الإقليمي) بكافَّة مُؤسَّساته العَدْلِيَّة والإنسانيَّة، ولم يتحرَّك إلا عقب مُمَاطلاتٍ طويلة، حينما أحَالَ مجلس الأمن (على مَضَضْ) القضيَّة للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، التي طَالَبَت باعتقال البشير وبعض أعوانه منذ 2009، لكنه ظلَّ يتقافز من دولةٍ لأُخرى، وينقل إجرامه ليَعُمَّ كُلَّ السُّودان، بل وتصديره للخارج عبر الارتزاق في اليمن، والعالم بجميع مُؤسَّساته (يَتَفَرَّج)! أمَّا القراراتُ الدوليَّة/الإقليميَّة المُتَتابعة فهي ذَرٌّ للرَّمادِ في العُيُون، ومُحاولةٌ لِتَلَبُّسِ ثوب الإنسانيَّةِ والقانون، بينما يُساعدون (في الخفاء) البشير وعصابته لتفكيك وتذويب السُّودان ونهب/إهدار مُقدَّراته، حيث نجد الإدانات والعقوبات (الشكليَّة) الدوليَّة/الإقليميَّة، وفي ذات الوقت (الاعتراض) و(التراخي) في التنفيذ! وبعبارةٍ مُختصرةٍ ومُبَاشِرَة، فإنَّ التَرَاخي الدَّولي/الإقليمي، مَرَدُّه (تلبية) البشير وعصابته لجميع (مَطَامِع) العالم الخارجي في السُّودان ومُقَدَّراته، دون تفكيرٍ أو تَرَدُّد، وهذه فرصة لن يجدها الطَّامعون لو (تَغَيَّرَت) أوضاعُ الحُكْمِ في بلادنا، لذلك نجدهم يدعمون بقاء هذه العصابة بكل الوسائل (الظاهرة والمُسْتَتَرَة).
حينما ذهب البشير لروسيا مُبتغياً (حِماية) بوتين، كان من أهدافه (المُسْتَتَرَة) ضمان الدعم إذا ثار عليه السُّودانيُّون، مُقابل تلبية (المَطَامِع) الرُّوسيَّة وهذا ما حدث مُؤخَّراً. حيث أكَّدت روسيا، في 17 يناير 2019، على أنَّ القمع الإسْلَامَوِي للاحتجاجات الشعبيَّة (شأنٌ سُّودانيٌ داخلي)، ومجلسُ الأمن الدولي (غير مُفَوَّضٍ) لمُناقشة هذا الموضوع! وبعدها بيومين، تبعاً لصحيفة السُّوداني يوم 19 يناير 2019، أعلنت روسيا عن اتفاقيَّة تبسيط دخول سُفُنِها الحربيَّة للموانئ السُّودانيَّة، والتي قد تصل لنحو سبع سُفُنْ حربيَّة، تَتَوَاجَد بمياهنا الإقليميَّة في وقتٍ واحد! هذا بخلاف ما رَشَحَ بشأن القاعدة العسكريَّة الروسيَّة المُزمع إقامتها بأراضينا، والتَوَاثُق مع بنك إنكرا الروسي لتمويل إنشاء (مُنتجعات سياحيَّة)، وفق ما أعلن والي البحر الأحمر في 18 مارس 2018، ورُبَّما هناك تَنَازُلاتٌ إسْلَامَوِيَّةٌ (خَفِيَّة) أكثر خطورة من الأمثلة التي ذكرناها. وبالنسبة لِفِرْيَة (الحِمَايَة) من الأمريكان، التي حاوَلَ البشير إقناعنا بها، فيفضحها تَحَالُف المُتأسلمين (الاستراتيجي) مع أمريكا، وتعاوُنهم (الوثيق) في أخطر المَلفَّات، وباعترافات الطَرَفين (المُوثَّقة)، ولقد تَنَاوَلْتُ هذه الأمور بالتفصيل، في عددٍ من المقالات آخرها مقالتَيَّ المُتتاليتين، (خَفَاْيَاْ اَلْعُقُوْبَاْتِ اَلْأَمْرِيِكِيَّةِ عَلَىْ اَلْسُّوْدَاْنْ)، و(مَنِ اَلْمُسْتَفِيْد مِنْ رَفْعِ اَلْعُقُوْبَاْتِ عَنِ اَلْسُّوْدَاْنْ).
