أحمد حسين آدم
في شهر رمضان/أغسطس 2013، ووسط حشد كبير من أنصار السلطة في السودان، وتحديدا في منزل الدكتور التجاني السيسي، رئيس السلطة الإقليمية في دارفور حينذاك، في ضاحية كافوري الفاخرة في الخرطوم، انبرى رأس النظام السوداني، عمر البشير، واعظا وخطيبا، يعظ الجمع بعاطفة دينية بائنة عن بركات شهر رمضان المعظم، ولكنه في سياق خطبته قدم اعترافات خطيرة، استثنائية وتاريخية بكل المقاييس عن الحرب في دارفور.
قال» إننا قتلنا الناس في دارفور لأسباب «تافهة»… عندما راجعنا أسباب القتل في دارفور وجدنا أنها لا تستحق قتل «خروف- شاة»، دعك عن قتل نفس مؤمنة بريئة». ومضى البشير قائلا: «كلنا مسؤولون عن قتل أهل دارفور.. عندما أقول كلنا، أعني المسؤولية تبدأ من البشير، مرورا بالتجاني سيسي، وحتى أصغر جندي حكومي يقاتل في دارفور». وواصل البشير حديثه الذي نشر في فيديو شاهده الملايين قائلا: «لم أجد
في الدين أي كفارة في الدنيا عن القتل العمد للنفس المؤمنة. إن قاتل النفس المؤمنة لن ينال كتابه بيمينه يوم القيامة». وردد قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، «إن زوال الكعبة لأهون على الله من قتل نفس مؤمنة». هذه كانت كلمات واعترافات البشير التاريخية، حيث شاهده الملايين وهو يدلي بها في شريط الفيديو الذي ما يزال متداولا. لا شك أنها اعترافات خطيرة تفوه بها البشير بعد عشر سنوات من حرب الإبادة في دارفور التي اندلعت عام 2003 ، واعترافاته أكدت ما ظل يردده أهل دارفور والسودان والمنظمات الحقوقية والمحكمة الجنائية الدولية.
بعد اعترافات البشير واستدعائه للنصوص الدينية المحرمة لقتل النفس البشرية البريئة استبشر بعض الناس خيرا بأن الرجل تاب وأنه سيفتح صفحة جديدة مع أَهل دارفور، عنوانها إيقاف الحرب والتسامح وإرجاع الحقوق المشروعة، لكن الكثيرين شككوا في صدقية وجدية تلك الاعترافات واتباعها بالعمل وسياسة جديدة توقف الحرب والانتهاكات ضد المدنيين العزل في دارفور، لأن عقيدة النظام تنهض على الحل العسكري والأمني لقضايا الوطن السياسية المعقدة، كما أن النظام عندما خطط للحرب في دارفور كان يظن أن المجتمع الدولي الغربي سيغض الطرف عن جرائمه بدعوى أن أهل دارفور مسلمون والغرب لن يهتم بأمرهم، خاصة أن النظام حينها كان يقدم التنازلات تلو الأخرى في العملية السلمية الخاصة بإنهاء الحرب في جنوب السودان.
كما كان متوقعا، فإن البشير لم يتبع اعترافاته وصحوة ضميره العابرة تلك – إن كانت صادقة- بأي إجراءات أو سياسة جديدة توقف إزهاق الأرواح البريئة وتحقق السلام العادل في دارفور، أو يحاكم مسؤولا مدنيا أو عسكريا واحدا جراء إزهاق الأرواح البريئة في دارفور منذ عام 2003 ، كما اعترف في إفادته اليتيمة الخطيرة، على العكس من ذلك واصل إطلاق يد الجيش والمليشيات للقتل والتشريد في دارفور، لذلك ليس غريبا أن تصدر منظمة العفو الدولية «أمنستي» تقريرا جديدا يوثق الانتهاكات والفظائع المروعة ضد المدنيين في دارفور، خاصة الأطفال والنساء. فها هي تيرانا حسن، مديرة برنامج الاستجابة للأزمات بمنظمة العفو الدولية تصدع بإفادات صادمة ومروعة وتقدم للعالم تقريراً في 29 سبتمبر 2016، عن الانتهاكات في دارفور بعنوان «أرض محروقة وهواء مسموم»، تقول تيرانا حسن إن «الأطفال الرضع يصرخون من الألم قبل أن يموتوا، والأطفال الصغار يتقيأون دما.. المشاهد التي رأيناها مروعة حقا، الحكومة السودانية تتسبب في معاناة شعبها بشكل لا يوصف». يحتوي التقرير على مجموعة من الصور الفوتوغرافية والفيديوهات المروعة للضحايا الذين يمثل الأطفال أغلبيتهم، كما اشتمل التقرير على إفادات الشهود حول استخدام الحكومة السودانية للسلاح الكيماوي في منطقة جبل مرة في دارفور.
عرضت منظمة العفو الدولية الصور والأدلة التي جمعتها لخبيرين دوليين في مجال الأسلحة الكيماوية «الأسلحة غير التقليدية»، كلا على حده، فأكد كلاهما على «أن الأدلة تشير بقوة إلى تعرض الضحايا لمواد حارقة للجلود أو مواد مسببة للبثور، مثل مواد الحرب الكيميائية، كخردل الكبريت واللوزيت وخردل النتروجين». هذه الانتهاكات الجسيمة والمروعة يرتكبها النظام السوداني في القرن الذي أريد له أن يكون قرن الإنسانية بعد القرن الماضي الذي سمي بقرن «الهولوكوست أو الإبادة الجماعية».
