المبعوث الامريكي ينتقد عقوبات واشنطن على الخرطوم.. لغة المصالح تحكم مسار العلاقات الامريكية السودانية
الكونجرس الامريكي يستمع إلى مرافعة تدين سياسات البيت الابيض في افريقيا
الخرطوم-الشرق القطرية:
(لابد من استثمار ما تحقق من فتح جديد فى الحصول على نتائج عملية تدعم تطور العلاقات بين الخرطوم وواشنطن.)، عبارة جرت على لسان أكثر من مسئول سوداني خلال المرحلة الماضية، والفتح المعني هو التطور الذى انتظم مسار العلاقات الثنائية بعد جولات من المفاوضات شهدتها الخرطوم وواشنطن وجوبا خلال الثلاثة أشهر الماضية.
حالة جرد.. فالحوار السوداني الأمريكي الذي شهد تفاهماً غير مسبوق دخل فى حالة (جرد متأنية) هذه الأيام بعد أن رجح الطرفان لغة المصالح ونفذا مباشرة ولأول مرة فى وضع مطالب كل طرف على طاولة الحوار عكس ما كان يحدث فى المرات الماضية.
فالخرطوم التى ظلت تعاني من العقوبات الأمريكية وتبعات وضعها فى لائحة الدول الداعمة للإرهاب مازالت تأمل فى خطوة عملية تحول النوايا الحسنة لاسكوت غرايشن مبعوث الرئيس الامريكي باراك اوباما إلى سياسة امريكية رسمية خاصة وان قاموس الرجل اتسم بكثير من الاعتدال وغير قليل من الأشواق فى علاقات جيدة ومستقرة مع السودان.
وعلى الرغم من الضغوط التى يتعرض لها غرايشون من النشطاء وجماعات الضغط داخل المؤسسات الأمريكية الا أن خطاب الرجل ظل يتحدث بلغة متفائلة حول مستقبل العلاقات مع السودان، فقد أعلن خلال أغسطس الماضي فى جوبا، أنّ بلاده تُفَكِّر في رفع العقوبات المفروضة على السودان جزئياً من أجل تسهيل وصول المساعدات إلى الجنوب. وقال “لا نفكّر في رفع العقوبات كلياً في المستقبل القريب، بل نفكّر في عقوبات مرنة وذكية”. وأضاف من الضروري أن نقوم ببعض الاستثناءات في ما يتعلق بهذه العقوبات”.
شهادة غرايشون
وكانت تصريحات لغرايشون داخل الكونغرس الأمريكي فى يوليو المنصرم — انتقدت سياسة العقوبات على السودان ورأت انه ليس هنالك ما يبرر وجود الخرطوم على لائحة الإرهاب — قد أثارت جدلاً واسعاً وقادت إلى ضغوط كثيفة على الرجل انتهت إلى توضيحات منه داخل مبنى الأمم المتحدة بنيويورك حملت القول إن تصريحاته قد أُسيئ فهمها — لكن هذه التوضيحات لم تشغل الحكومة كثيراً فهي تدرك أن غرايشن يبحر ضد تيار قوى داخل مؤسسات أمريكا يدعو للإبقاء على السودان ضمن — محور الشر — والتعامل معه على نحو لا يخرجه من دائرة العقوبات والتصنيفات السوداء.
سياسة الحمير
فالخرطوم التى تراهن على أن التغيير تيار موجود داخل إدارة أوباما وان حجبته تصريحات الصقور، تسعى جاهدة لوضع غرايشون أمام نمط مختلف من الحوار يرجح لغة المصالح والأفعال ولا يراهن على النوايا والأقوال. وربما كانت تجربة الحوار القديم بين واشنطن والخرطوم سبباً فى بروز اسس جديدة لاستمرار الحوار القديم، فالملاحظ ان الحكومة قد تعاونت كثيراً مع الإدارة الأمريكية السابقة فى ملف الإرهاب الذي شكل هماً استراتيجياً لادارة جورج دبليو بوش دون أن تحصد أية نقطة تبتعد بها عن خطر العقوبات الامريكية، وقد ظلت العلاقة بين الطرفين خلال الحقبة الماضية قائمة على إستراتيجية (الجزرة والعصا) التى قال غرايشون أمام الكونغرس انها (سياسة حمير) منتقداً أن تكون اسلوباً تنتهجه الولايات المتحدة الامريكية، والشاهد كذلك ان واشنطن ظلت تطالب الخرطوم بكثير من التنازلات التى انتهت إلى توقيع اتفاقية سلام جنوب السودان فى 2005 دون ان تفي بوعدها فى تحسين العلاقات الثنائية، كما انها طالبت الحكومة بتوقيع اتفاقية ابوجا فى العام 2006 مقابل حوافز قادمة على طريق دعم السلام والاستقرار فى دارفور غير أن هذا الأمر لم يحدث بل ارتدت سياسة واشنطن إلى الأسوأ وانتقلت لدعم الحركات غير الموقعة على الاتفاق للحد الذي أدخل الأزمة فى نفق تدويل مخيف انتهى بإحالة ملف دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاي.
