القوات المسلحة السودانية والعقيدة العسكرية (1 من 3)
تقديم: موجاف موجاف
هذه الصفحات تتناول مفاهيم العقيدة العسكرية بالنظر إليها من خلال الممارسات والأحداث التي تجري في السودان، وقد كان المفروض أن لا تتعدى بضعة وريقات إلا أن الموضوع تشعب فرأيت أن أشرع في تفصيله وتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، الأول يعرض إلى بعض الحقائق محلياً وعالمياً والثاني يركز على العقيدة العسكرية من منظور حقوق الإنسان والنظريات الحديثة للقوى العسكرية مع تناول القوات المسلحة السودانية موضوعاً للعنوان ثم يجمل الجزء الثالث تحليل مختصر للموضوع الأساسي وبعض الملاحظات والتوصيات وقائمة المراجع.
كلمات مفتاحية:
عقيدة عسكرية، حقوق الانسان، قوة دفاع السودان، استعمار بريطاني، قوات مسلحة سودانية، قانون القوات المسلحة، انتهاكات، حرب الجنوب، حرب دارفور، دكتاتورية، إبادة جماعية، الأمم المتحدة، حكومات عسكرية، حركات مسلحة.
الجزء الأول:
جمهورية السودان من دول العالم الثالث، والقوات المسلحة السودانية والجيش مؤسستان مهمتهما المحافظة على الدولة بالدفاع عن أمنها، ومكونات أي دولة هي الأرض والشعب والحكومة التي تدير الدولة، إذن من مهام الجيش الدفاع عن الأرض والشعب وأيضاً … الحكومة (ونعني الحكومة التي ارتضاها الشعب طوعاً وكلفها بإدارة الدولة).
لقد أسس الاستعمار البريطاني النواة الأولى للقوات المسلحة الحالية على افتراض أن الجندي السوداني ماهو إلا وقوداً لمعارك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في أفريقيا بل في مناطق أخرى خارج القارة كما سنرى عندما نستعرض الحروب التي خاضتها قوة دفاع السودان وهي حروب سيقوا إليها قسراً إذ يكفي المرء فخراً أنه يخدم في جيش الملكة! تلك الفترة كانت تسودها العقلية الإمبريالية التي تنظر فقط لمصالح الدولة المستعِمرة ولكنها تتكرم أحياناً على جيش الملكة بإسباغ بعض الألقاب من طائفة فارس ونبيل وغيرها مع القليل من الإطراء على سبيل التشجيع لبذل المزيد من الدماء، وهكذا وجدنا أنفسنا أعظم جيش في العالم في تلك الفترة ولايزال بعض الأحياء ممن شهدوا تلك الفترة يتحدثون عن (شجاعة الجندي السوداني) وبسالة الكتيبة السودانية قليلة العدد التي هزمت فيالق الأوروبيين في كرن والمكسيك وتركيا.
إلا أن ذات العقلية الإنجليزية التي كانت تدير الجندي السوداني بترفع ظلت وإلى الآن تحكم كل العلاقات المهنية والعامة والخاصة داخل مؤسساتنا العسكرية بل تحدد سلوك الجندي في الميدان وداخل المجتمع المدني فما فعلته المؤسسات العسكرية السودانية في كل المعارك التي خاضتها منذ الاستقلال تعتبر من الناحية العسكرية الحديثة مهام غير مبررة إذ لم تعد بأية فوائد واضحة على الدولة السودانية بل إن بعضها فضائح وجرائم في حق الدولة والشعب بالمعايير الحديثة. فالضابط الإنجليزي إبان فترة الحكم الثنائي كان يبدو في ممارسته لمهامه أقرب إلى السيد الإقطاعي ولن نظلمهم ونصفهم بالتعالي لأن ذلك السلوك كان سائداً ليس عندنا فحسب بل حتى في أمريكا والهند أثناء فترات احتلالها وهي ذات النظرة التي يرمقنا بها الطالب الحربي اليوم من خريجي الكلية الحربية عندما يصفنا بأننا مجرد (ملكية) ولا أعرف أصل الكلمة ولكن أظنها تعني أننا (مملوكين) لرأس النظام السائد في ذاك الوقت ونتبع كالأنعام بصفتنا أسفل الهرم الإنساني فنحن عبء على الإمبراطورية ولا نخدمها كما يفعل جنود الملكة، لكنها عموماً من الأوصاف المهينة في العرف العسكري.