كذلك الحال بالنسبة لما يُسَمَّى دول (الترويكا)، ففي الوقت الذي يُظهرون فيه حِرصاً (زائفاً) على العدل والحَرِّيَّة والإنسانيَّة، ومُسَاءَلَة ومُعاقبة مُنتهكي هذه القِيَمْ، نجدهم يَتَعَاونون (خُفْيَةً) مع البشير وعصابته، ويدعمونهم بملايين الدولارات/اليوروهات، لمُحاربة (الإرهاب) و(الإتجار بالبشر) حسب زعمهم! والواقع أنَّ هذه الدول، مع أُخرياتٍ وآخرين، ساهموا (بفعاليَّة) في فَصلِ الجنوب وصَمَتوا على جرائم المُتأسلمين المُتَطَاوِلَة بدارفور والمنطقتين، والآن وَزَّعوا الأدوار (كالعادة) لإفشال الحِرَاك الشعبي المُتصاعد بخبثهم المعهود، إذ نجد إداناتهم (الخجولة/المحدودة) من جهة، ومُناشداتهم الرَّامية للحفاظ على العصابة الحاكمة وتمديد بقائها من جهةٍ ثانية، إلا أنَّ ارتفاع الوعي الشعبي سيُفشِل تلك المساعي الغربيَّة الخبيثة، خاصَّةً مع نجاح السُّودانيين في إغلاق منافذ الفِتَنْ العقائديَّة/القَبَلِيَّة، التي كانت سبباً ومَدْخَلاً لتنفيذ مآربهم وخطِطهم المُخزية ضد السُّودان وأهله.
وهناك أيضاً استهداف الموصوفين بـ(الأشِقَّاء)، لأراضينا ومُقدَّراتنا الوطنيَّة بالاحتلال والشراء والإغراق في الديون، واحتضانهم لأموالنا المنهوبة بمصارفهم ومَحَافِظِهمِ الاستثماريَّة. ولعلَّ آخر صور غدرهم، دَعْمهم (المُخزي) للبشير وعصابته لتعطيل الحِرَاك الشعبي المُتصاعد، بدءاً بأدوات القمع/الإجرام كالعِصِي الكهربائيَّة والسيَّاراتٍ والرُصَّاص والغازات المُحَرَّمة، مروراً بالأموال وشُحْنات النفط والقمح المُتتابعة، وانتهاءً بالامتناع عن إدانة الإجرام الإسْلَامَوِي السَّافر، والإيعاز لوسائل إعلامهم لتشويه الاحتجاجات ودَوافعها/مُتطلَّباتها الحقيقيَّة المشروعة. والأكثر (خَسَاسَة)، استغلال انشغالنا بالحِرَاك ومُسَارَعَتهم لابتلاع ميناء بورتسودان، الذي كتبنا عنه بالتفصيل الأُسبوع الماضي مقالنا (لِأَجْلِ هَذَاْ يُرِيْدُوْنَ اَلْبَشِيْرَ وَعِصَاْبَتِه)، وأكَّدت صحيفة برؤوت يوم السبت 19 يناير 2019، اكتمال التسليم الفعلي للميناء!
المُحصِّلة، أنَّ جميع هذه الأطراف (تُقَاوِم) اقتلاع البشير وعصابته ويفعلون المُستحيل لإبقائهم، فلا نَنخَدِعْ بإداناتهم (الخجولة) ومُناشداتهم (الباهِتة)، التي لم ولن تُوقِف الإجرام الإسْلَامَوي. وبدلاً عن مُلاحقة المُجتمع الدولي/الإقليمي ومُؤسَّساته، يجب تسخير طاقات وخِبرات وعلوم المُتخصِّصين والنَّاشطين السُّودانيين، في ما يُفيد السُّودان وأهله فعلاً. وفي هذا الخصوص، يُمكنهم تقسيم أنفسهم لمجموعاتٍ مُتخصِّصة، لكل منها مهامٌ وواجباتٌ مُعيَّنة، على سبيل المثال مجموعة تُشرف على تجهيز (استراتيجيَّة) عِلمِيَّة وعَمَلِيَّة عامَّة للدولة، و(خِططها) التنفيذيَّة/التفصيليَّة ومُكوِّناتها وتكاليفها، لأنَّ السُّودانيُّين يحتاجون بشدَّة لمعرفة: ماذا سيفعلون وكيف ومتى، منذ الساعة الأولى لاكتمال اقتلاع الكيزان. ومجموعة ثانية من المُتخصِّصين والنَّاشطين لدعم الحِرَاك الشعبي، وثالثة لمُتابعة/مُراقبة مُقدَّراتنا الوطنيَّة ومَنْع تسليم أي منها للغير، وهكذا يكون العمل مُتوازياً ومُتوازناً في جميع المجالات والأصعدة في آنٍ واحد.
إنَّ التغيير الذي ننشده لا ينحصر فقط على اقتلاع البشير وعصابته، وإنَّما يشمل وبدرجةٍ كبيرة، مُراجعة علاقاتنا الخارجيَّة، سيما الدول التي التَهَمت مُقدَّراتنا ودَعَمَت المُتأسلمين بأي شكلٍ كان، وبحيث تكون مصلحة السُّودان (الأرض/الشعب) هي المعيار الأوحد لأي علاقة خارجيَّة، وهذا أمرٌ (عسير) لو انتظرنا/تَوقَّعنا (دعم الخارج) لاقتلاع المُتأسلمين، والأصح هو الاعتماد على قُدراتنا وهي كافية تماماً لتحقيق ذلك بسهولةٍ ويُسر.