النظام يصدر الموت جوعاً وقصفاً بالطيران على المدنيين في بلدي
مجموعة قصص حقيقية
مبارك أردول
بعد مرور أكثر من سنتين على الحرب في المنطقتين (جبال النوبة والنيل الازرق) مازالت الأوضاع الإنسانية متردية يوما بعد يوم ، ومازال المدنيين معاقبين من قبل النظام وذلك بمنعهم من أبسط أساسيات الحياة من طعام وعلاج ومياه نقية وتعليم وضروريات أخرى، في صورة تؤرق كل شخص يحمل في دواخله زرة إنسانية، لم يكتفي النظام بقتل الناس بالحصار وحده بل ظل يرسل عليهم الطيران والصواريخ بعيدة المدة وقوات المشاه لتكتمل عليهم كل حلقات القتل والسحل.
أستوقفتني قصص حقيقة رايتها وعاشتها أسر خلال هذه الحرب سوف أقصها إليكم واحدة تلو الأخري لتقفوا بأنفسكم على حجم المعاناة الإنسانية التي يعيشها السكان في جبال النوبة وكذلك نظرائهم في النيل الأزرق ودارفور.
أسرة رقم (1) :
في منطقة أم سردبة محلية أم دورين بجبال النوبة:
أسرة مكونة من وألدين وخمس أطفال وطفلة واحدة، يسكنون في بيتهم (قطية مصنوعة من القش وبعض المواد المحلية) والذي يقع من الناحية الغربية لجبل (كريرة)، يمر بهذا الجبل الطريق الترابي الرابط بين كادقلي وكاودة، الأن الساعة 11:49 ليلاً، غطى جميع أفراد الأسرة في نوم عميق بعد يوم عصيب من القصف الجوي بطائرات النظام (ميج وأنتنوف) لمدة أكثر من ثمانية ساعات متواصلة، تناوبت الطائرات بقصفهم طوال اليوم، لم تستطيع الوالدة إيقاد النار لطباخة شئ للأطفال خلال اليوم لسد رمق الجوع خوفاً من الدخان الذي ربما يراه كابتن الطائرة قاسي القلب الذي لا يرحم أبداً حالما راى أي أثر لوجود بشر وهو في طريقه لحصد أرواح الناس وحرق منازلهم ومزارعهم وقتل أبقارهم هناك منذ إندلاع الحرب.
إكتفى الأطفال بشرب ماء العجين وأكل ثمار نبات الدليب أثناء مقيلتهم في كهوف جبال أم سردبة المشكوك بوجود الألغام فيها منذ الحرب الأولي.
جاء الليل وإستراح الجميع من طنين الطائرات ومن متاعب النهار، وبينما الجميع في سبات عميق، يسمع الأب صوتاً لدانة بعيدة دون أن يسمع صوت الطائرة المالوفة لديهم، الصوت يأتيه من الإتجاه الغربي لحلته، هذا الصوت في الحقيقة كان صوتاً لإنفصال صاروخ طويل المدى من قاعدته بكادقلي متجه شرقاً صوب حلته، لم يدري هذا الشيخ بأن النظام إستجلب أدوات أخرى للقتل والتشريد، وبينما هم في النوم وفي غضون ثواني وقبل أن يدبر الأب الأمر ويوقظ زوجته وأطفاله ليحتموا بالخندق البرميلي، إذا بالسقف يتهدم عليهم والنار تلتهم الجميع ويضئ ظلام الليل ضواءاً من إشتعال النيران، يدخل الأب في شلل لفقده جزء من أطرافه وتقضي النار وروائش الصاروخ على جميع أفراد الأسرة تماماً، تنادى الجيران فذعاً وتجمهروا جميعاً حول البيت المنكوب بحثاً عن من نجى ولتفسير ماجرى، ولكنهم لم يجدوا شيئاً سوى الفحم والجدران المهدمة، بعد برهة سمعوا صوتاً يئن بالقرب منهم، إذا بالأب يرميه إنفجار الصاروخ خارج البيت، يدلي لهم ببعض الكلمات ويسألهم عن ما جرى وعن مكان بقية إبناءه وزوجته الحنونة، ولكن بعد مدة أقل من (15) دقيقة وبعد نزيف حاد كان سببه فقده لرجله اليسرى، صمت الأب وفارق الحياة ليلتحق بأفراد إسرته الستة المدفونين تحت الأنقاض.
