محجوب حسين
SEPTEMBER 14, 2014
تُطرح خلال هذه الأيام، وعلى غير العادة، وبعد مضي خمسة وعشرين عاما على جلوس «البابا» السوداني على كرسي السلطة، في عدد من الأروقة والدوائر الوطنية والإقليمية والغربية «مخارج» للأزمة الوطنية السودانية، هذه الأزمة البنيوية في كل المفاصل والتكوينات يصُعب توصيفها ووضع إطار مفاهيمي متفق عليه، لتشابك وتقاطع منحنياتها التي خرجت من دائرة أيديولوجيات السودان ـ التي تعمل بخفاء داخل تكوينات وعي البني التحتية ـ الى صراع الإرادات المجتمعية المتباينة ذات الطموحات الشرعية التي بحاجة الى توافق سياسي يتلاءم ومعطيات الحراك الثقافي التاريخي الذي وقع داخلها، لأجل الانتقال من المواطنية المتعثرة، أو قل غير الموجودة، الى المواطنة الحقة التي تؤسس لدولة الحقوق والواجبات، غير المنتقاة على أساس أي فائض قيمة للآخر جراء تدويره لتناقضات التاريخ السوداني.
ضمن هذه «المخارج» يبدو أن آلية الحوار التي عرفتها أدبيات الحكم المهيمن «الوطني»، حيث الأصح أن يكون الحوار السوداني حول الوطن – المختلف حوله – نجد أن مرتكزه ووعاءه المحوري هو المجتمع الدولي، إن لم يكن هو المحدد لصياغته النهائية، بناء على المعطى الجامد فيه وهو صراع إرادات قواها الاجتماعية السياسية، جاءت في أي تشكيلات أو تكوينات، لم يعد فيه الحديث عن الأيديولوجيا ممكنا، بقدر ما يتم الاتفاق على محاصرة الأيديولوجيا الشاذة محل الجريمة، وأعني به مشروع الإسلامويين السودانيين، الذي أخذ الخارج منه ما يريده في الشأن السوداني، ويجوز الآن وصفه بأي شيء من الدلالات والعبارات.
تنبع أهمية العامل الدولي كونه الحاسم ويتحكم في أصول اللعبة السودانية الداخلية بامتياز، والأهم توفيره للشروط المعيارية لنظام الحكم قصد الاستمرار، رغم تآكل كل المحددات المعروفة لبقائه في السلطة، رغم اكتمال أسس شرعية التغيير الوطنية في البلاد، لكن احتياجات «المنظم» الدولي كانت لبقاء الحكم الإمبراطوري للبشير، الذي عرف المنظم الدولي أخلاقياته وجاهزيته لبيع أي شيء في سبيل البقاء والعيش المدفوع الثمن في تلبية متطلبات الدولي وشروطه في السودان، ووضح هذا جليا في تقسيم السودان الممنهج شكلا وموضوعا، واستعداده حتى لفصل الخرطوم عن السودان إن طُلب منه. إذن الحوار السوداني الذي يجب أن يؤسس له، أساسه يتمحور حول صراع الإٍرادت بين «الاقوميات» المجتمعية المتباينة في مجتمع غير واحد، وهو واقع تحت حمولات ذهنية عنيفة في التعاطي مع نفسه ومع الآخرين. هذا الحوار الذي هو شكل من أشكال التفاوض السياسي السلمي، حتى لا يقع في دائرة العبث بالمفاهيم، ليس بالأمر الهين واليسير مثلما دعا إليه كاتب عامود سوداني مرموق تحت عنوان «مقترح»، ويقترح إقامته عبر «الفيديوكونفرينس» للوصول الى النهايات بسرعة. إن التفاوض عبر آلية الحوار ليس الغرض منه الوصول الى اتفاقات مع نظام الحكم أو رفده بشرعية أخرى أو مشاركته في نصيب الثروة والسلطة، وإنما هو حوار يتناول الإشكاليات البنيوية للدولة السودانية، والأهم ما فيه بنية السلطة السودانية و»تابو» «السيستم» السياسي والثقافي والاجتماعي والديني في راهنه وتاريخه، وفك أسر هذه السلطة لنفسها وللآخرين بشكل يلبي طموحات صراع هذه الإرادات بشرعية واحدة لا مجال فيها للتراتبية النمطية السائدة، القائمة على توهمات ذهنية تعمل بوعي وتسقط إكراهاتها على الجميع، بأدوات عنف رمزية ومادية ومعنوية مألوفة. إذن هي تسوية تاريخية تحدد الإشكاليات، بدءا