ما استنكره هنا ليس ما حدث فهو تاريخ على أية حال لكن استمرار النهج هو ما حدا بي لكتابة هذا الموضوع لعرض بعض الملاحظات والتي تشمل جل الجوانب التنظيمية والإدارية والفنية لمؤسسات القوات المسلحة السودانية. قواتنا المسلحة في مجال الإمداد ظلت تعتمد حتى اليوم على ذات الشركة الإنجليزية التي كانت تزود القوات الإنجليزية بالأسلحة والذخائر منذ أيام قوة دفاع السودان وهذه الطريقة في توفير الدعم اللوجستي أضحت محفورة في عقول القائمين حيناً من الدهر حتى بدأ لهم أن العالم كله يشتري ذخائره من ذات الشركة بل حتى اليوم وعلى أعلى المستويات العسكرية تتم الإشارة إلى الأصناف العسكرية بذات الأسماء التقليدية أي تسمية الصنف باسم الجهة الموردة أو المصنع فإذا رغبوا في الحصول على معدات اتصال قالوا نحتاج إلى (سيناو) أو (راكال) وهي أسماء لشركات معدات اتصال قديمة والتزويد يتم بواسطة (وكيل) محلي هو في الأصل ضابط متقاعد أبت نفسه إلا أن يكمل الجميل بخدمة الجيش (من منازلهم) وهذا يسمى في العرف العسكري بالخدمة الطويلة الممتازة.
فهم يوفرون حاجتهم بطريقة السوبر ماركت أي تناول الحاجيات من الرفوف مباشرة على ما في ذلك من مخاطر معروفة كما أن الشراء بدون تحديد للمواصفات الفنية يجعل الجهة المزودة في حل من المحاسبة أو توفير البديل في حالة عدم جودة الصنف. مقاولي الجيش السوفياتي السابق كانوا يأتون إلى الدولة الأوروبية لشراء ملابس للجنود مثلاً فتعرض عليهم الأصناف الموجودة فيقلبونها ثم يتهامسون ويقولون حسناً هذه البضاعة جيدة لكننا نريد أن تكون الأزرار عند الأكمام أصغر قليلاً والياقة أعرض بعض الشيء وأن يكون اللون أغمق درجتين وكذلك الخيوط يجب أن تبدو أكثر لمعاناً لقسوة الشتاء عندنا! وهم بهذه المماحكة يتعمدون الحصول على ميزتين الأولى ضمان الحصول على بضاعة جديدة بعد أن يضطر صاحب المحل إلى تصنيع كمية جديدة بالمواصفات التي طلبوها والثانية ميزة كون الصنف تم تصنيعه خصيصاً لهم (هم).
في مايو استجلب بهاء الدين محمد إدريس طائرات هليكوبتر “مستعملة” من ركام الحرب العالمية الثانية قبل استقلال السودان كان هذا في الفترة التي توجه فيها النميري إلى المعسكر الغربي وقد كان بعض ضباط الإمداد كلفوا الدولة مبالغ معتبرة مقابل شراء شاحنات روسية كانت الواحدة تستهلك من الوقود لقطع المسافة من القيادة العامة لوادي سيدنا مقدار ما يكفي لإيصالها إلى ود مدني، وليس المقصود أية إشارة إلى فساد ما ولكن الطريقة التي كان يعمل بها أولوا الأمر في واجب الدفاع عن الدولة.
وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين عندما سئل في البرلمان عن كيفية دخول قوات العدل برر بأنهم إنما “يستعملون أسلحة من الحرب العالمية الثانية” والرجل كان صادقاً إذ ذكر حقيقة فالرادارات الروسية التي استجلبت في نهاية السبعينات وآلاف القطع الخفيفة وأجهزة الاتصال وحتى منتصف التسعينات بل المتوفرة حالياً كانت من النوع البالي ومعروف أن كل الدول توفر أحدث التقنيات للجيوش وتقوم باستبدالها وتطويرها للإبقاء على التفوق العسكري، وكانت الحاميات في الولايات تستعمل هواتف ميكانيكية عتيقة عفواً إنها الآن تستعمل وسائل الكمبيوتر الحديثة ولكن دون تشفير، أي أن الإشارات العسكرية متاحة مجاناً في الهواء على الموجة المتوسطة لمن رغب في الإنصات إليها أو لم يرغب فهي عابرة للقارات.
الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة ووحداتها تعج بالمسميات المخيفة، سلاح النقل، سلاح الأسلحة والمهمات، الدفاع الجوي، وحدة الحرب الكيماوية، أكاديمية الحرب العليا، سلاح المظلات وحتى وقت قريب كان هناك سلاح اسمه (سلاح الموسيقى) حتى الآلات الموسيقية اعتبرت … أسلحة! بالإضافة إلى ما يزيد عن ثلاثة عشر فرقة موزعة على مساحة البلاد وكلها لا تعدل لواء حديث مجهز بطريقة علمية مدروسة بل تستخدم أسلوب جنكيز خان في الحرب والسلم معاً.