إسرة رقم (2):
أسرة حبوب (حبوبة) كما يطلق عليها هذا الأسم أهلنا في طبانيا الكر:
حبوب مع أطفال بنتها الثلاثة يجلسون تحت شجرة الجميز الظليلة في نهاية الجباركة (مزرعة الأسرة) وبالقرب من الكهف الممتد الي الداخل ذو المدخل الواحد، تعني حبوب بهؤلا الأطفال منذ فترة، خاصة بعد ذهاب أمهم الي المزرعة خلال ساعات النهار، حبوب تكمل طباخة البليلة (حبوب الزرة) وتنادي الأطفال الثلاثة للحضور فوراً لتناول وجبة اليوم الأولي والأخيرة والتي تقدم في منتصف اليوم، حبوب تعد الملاعق الخشبية المصنوعة من شجر البابنوص، يبداء الأطفال ذوي الأجسام النحيلة بتناول البليلة وهم في صمت، كل واحد يأخذ لقمته من البليلة وبعدها عليه أن يضع الملعقة في الصحن حتى يتمكن أخيه من تناول هو الأخر لقمته، هكذا قالت لهم حبوب هذه التعليمات نسبة لعدم كفاية عدد الملاعق.
بينما الجميع في الوجبة إذا بعدد من أطفال الجيران يهرولون نحو الجبل بسرعة شديدة يتنادون ويقولون (طيارة يا … طيارة يا… طيارة يا) في إشارة لتوليف إسم الطائرة بلغتهم المحلية، حبوب تطلب من الجميع التوجه نحو الكهف الذي يقع بالقرب منهم بسرعة وترك كل شئ يشغلهم حتى وجبتهم اليومية الوحيدة.
فر الجميع متسابقين نحو الكهف وأفواههم مليئة بالبليلة ووجوههم مذعورة من الخطر القادم من الشمال.
حبوب تدخل أخر واحدة الي الكهف وتقف عند مدخله لتحمي أحفادها وظهرها للخارج، يسمع الجميع صوتاً يقترب إليهم شيئاً فشياء شو …شو ..شو …شو ….شو.
يتوقف الجميع من لعك البليلة لتحديد مصدر الصوت.
تتساقط فروع شجرة الجميز عليهم.
حبوب تسقط على الأرض.
يصرخ جميع الأطفال بالداخل ينادونها حبوب ، حبوب ، حبوب ، أه حبوب .. أه حبوب… أه حبوب.
ولكنها لا تستجيب لهم بشئ كعادتها دوماً.
نهرع جميعا الي مكان سقوط الدانة ونجد حبوب مستلقية عند مدخل الكهف، نساعدها ونرفعها على العنقريب، الأطفال يذدادون صراخاً وعويلا حولنا، يتجمهر الجميع في البيت، أخترقت الروائش جسدها النحيل وظهرها المنحني، لم نستطيع أن نفعل لها شئ لأن المركز الصحية كلها مغلقة وخالية من أي دواء، كنا أمامها عاجزين حقيقة عن تقديم أي مساعدة لإنقاذ حياتها وإسعاد هؤلا الأطفال، حبوب البالغة من العمر 80 عاماً تئن من الألم ومن الجراح، أستخرجت كاميرتي (سوني) لأخذ منها صورة علها تدعم حفر وجود هذا المشهد في ذاكرتي، ولعلني أخبر بها الأجيال وأكون شاهداً يوماً ما عن إنتهاكات حكومة الخرطوم ضد شعبنا.
صمتنا جميعا ونحن نواري جسدها الثرى، صمتنا جميعاً ووحده القديس يصلي على روحها بصوته الجهور، صمتنا نحن وحيرنا صمت العالم تجاه ما يدور، صمتنا ونحن نتزكر الخطب الرنانة التي ألقيت أيام حرب البوسنة والهرسلة لانقاذ حياة المدنيين، صمتنا وبل فضلنا أن نصمت خوفاً من إزعاجهم بأخبارنا وبصورنا ومطالبنا لهم بأن يعاملوا الناس في بلادي بأنهم بشر متساوون في الحياة مثل غيرهم، صمتنا على عار حكومتنا وعار جيوشها المحاربون لشعوبهم فقط منذ أن عرفوا.
ونواصل….
طبانيا 2013م
[email protected]