تجارب خاسرة
ويمكن القول إنه وعلى الرغم من تعاون السودان مع الإدارات الأمريكية السابقة الا أن الولايات المتحدة ظلت تلقي بثقلها الدولي فى تمرير جميع القرارات ضد السودان داخل المؤسسات الدولية الأمر الذي عرقل حركته السياسية والاقتصادية كثيراً.
ومن الواضح أن تجارب الحوار الخاسرة مع واشنطن فى الماضي هي من جعل الدكتور غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية يقول فى اغسطس الماضي بعد جولة حوار مع المبعوث الامريكي فى جوبا (إنّ العلاقة مع أمريكا مازالت تراوح مكانها، وانه حال توصل الحكومة الى أن الحوار مع أمريكا يضر بمصالحها ومبادئها القومية فإنها لن تستمر فيه، وتابع: (المهم ستبقى قضية العلاقات الثنائية عالقة، والمطلوبات فيها من الطرف الأمريكي، وأضاف: هناك مسائل تحتاج إلى تغييرات واعتذارات في بعض الأحيان، وقال: لا أتصوّر مستقبل علاقات «مبشرا» اذا لم يحدث تصحيح لهذه السياسة).
لغة المطلوبات
وهكذا صعدت فجأة بعد وصول الطرفين إلى تفاهم مشترك (لغة المطلوبات) فالولايات المتحدة الأمريكية تطالب الخرطوم بحزمة من الرغبات المعبرة فى أصلها عن ضغوط تمارس على إدارة أوباما بشأن الأوضاع فى دارفور فى مقدمتها تحسين الأوضاع على الأرض وإزالة العراقيل أمام حركة الإغاثة وضمان محاكمة المتورطين فى جرائم بدارفور إلى جانب انتهاج السلام كخيار استراتيجي عبر تعزيز المسار التفاوضي مع الحركات المسلحة وتبحث واشنطن عن دور فى الجنوب عبر الاهتمام المتعاظم بسير تنفيذ اتفاقية السلام والاطمئنان على التزام الطرفين خاصة — المؤتمر الوطني — بما أقرته الاتفاقية من إجراءات وانتجته من قوانين لتحقيق التحول الديمقراطي وانجاز التعداد السكاني والانتخابات وتنفيذ قرار لاهاي بشأن أبيي وترسيم الحدود وإجراء الاستفتاء فى العام 2011م.
وتطمح الولايات المتحدة كذلك فى تحقيق مصالحها الخاصة بضمان وجود فاعل فى السودان يلبي حاجتها الأمنية عبر الاستفادة من موقعه الجغرافي خاصة وانها تخطط لأن يضم السودان أكبر مركز استخباراتي لها فى منطقة شرق ووسط افريقيا، كما ان التسابق مع الصين فى استثمارات النفط السوداني يراود سعيها لضمان مصالح اقتصادية كبرى.
مطالب سودانية
الجانب السوداني وفي كل جولات الحوار منذ عهد الرئيس الامريكي السابق جورج بوش كان يطالب بضرورة رفع اسم السودان عن قائمة الدول — التي يدعى أنها ترعى الإرهاب — والتى ظل عضواً دائما ًبها منذ العام 1993 — وإلغاء العقوبات الأمريكية الاقتصادية الأحادية.
كما أن السودان يطالب بترفيع التعاون الدبلوماسي وإلغاء عدد من القيود المفروضة على حركة وتحويلات البعثات الدبلوماسية ويدعو واشنطن إلى عدم استغلال ثقلها فى الضغط على السودان داخل المؤسسات الدولية مع الدفع بعملية السلام فى دارفور ولعب دور محايد لا يحابي الحركات على حساب الحكومة التى ترى أنها اوفت بكل ما وعدت به المجتمع الدولي على صعيد الحل السياسي والوضع الإنساني والمسار الأمني، كما ان الخرطوم تطالب واشنطن باتخاذ موقف واضح من المحكمة الجنائية الدولية وما ساقته من اتهامات ضد الرئيس عمر البشير وتدعوها إلى التعامل بحياد لا يكرس لانقسام السودان عبر الانحياز غير المؤسس للحركة الشعبية التى تعمل على عرقلة حوار التطبيع السوداني الامريكي حسبما أعلن باقان أموم أمينها العام من داخل مبنى الكونجرس الأمريكي الشهر قبل الماضي.
مصفوفة سودانية
القيادة السودانية وضعت أمام غرايشون مصفوفة مطالب شكلت إطاراً للقضايا العالقة وقال د. غازي عقب جولة الحوار السوداني الأمريكي فى واشنطن حول رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب إنّ العملية تدرس الآن، وقال إنّه تقدم لغرايشون بمقترح لوضع إطار لحل القضية.