قبل أن نخوض في موضوعنا الأساسي سنعرض بعض النقاط التي تفيد المقارنة من أجل مناقشة موضوع العقيدة العسكرية من زاوية حقوق الإنسان وكذلك من زاوية القوى العسكرية الحديثة وسنبدأ بعرض بعض الأحداث التي تبين كيف يفكر أعدائنا من الأمريكان واليهود ليس إظهاراً لانسانيتهم بل تقديمهم بالصورة التي أعتقد أن أغلبنا يوافق على أنها تعبر عما يحدث في الواقع:
1. رأينا الكفرة والضالين أيام حرب البلقان مطلع التسعينات يناصرون المسلمين الألبان في حرب البلقان (إقليم كسوفو) رأيناهم يقصفون المدن الصربية حتى سقط نظام ميلوسوفيتش المسؤول عن مذبحة مدينة سربينتشا 1991 فما الذي يرغم مسيحي بروتستانتي على قتال مسيحي كاثوليكي ومن أجل الدفاع عن آخر مسلم لا يتورع عن وصف أي منهما بالضلال والأيلولة إلى جهنم مستقراً بل لا يخشي أن يظهر سعادته إذا قام إخوته بتفجير مباني المسيحيين وطائراتهم بزعم مرضاة الله، العقيدة العسكرية لهؤلاء لا يحكمها الدين بل الإنسانية وأهداف استراتيجية واضحة لا تحتمل اللبس (أرجو أن لا يأتي من يرد علي بأطنان من الآيات بل أرحب بالردود المنطقية)، المسلمون وأهل الخليج سارعوا لنجدة الأوربيين بينما لم يلتفت أحدهم إلى الصومال التي ضربتها المجاعة وبدأت دولتها في الزوال، الصومال دولة أهلها مسلمون بينما ألبان كسوفو لا يحسنون قراءة الفاتحة ابتداء.
2. رأينا جند (دول البغي والاستكبار) تترفق بنا عند قصف مصنع الشفاء ليلاً بعد أن هدأت الشوارع ليس خوفاً من (دفاعاتنا الجوية أو سلاح الموسيقى) أو راجماتنا بل حتى لا يصاب بسوء أي من العاملين أو المارة في الشارع، الهدف المصنع وهذا أمر واضح للجميع.
3. في سنوات الحرب على الإرهاب كانت القاذفات الأمريكية تصلي مسلحي طالبان والقاعدة في طلعة وفي الطلعة التالية تعود طائرات النقل لتلقي شحنات الطعام لأن (المجاهدين) احتموا بالسكان القاطنين في الكهوف فلم يتمكن الأطفال والشيوخ والنساء من توفير طعامهم!
4. العريف جيسكا لينش (19 سنة) تم أسرها عام 2003 في الناصرية فهاجت وسائل الإعلام الأمريكية وأظهرتها على صورة بطل أمريكا في العراق وروجت إلى أنها لم تستسلم إلا بعد أن نفدت ذخيرتها وخارت قواها بعد العراك المكشوف (امرأة لرجل) بعقب البندقية، عادت بعد أن فُكت من الأسر لتقول (لست رامبو الذي تصوره القنوات، لقد دُهمنا في كمين كنت “خائفة” ولم أطلق أي رصاصة، ولا حتى واحدة) اعترفت بشجاعة دون وجل من فقدان حالة التمجيد والشهرة لأن أسرهم عودتهم على الصدق واحترام الإنسانية قبل اقتناص الفرص، لاحظوا أنها قالت (كنت خائفة) ورتبتها عريف.
5. الجيش الصهيوني لا يزال يوزع الإنذارات على سكان المخيمات في فلسطين قبل قصفها في حين تصر حركة حماس على أن تقصف المستعمرات من داخل تلك المخيمات التي تعج بالسكان، وفي سبتمبر من عام 2003 دخل سبعة وعشرين طيار إسرائيلي في إضراب ورفضوا طاعة الأوامر العسكرية بتنفيذ أية مهمات في قطاع غزة والضفة الغربية من شأنها تعريض المدنيين للخطر، الطيارون الإسرائيليون ذكروا (إننا نرفض المشاركة في الهجمات الجوية على المجمعات السكنية ونرفض الاستمرار في المهمات غير الأخلاقية وإيذاء المدنيين) (1) الطيارون رفضوا استخدام طائرات إف 16 ذات الطبيعية القتالية (Tactical Fighter) لقصف المدن بقنابل زنتها طن وذلك للقضاء على ناشطي حماس ومن بينهم الشيخ أحمد ياسين لأن هذا ليس ما تدربوا عليه، وقبل ذلك في عام 1982 أثناء غزو لبنان استقال قائد لواء دبابات إسرائيلي قائلاً إنه شاهد أطفالاً بنظارته الميدانية.