القلب يتفطر دما وأطفال دارفور وجبال النوبة يبادون بالسلاح الكيماوي في ظل صمت سياسي ودبلوماسي وإعلامي – إقليمي ودولي مخز، على عكس رصفائهم ضحايا «كيماوي الأسد» في سوريا، فإن ضحايا «كيماوي البشير» في دارفور لا يجدون كاميرات التلفزة الدولية لتنقل وتوثق معاناتهم وفواجعهم المروعة، ضحايا محرقة دارفور من الأطفال والمدنيين لا يجدون المحافل والمؤسسات الدولية التي تندد وتتوعد جلاديهم بالعقوبات والردع لا جدال أن غياب الردع الدولي هو ما شجع البشير على الاستمرار في جرائمه، فقد فسر الصمت وغياب الردع الدولي كضوء أخضر ورخصة للقتل! لكن هل سيصمت كل المجتمع الدولي كل الوقت إزاء استخدام الكيماوي في دارفور وجبال النوبة؟ لا أظن ذلك.
لا شك أن العصبة الحاكمة في الخرطوم كآل البوربون «لا ينسون شيئا ولا يتعلمون شيئا»، وإلا كيف يرتكبون هذا الجرم الجسيم بهذه الفجاجة؟ ألا يدرون أن استخدام الكيماوي أمر محظور وخط دولي أحمر، لن يستطيعوا الإفلات من عواقبه الوخيمة؟ حيث لا يستطيع أصدقاؤهم الجدد في المحيط الإقليمي والدولي حمايتهم أو توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي والقانوني من عواقبه ومآلاته على مستقبل نظامهم؟ أرادوا لحرب دارفور أن تكون سرية، لكنها فاجأتهم فأصبحت أزمة إنسانية دولية جَرَّت البلادىالي شراك التدويل وعقوباته، والآن يستخدمون الكيماوي أكثر من ثلاثين مرة في جبل مرة، فقتلوا ما يقرب من الثلاثمئة من المدنيين، معظمهم من الأطفال – وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية، فعلوا ذلك ظنا منهم بأن العالم مشغول بأزمات أخرى وأن أمريكا وأوروبا قررتا التطبيع مع نظامهم لقاء الاستمرار في التعاون في مكافحة الاٍرهاب والهجرة، لكنهم مخطئون، فليستعدوا لسيناريوهات وعواقب استخدام السلاح الكيماوي في دارفور. صحيح أنه ما يزال هنالك صمت دولي، حيث لم تتحرك حتى الآن المؤسسات والوكالات الدولية المعنية كمجلس الأمن، مجلس حقوق الإنسان ومنظمة منع استخدام الأسلحة الكيماوية وحتى الأمين العام للأمم المتحدة، بالبدء في إجراء تحقيق دولي مستقل في الاتهام باستخدام السلاح الكيماوي، بناء على تقرير منظمة العفو الدولية. لكن الصمت الدولي إزاء استخدام الكيماوي لن يستمر طويلا، فهنالك تحركات دولية واسعة وسط المنظمات الحقوقية المدنية «غير الحكومية» للضغط على الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية الرسمية بإجراء تحقيق دولي مستقل وعاجل في اتهام استخدام الكيماوي في قتل المدنيين في دارفور، لذلك يبدو أن النظام استشعر خطورة الأمر، وها هو جهاز أمنه الذي يستخدمه البشير في القمع لبسط سلطته يتولى حملة الإنكار والتضليل وتفنيد تقرير منظمة العفو الدولية. غريب أن يتصدى جهاز الأمن للأمر، وليس وزارة الخارجية، أو وزارة الإعلام أو وزارة العدل، الأمر الذي يكشف بوضوح أزمة النظام وإفلاسه، لكن في جانب آخر ربما يُكشف تورط جهاز الأمن في جريمة استخدام الكيماوي ضد أطفال دارفور، ومهما يكن من أمر لن تنفع النظام محاولات وتلفيقات جهاز الأمن، ولا لقاءات إبراهيم غندور بهيئة تحرير صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، او التصريحات المهزوزة لقيادة البعثة الأممية الأفريقية (يوناميد) المغلوبة علي أمرها. على النظام إما أن يدعو منظمة منع استخدام الأسلحة الكيماوية أو مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في اتهامات منظمة العفو الدولية، أو أن يقبل بالتحقيق الدولي المستقل والوشيك.
إن الإبادة بالكيماوي وغير الكيماوي في السودان جرائم ضد كل مكونات الشعب السوداني، كما هي جرائم ضد الإنسانية، وجريمة الكيماوي واستمرار الإبادة تمثل امتحانا لوطنيتنا وإنسانيتنا جميعا، وعلى السودانيين كافة توحيد نضالهم وعدم الركون الى تجزئة قضايا وطنهم، فالكيماوي الذي استخدم لقتل أطفال دارفور وجنوب كردفان يمكن أن يستخدمه النظام ضد المدنيين في أي مكان في السودان، فها هي العصبة الحاكمة تدفن النفايات المسرطنة في شمال السودان، وتطلق العنان لمليشيات الجنجويد للبطش بالسودانيين على طول وعرض البلاد. علينا الاستنهاض والعمل الدؤوب والجاد لإنشاء حملة وجبهة تضامن دولية مع كل احرار العالم لمناصرة الضحايا ودعم نضال شعبنا من أجل الحرية والعدالة والسلام. هذا النطام لا يشبه شعبنا العريق المناضل.
القدس العربي