ويرى المراقبون ان أهم اختراق تم إنجازه في جولة مسئول ملف دارفور في حزب المؤتمر الوطني، د. غازي صلاح الدين، إلى الولايات المتحدة مؤخراً، هو فتح قناة اتصال مباشر بين الخرطوم وواشنطن بعيداً عن تأثيرات سابقة لدول مجاورة، ويشيرون إلى أنّ ثاني اختراق يتمثل في عدم ترك العلاقات السودانية الأمريكية بيد (الحركة الشعبية) وحدها أو المعارضة السودانية، ويؤكدون أنّ دخول المؤتمر الوطني على خط العلاقات المباشرة مع الإدارة الأمريكية بإمكانه تعديل موقف واشنطن من السودان من خلال فهم الصورة داخله بلا تأويل يخضع للنوايا والأجندة.
مراجعة أمريكية
الواقع يقول إن إدارة الرئيس باراك اوباما تقوم بمراجعة مكثفة لسياستها تجاه السودان ولكنها لم تتخذ بعد قرارات محددة بعد. وقد جاء هذا الأمر على لسان هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية أثناء تصريحات لها في يوليو الماضي فى سياق نفيها لأن تكون الولايات المتحدة اتخذت قراراً يقضي برفع اسم السودان عن الدول الداعمة للإرهاب. لكنها أضافت إن حكومة الرئيس باراك اوباما تقوم بمراجعة مكثفة لسياستها تجاه السودان ولكنها لم تتخذ بعد قرارات محددة.
مقترحات داعمة
وكان د. غازي صلاح الدين، قد قدّم تقريراً مفصّلاً للرئيس عمر البشير حول جولته بالولايات المتحدة الأمريكية فى يونيو الماضي، ونتائج اجتماع دعم سلام نيفاشا الذي احتضنته العاصمة الأمريكية واشنطن. وتضمّن تقرير د. غازي، آنذاك مقترحات لدعم العلاقات السودانية الأمريكية منها مواصلة الاتصال بالجهات التي كان يصعب الاتصال بها كالكونجرس، بجانب التعامل مع المجموعات التي تشكل القرار في الإدارة الأمريكية سواء المنظمات أو الأجهزة الإعلامية، باعتبارها رافداً مهماً في تأسيس الموقف الأمريكي.
وشدّد غازي صلاح الدين، في تصريحات صحفية على أهمية استثمار ما تحقق من فتح جديد في السياسة، عبر اتخاذ إجراءات والقيام بحملات ومضاعفة الجهود في معالجة قضية دارفور، والقضايا العالقة، وتسريع التحوّل السياسي القائم من خلال الانتخابات لممارسة حق تقرير المصير للجنوب.
رجل المهام
ويرى مراقبون أن تسمية د. غازي لمهام ملف دارفور كان المدخل المهم لتمكين الرجل من تعميق جذور الحوار مع أمريكا التى ترى أن قضية الإقليم تمثل مدخلاً أساسياً لتسوية الأوضاع مع السودان، ويؤكد آخرون أن واحدة من دلالات التفاؤل بمستقبل العلاقات بين الخرطوم وواشنطن كانت خطوة إسناد الملف إلى شخصية بمواصفات الدكتور غازي الذي عرف بانه (رجل مهام) ومفاوض متمكن ومحاور صاحب رؤية وتجارب. ولابد من الإشارة الى أنه كان من طليعة المفاوضين حول سلام الجنوب يوم أن كان مستشاراً لشؤون السلام ويعتبر أول ظهور له على المسرح السياسي في عهد الانقاذ حين أصبح مستشاراً لرئيس الجمهورية للشؤون السياسية فى 1994 ثم تولى منصب وزير دولة بالخارجية في منتصف التسعينيات، ومن ثم كلف بأمانة المؤتمر الوطني وقد ظل منذ ذلك الوقت يتنقل بين أكثر الملفات أهمية وحساسية على الإطلاق.
خلاصة القول ان استراتيجية الخرطوم الراهنة تضغط باتجاه خطوات عملية تترجم مواقف غرايشون الايجابية واعتداله المتصاعد إلى اجراءات ملموسة بينما تتأنى واشنطن الآن بحسابات التعقيدات داخل المؤسسات الامريكية فهي مازالت تتحدث بلسانين حول الشأن السوداني، غير ان منهج الحكومة الرامي (للحوار بالمقابل) يكرس لعقيدة تفاوضية جديدة لانجاح الحوار القديم فى محاولة للتوصل إلى نتائج تذلل العقبات التى تعترض مسار العلاقات الثنائية وتفتح باب التطبيع على مصراعيه، لكن برغم حماس الخرطوم المطرد للتعاون مع امريكا فمن الواضح انها لن تعطي ما لم تتسلم اجراء ملموسا هذه المرة.