6. بعد توقيع اتفاقية السلام عام 2005 أطلقت الحركة الشعبية 750 أسير من الجيش السوداني إبداء لحسن النوايا، الجيش السوداني كان أذكى إذ لم يسع للاحتفاظ بأسير من الحركة الشعبية ولا واحد ولم يطلق الجيش السوداني أي أسير حتى الآن ولن يحتاج لذلك أبداً فالمجاهدون لم يتركوا من يمشي على قدمين مع أن الإسلام لم يأمر بمثل هذه الإبادة، المهم هنا هو أن قيادتنا لم تكن تعترف بأن لديها أسرى لدى الحركة فهم ليسوا سوى (جنود) أما الآخرون الذين سيقوا إلى الجنة فهؤلاء بعضهم عرسان طلقوا الحور العين وعادوا لنساء الدنيا وكانت القيادة الرسالية كافأتهم بأن تركتهم لمتعهدي حفلات (عرس الشهيد) فالمحظوظ زف إلى الحور العين في عرس بهيج نال فيه أهله جوال دقيق وبصل وسكر كنانة وجركانة زيت ثم قام شيخ منهم يحكي عن كرامات الميل ذاك تقاطعه التكبيرات بغتة وعن القرود التي كانت تسابقهم لحفر الألغام وإزالتها وكيف أن رائحة (الشهيد) كانت تفوح كالمسك ثم رقصوا على أنغام (الليلة هوي ياليلة شهيدنا عرسو الليلة) ولم ينسوا أثناء ذلك أن يسلموا أم العريس بعض الجنيهات وخطاباً شاعرياً يبدأ دائماً بكلمة أمَّاه –كان قد كتبه الشهيد لأمه لكن بأسلوب اسحق أحمد فضل الله! غالباً- هذا قبل أن ينصرفوا مطلقين بضعة رصاصات كلاشنكوف في الهواء على طريقة رعاة البقر المكسيكيين بين التكبير والتهليل إشهاراً للعقد ولاحول ولاقوة إلا بالله.
7. في غوانتنامو وأبي غريب كانوا يعاقبونهم بالبرد والتعذيب النفسي والإهانة الجسدية والتخويف لاستقاء المعلومات منهم وبشلالات الماء (وهي تقنية تتم بصب الماء بغذارة على السجين وهو معصوب العينين فيعطيه ذلك الإحساس بالغرق ويقصد بها التأثير النفسي بالتخويف) بينما كان الجيش الإيراني يعاقب أسرى العراق بربط أطرافهم وسحبها بعربات الجيب، ونشير هنا إلى أن وسائل الإعلام الغربية هي من كشف الخبر (الفضيحة في عرفهم) وأن شعوبهم هي التي طالبت بالمحاسبة وشعوبنا هي التي (أظهرت الغضب) أحد المنتمين إلى قناة الجزيرة ذكر بعد إطلاق سراحه في صفقة سياسية أنهم مُنعوا من أداء الصلاة بينما ذكر آخر من الشيشان أن الرعاية الصحية والوجبات التي كانوا يتلقونها في المعتقل (أفضل من أي مستشفى في روسيا بوتين) الغريب أن الحالة الصحية التي رأينا فيها سامي الحاج كانت طبيعية إلا من الإنهاك الذي سببه امتناعه عن الطعام وهذا يجعلنا نعتقد يقيناً بأن مواطننا العائد من المعتقل كان يقصد أن (أولئك الكفار) إنما منعوهم من أداء صلاة العيد (في جماعة) وزيارة الأهل بعد صلاة العيد في ميدان عام. لهذا اضطر وزير الدفاع دونالد رمسفيلد إلى الاستقالة بعد فضيحة أبوغريب كون أن تلك الوسائل تسيء إلى الدولة.
هذا بعض ماكان من حال الأعداء فكيف حالنا؟ كنا في طفولتنا نسمع بأن شخصاً اسمه “أبو كدوك” يشاع عنه أن تعهد للنميري بأن يسلمه أرض الجنوب (صحراء) إن هو أعطى الأمر بالتحرك ذات الأفكار تنتشر الآن بين المهووسين بأنهم “سيحيلوا دارفور قطعة من جهنم” وبأنهم “في استطاعتهم مسح تشاد من الخريطة” متناسين فشل القذافي قبلهم بعد أن استهتر بحسين هبري وبعث إليه بجيش تقوده النساء إمعاناً في الغطرسة.