من تعريف الأزمة ووضع إطارها المفاهيمي والبحث عن توليفة سياسية تجمع تناقض نزعات وطموحات شرعيات هذه «الأقوميات» المجتمعية في حوار الـ»أنا وأنت» و»أنا وهم « كما عقلانية، لا مجال فيها لمفهوم « الصفقة» في بعدها التجاري أو السياسي ولا «المساومة» التي تعالج ظواهر شكلانية محدودة ولفترة زمنية قصيرة، تستأثر أو يستأثر بها طرفا المساومة فقط، ولا ينسحب أثره للآخرين. إن تمت هذه التوليفة مع احتفاظ كل إرادة أقوامية مجتمعية بحقها في النقض، ولو جاءت عبر كتل سياسية/ ثقافية/ برامجية، حينها يمكن الاتفاق على رسم الأطر الدستورية المنظمة لها وقوالبها القانونية والإجرائية وأدوات ردعها القضائية والحربية، لتأسيس العقد الاجتماعي الدستوري الجديد، الذي ينظم الخلل التاريخي في السودان بدمقرطة ليست مسطرية كالتي تجري في السابق، وإنما دمقرطة تلبي حاجيات وطموحات هذه الإرادت الأقوامية بدمقرطة توافقية أو دمقرطة محاصصاتية ما دمنا مجتمعات غير مثالية أو رسولية مبشرة أو غير راشدة أو حتى «شذاذا للآفاق» كما يقول كبيرهم!
المرتقب من حوار كهذا أن يؤسس لولادة طبيعة، بل استقلال جديد للسودان، لا مكان فيه للاشتراطات التي لا يمتلكها أحد، لكي يفرضها على الآخرين بحجمهم ونسبهم السكانية. أما بعض أصوات الصلف السياسي لحزب البشير، التي تتتحدث عن أولوية «الاعتراف» بالجبهة الثورية المسلحة، ولا ندري هنا يعترف بمن؟ المؤكد ليست هناك مرجعية قانونية أو عقدية أو دستورية رضائية لها، تمتلك الشرعية الوطنية الكاملة لكي نتحدث عن «اعتراف». كما أن «الاعتراف» حتى في القانون الدولي، يرتب التزامات تمارسها الدول، وفق مفهوم المصلحة السياسية تتجاوز بها السياقات التي وردت في الأمم المتحدة. وإذا نظرنا بموضوعية نجد أن الجبهة الثورية شرعيتها تكمن في حقوق جماهيرها ومكوناتها الاجتماعية ونضالاتها لتحقيق هذه الحقوق، بغض النظر عن موقف البعض منها، كونها قد تنقص مما يعرف بـ»الحقوق التاريخية» التي اكتسبتها بدون مبرر موضوعي، غير الغفلة والنوايا الحسنة للجميع لتحمل عبء تحامل التاريخ عليها، الى ذلك عندما تتحدث السلطة عن اعتراف بالضرورة أنها تتحكم في كامل ترابها، وهي ليست كذلك، سيادتها مقطوعة ومجتزأة وتسيطر عليها قوى بديلة أخرى تناهض مشروعها القائم على الهيمنة والسطوة والقوى الدولية تعدادها يقترب من الجيش السوداني داخل الأرض السودانية.
يبقى استفهام أخير يتعلق «بالتوبة» التكتيكية للبشير، او استراتيجيته الجديدة، وإعلان قبوله بحوار الحد الأدنى، وهو يعلم غاياته النهائية، والاستفهام يطرح ما الجديد الذي قدمه المجتمع الدولي للبشير، بالطبع ليست وطنيته التي دفعته بقدر ما أن «المساومة» قد تقع معه في كرت الجنائية، مقابل فك الوطن الذي حوّله بعد إصدار مذكرة التوقيف الدولية ضده الى مسألة ذاتية محضة، إدارة وتدبير الشأن العام مربوط بهذه الذاتية لتحقيق المصلحة الوطنية العامة وتلك هي المفارقة. وسوف نعود الى المحكمة الجنائية وتفاعلاتها في الشأن العام والأزمة السودانية، وهل صانع القرار الدولي يتعاطى معها بفهم قانوني دولي، أم بتوظيف سياسي لتحقيق غاياته، وأين حقوق الضحايا التي لا تسقط بالتقادم، وهل المحكمة حققت شيئا من العدالة في موقع ارتكاب الجريمة وأفادت الأزمة السودانية؟ كل هذا لا يغير موقفنا من أن رمزية محاكمة البشير هي محاكمة للمشروع الإسلاموي والعقل المهيمن والاستبداد في السودان.
٭ كاتب سوداني مقيم لندن
محجوب حسين