1. عام 71 في الجزيرة أبا استعانت القوات المسلحة بالطائرات المصرية لقصف المواطنين ظلت إحداها حتى وقت قريب معلقة في الدوار شرق الهلتون وأزيلت بعد أن علق عليها حسني مبارك في حشد من بطانته متهكماً قائلاً (وهو السودان حيحاربنا بأيه، بالطيارة اللي قمب الهلتون؟) حدث هذا في التسعينات، حسني مبارك شارك في ضرب المدنيين في الجزيرة أبا والجيش المصري الآن يقتل حسني مبارك السودانيين على الحدود مع إسرائيل، يقتلونهم وهم في حالة الخروج (Exodus) وليس التسلل إلى مصر ثم تنشر الصحف في اليوم التالي أنهم قتلوا (أفارقة)، قتل رمسيس الثاني اليهود وهم يحاولون الخروج من مصر فهل هي مصادفة أن تحيط أم الدنيا أبنائها وأبناء جيرانها بهذا الحنان؟
2. في الثمانينيات ضربت طائرتان الإذاعة السودانية رداً على استفزازات النميري لرأس النظام الليبي، ذكر بعض ضباط (الدفاع الجوي) في التلفزيون (الطيارات دي جات “ماااشة” معا النيل طوااالي لمن جات الإذاعة قامت لفوق ورمت القنابل و”هربت”) وذكرتنا الحادثة بالطيارة التي جات تحوم فأخطأت هدفها لتصيب حمار كلتوم ست اللبن. المقصود من ذكر الحادثة أن النميري ورغم صداقته للأمريكان ذلك الوقت ورغم معرفته ببعض الأثرياء تجار السلاح (عدنان خاشقجي) إلا أنه لم يكن يعرف أن هناك اختراع اسمه الرادار لضبط سماء البلاد وحمايتها نميري كان ضابط مظلات.
3. في سنوات الديمقراطية الثالثة 1986-1989 وتحديداً في عام 1987 تسبب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الصادق الصديق عبد الرحمن محمد أحمد “المهدي” في أحداث الضعين حيث أبيد الألوف من الدينكا حرقاً في محطة السكة الحديد بعد أن أوهمهم السكان بأنهم سيرحَّلون إلى واو ثم داهمتهم عصابات (أم باغة) وهم مسلحون من قبائل الرزيقات والمسيرية تم تسليحهم من مخازن الجيش حيث كان الصادق المهدي يعول عليهم من الناحية التكتيكية لصد قوات جون قرنق ولتشكيل ما سمي بالحزام العربي من الناحية الاستراتيجية، قام بالتسليح اللواء فضل الله برمة ناصر، النتيجة انتشار السلاح وتشكيل قوات المراحيل نواة مسلحي الجنجويد الحالية سيئة الذكر التي تقوم بالإبادة الجماعية. يقول من حضر تلك المذبحة من أبناء الرزيقات (بلا تأثر واضح) بقرت بطون الحوامل وهن يحاولن الفرار من القطار المشتعل بينما كان أطفال الدينكا يقذفون في الهواء فتتلقاهم حراب (الفرسان) في حفل شيطاني صاخب لا يشبه إنسان الأرض، تم ذلك بعلم الجيش الذي وفر السلاح ولم يشأ التدخل وعلم الإمام الصادق الصديق الذي لم يدين أو يحاسب في قتل النفس أو يعتذر لذوي الضحايا حتى الآن.
4. في بداية التسعينات كانت القوات المسلحة تسمم الآبار في جبال النوبة بعد أن شق عليها القتال في البقاع الوعرة، كان كبار السن يفدون المجموعة بالتقدم أولاً للشرب من الماء العزيز بحجة أنهم عاشوا ما يكفي ولا يخشون على حياتهم وإن ماتوا فإن الجيل التالي أحق بالحياة، وقصص مؤثرة عن أن النظام الحالي استجلب المتطرفين لمحاربة “الكفار والوثنيين” في جبال النوبة، المجاهدين من الذين أوتي بهم من أفغانستان وغيرها عادوا أدراجهم عندما سمعوا من يرفع الآذان فجراً من أعلى قمم تلك الجبال، (لقد قلتم لنا أنهم كفار!)، وهبْ أنهم كفار (ويأكلون الخنزير) فهل قتلهم أيسر من دعوتهم للنطق بالشهادتين؟ أم أن باب الهدى قد أغلق دونهم والإسلام لايتشرف بهم؟
5. عام 1999 قام كلنتون بقصف مصنع الشفاء في الخرطوم (أذكر أن مبارك الفاضل المهدي ظهر في قناة الجزيرة ببدلة رمادية بنصف كم وحرض على ضرب مصانع أخرى في جياد والجديد الثورة) بح صوت المتطرفين وهم يتوعدون الأمريكان بالفناء ورفع الآذان في البيت الأبيض ما شجع قرية اسمها أم ضريوة أن تعلن على لافتة قماش أنها تحذر أمريكا للمرة الأخيرة فاستبشرنا خيراً وقلنا حان الآن الوقت وسنرى قبل موتنا ما يحيق بالأمريكان الطغاة فتبين وبعد أن انجلت حرب الدمورية والدبلان أن الأمريكان قصفوا مصنع الشفاء بطائرات بدون طيار قطعت المسافة من البحر الأحمر وعادت سالمة (بإمكان هذه الطائرات التحليق لمدة 24 ساعة)، وللمرة الثانية في تاريخ قواتنا الباسلة اكتشفوا فجأة أن (الخرطوم) بلا رادار، كانت التقارير تذكر العاصمة فقط فليست هناك أهداف أخرى يجب حمايتها في الدولة! وأن المتوفر هو ذاك الذي يدور بلا هدى شرق مطار الخرطوم لإرشاد الطائرات المدنية والغريبة لم يتسائل قادة الأركان فيم إذن وجود سلاح الطيران وقوات للدفاع الجوي وسلاح موسيقى ورادارات روسية في وادي سيدنا المهيبة حيث ترقد الطائرات بسلام؟، ولم يعلقوا أبداً على الحادثة ولم تطالب هيئة القيادة بشراء الرادارات أيضاً، بل خرج إلينا من يتحدث عن كروز وتوماهوك (الأمريكان ليسوا بالمترفين لاستخدام أسلحة مشابهة) وذكَّرنا ذلك (بالخبراء العسكريين) العاطفيين أيام صدام الذين شككوا في سقوط بغداد وجلهم من المصريين الذين حاربوا في أكتوبر وعادوا بعد احتلال العراق للتبرير (ما همه لو كانوا حودوا من الناحية دي ماكنش إيه واخد بالك… آآه محصلش اللي حصل).
6. قام نافع علي نافع بمحاولة غبية لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في إثيوبيا عام 1995 وذلك بعد المساعدة في تغيير عدد من الأنظمة بأمر الترابي المهووس في (إرتريا، إثيوبيا وتشاد) والتدخل في شؤون كينيا والكنغو ويوغندا وسيراليون، لم يتبق إذ ذاك إلا مصر وأمريكا، والكل يعلم النتيجة احتلال حلايب وإرغام البلاد على استقبال آلاف المصريين العاطلين والانتهازيين وحثالة من المتشردين جاءوا للاستثمار بعد تطبيق اتفاق الحريات الأربع من طرف واحد فما أشبه الليلة بالبارحة، رماة الحدق استعصوا على عبد الله بن أبي السرح لكنهم أخضعوا لاتفاقية البقط، بل تعدى الأمر ذلك إلى الحديث عن توطين خمسة مليون مصري شمال السودان للاستفادة من الأراضي الزراعية التي ستوفرها مجموعة أسامة عبد الله للسدود العشوائية!. الرئيس السوداني علق على احتلال حلايب بما يعني (نحنا المصريين ديل لو جو لغايت الجيلي ما بنحاربم)! قالها القائد العام للجيش.
7. “لواء المتوكل” المتوغل في شمال يوغندا سراً كان يساند جيش الرب والمعارضة اليوغندية، كان قائده (نحجم عن ذكر الرتبة والاسم) يرسل التقارير مستنجداً وزارة الدفاع بالإمدادات حيث أن أفراده اضطروا لبيع ملابسهم لتوفير النقود لشراء الضروريات من الصابون ومعجون الأسنان، النتيجة احتلت يوغندا مثلث أليمي فهل تعجز دولة أي دولة عن قهر جيش تتبرأ منه قيادته بهذا النحو الفاضح؟ عادت نفس القيادة بعد أربع سنوات تطارد جوزف كوني لتأكيد تعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية واليوم يخرج إلينا من يقول بأننا لا نعترف بوجود محكمة دولية ولا تعنينا.
8. في سنوات حرب الجنوب استخدم ضابط بحرية (من أصول مصرية) برتبة عقيد برنامج كمبيوتر تجاري اسمه (PC Globe) لتحديد الإحداثيات على الأرض لضرب قوات جون قرنق، كانت سرايا الجيش السوداني تموت مع من تحاربها بسبب أن تلك البراميل لم تكن ذكية بما يكفي لتعرف مكان الهدف، الطيار كان يحمل جهاز تحديد مواقع تجاري تنتجه شركة اسمها (Magellan) ينظر إليه بين الفينة والأخرى ليرى إن (دخل في نطاق الهدف) يقول الطلاب المجاهدون أن تلك البراميل كانت تترك في الأرض حفيراً ترتوي منه الحيوانات عاماً كاملاً بعد أن يغطي مساحات واسعة بخردة الحديد.
9. في أبوجا الثانية 2006 سافر على عثمان فجأة للحاق بالوفد المفاوض وتفائل الناس بالوصول لحل مع كل حركات دارفور المسلحة بوجود بطل نيفاشا إلا أنه عاد مسرعاً بدون أي مشاركة بعد أن فشلت المعارضة التشادية وردت قبل وصولها العاصمة التشادية وتبين أنه إنما ذهب ليعلن الاعتراف بالحكومة الإنقلابية الجديدة في إنجمينا وإنهاء التفاوض مع الحركات المسلحة بهزيمة الدولة التي تدعمها هذا ما كان يردده المرافقون العسكريون على مسامع أفراد الحركات المسلحة (انتو ما حتشيلوا إلا العايزين نديكم ليهو نحنا) استباقاً لسقوط إنجمينا فجاءت الأنباء عن فشل الغزو المكون من مائتي عربة لاندكروزر حصيلة طبيعية لسوء التخطيط العسكري والاستهانة بقدرات الخصم، فالفشل في تقييم قوة الطرف الثاني بل الاستهتار بمقدراته بمقولة (كلها ميتين قطية ساعتين بس نستلم انجمينا) و (دبي ده جبناهو انحنا ولو دايرين نشيلو بستين لاندكروزر!!!) وهي التعبئة الخاطئة هذه التشاد أرغمت قذافي ليبيا (الذي تحدى أمريكا) أيام حسين هبري على الانسحاب من شريط أوزو الذي احتلته القوات الليبية التي كانت تقودها النساء إمعاناً في الاستهتار، دخل حسين هبري البيت الأبيض لملاقاة ريجان وهو يتأبط ذراع قائدة الجيش الليبي بعد أن هزم القذافي وتزوجها ولذا انتقم منه القذافي بدعم قوات المتمرد حينها إدريس دبي في غرب السودان وأزاحة من السلطة، لم يكن لنظام الجبهة أية مصلحة في التفضيل بين دبي أو حسين ولم يكن متفرغاً حتى يفتح جبهة جديدة ولكنها المراهقة السياسية.
10. في الفترة من 2003 وحتى 2009 سنوات حرب دارفور أو (حرب الجمل) كما وصفها الرئيس السوداني يحكي السكان المحليون هناك طرف كثيرة عن طائرات الأنتونوف يخاطب قائدها من السماء قاعدته الأرضية باستعمال ترددات (FM) التي يمكن استقبالها بأجهزة الراديو العادية، ما جادت به عقول مهندسي (التصنيع الحربي) هو تحويل الواحدة من طائرات النقل تلك إلى قاذفة معدلة (Improvised bomber) بتعبئتها ببضعة براميل معبأة بالبارود وخردة الحديد وعلى القائد أن يحمل جهاز الاتصال ثم يطير وعند بلوغ الهدف ترخى الحبال التي تلزم تلك البراميل، أسموها (أبابيل) فتأمل علاقة الشبه الدقيقة والهيستيريا الدينية الواضحة، الطيار هذه المرة لم يكن مرغماً على استخدام تقنيات تحديد المكان بل يكفيه النظر بعينيه بعد الانطلاق مع شروق الشمس فأرض دارفور مكشوفة، وبعد أن يفرغ حمولته على القرية، تدخلها قوات الجيش والجنجويد (أو حرس الحدود) – والتي قضت الليل كامنة تحاصر سكان القرية دون علمهم- للقضاء على ما تبقى من الأنفس بعد الغارة. ذكر صديق من دارفور أن النساء في المعسكرات كن يضعن حملهن في ستة أشهر من هول القصف الذي ما اعتدن عليه في ديارهن الآمنة.
11. في العاشر من مايو 2008 دخلت قوات العدل والمساواة إلى أم درمان بغرض الإستيلاء علي السلطة ووضع نهاية لمعاناة اهل الهامش وأيضاً رداً على المحاولة الأخيرة التي دعمتها الحكومة السودانية للإطاحة بادريس دبي في فبراير 2008 دخلت قوات خليل إبراهيم أمدرمان بنفس الطريقة التي حوصر بها دبي في قصره والجزاء من جنس العمل، القاعدة في اللعب الرياضي أن تحترم خصمك فكيف إذاً بالحرب؟ ومن قال أن السودان قوة عظمى والجيش السوداني لا يعي ضباطه الفرق بين الطائرة والصاروخ؟ عبقري من (سلاح المهندسين) اكتشف أسباب الاختراق قائلاً في لقاء تلفزيوني نهاري (عربات لاندكروزر جديييدة مصنوعة في اليابان تدوس الأبنصي بتاعا للنهاية ماتسمع صوتا!) وأضاف (تكب ليها جاز تشتغل تكب ليها بنزين تشتغل!) مشكور على الإضافة، هل فهمتم الآن لماذا ذكر الآخرون التوماهوك والكروز؟ بالله عليكم هل يختلف هذا الحديث عن أي ونسة يمكن أن تسمعها من ميكانيكي أمي في السوق الشعبي؟ آخرون ذكروا أن مخابرات دولة أجنبية كانت تمدهم بصور للأقمار الصناعية، حسناً نحن لا نعرف ما هي الأقمار الصناعية لكن لماذا فشلوا إذن في معرفة مكان الإذاعة؟ أو ليست من أهدافهم الثابتة؟ وهل الصور الجوية أضحت تقنية عسكرية سرية وأنا غير المتخصص أستطيع مشاهدة شجرة النيم في حوش منزلنا في امتداد المناقل من ارتفاع 400 كيلومتر مجاناً على غوغل إيرث؟ ويستطيع توماس الذي يسكن في حي روشستر بنيويورك باستخدام نفس التقنية التقصي عن سلوك الجيران في ضاحية بروكلن التي يود الانتقال إليها وهل كلبهم المزعج سيكون أمراً يمكن التعايش معه؟ حركة العدل والمساواة أعلنت قبل أسابيع أنها ستدخل العاصمة ووثقت ذلك بالصور والفيديو بينما يتفرج وزير الدفاع ويهزأ في حضور مدير مكتبه (هااا كضابين ساكت مابقدروا) قالها وهو يهييء تجاويف حنكه لبصق السعوط، إلا أن الحكمة التي قالها من أنهم إنما خططوا (لاستدراج الغزاة إلى أم درمان ثم القضاء عليهم) تبقى مقولة ينبغي أن تدرس في جامعاتنا غير المعترف بها حتى في كوكب الأرض المجاور، ربما سمع بقصة حصان طروادة وقصد تنفيذها مع بعض التعديلات!
12. في أكتوبر 2008 دخلت أفراد من قوات الأمن والقوات المسلحة إلى معسكر كلمة في دارفور بعد أن تناقلت وكالات الأنباء خبر المحكمة الجنائية الدولية فاستخدموا الرصاص ثم الحراب والفؤوس لإحداث الأثر المطلوب وهو تخويف النازحين ودفعهم لمغادرة المعسكر كما تمنى ذلك أبو سفيان (الطيب مصطفى) لأنه يراها (معسكرات العار)، والذي يشاهد صور الناجين لا يتمنى رؤيتها مرة أخرى، قالوا إن النازحين كانوا يخفون أسلحة، حسناً ألم يكن ممكناً محاصرة المعسكر وإجبار السكان على تسليم الأسلحة بحوزتهم؟ الم يكن ممكناً توسط الصليب الأحمر أو الاتحاد الأفريقي لتنفيذ المهمة؟ أما كان الأجدر طلب العون من (الحركات الموقعة) على أبوجا لإنهاء هذه القضية؟
13. في فبراير هذا العام 2009 ضربت إسرائيل رتلاً من الشاحنات متوجهة شمالاً إلى غزة، كانت تحمل أسلحة وصواريخ لدعم منظمة حماس، العملية تمت بعلم الحكومة في ذات الوقت التي كانت تعبأ فيه التظاهرات لدعم المدنيين المحاصرين في قطاع غزة وإدانة القصف الذي استهدف الأبرياء هناك. وللمرة الثالثة في تاريخ قواتنا الباسلة اكتشفوا فجأة أن (كل السودان) بلا رادارات بل عرف المواطن خبر الضربة من إسرائيل ذاتها فمن الذي صرح بالخبر للمواطنين هنا (وزير المواصلات الولائي) سيلفستر ستالوني أو المبروك مبارك سليم، وليس الناطق باسم الخارجية أو الناطق بلسان الجيش في أمر لم يتولاه القائد العام بنفسه لانشغاله بالرقص في مهرجانات الكيد لأوكامبو ذلك الحين، عاد بعد أن هدأت أنفاسه من السالسا والجيرك وقال أنهم بضعة مهربين! أوليسوا بشر من مواطنيك؟ فكم نصاب القتل الجماعي الموجب لاعتباره قضية وطنية حتى لا نزعج فخامتكم بهذه التفاهات. لم يخرج سكان غزة أو القدس مطلقاً لنصرة أي سوداني منذ الاستقلال بل رفضوا بتعالي الدماء التي تبرع بها السودانيون.
14. في التاسع من مايو عام 2009 فشلت للمرة الرابعة قوات معارضة لرئيس تشاد إدريس دبي متوجهة إلى انجمينا من إزاحته من الحكم بدعم من نظام الخرطوم وأرغمت على الانسحاب بعد استدراجها ثم الهجوم عليها من ست جهات، خسائرها كانت كبيرة في الأرواح، النتيجة تم احتلال كرنوي وأم برو ودخلت الحكومة والبلاد في أكبر فضيحة إذ لأول مرة تراجعت السلطات عن أقوال التهديد والوعيد إلى المناشدة “بالكف عن انتهاك حرمة الأراضي السودانية” ومن الذي ناشد؟ الجيش ذاته، ومن كان يصرح هذه المرة (وزير الثروة الحيوانية بولاية دارفور) حيث كان يتحدث عن التدابير الأمنية، لم يمتثل وزير الدفاع للمساءلة بالبرلمان في وضع غريب كان فيه الناطق باسم الخارجية يهدد بالحسم ويتوعد بينما الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة يغازل تشاد بقوله (إننا نعمل بالصفح)، عاد مسؤول الخارجية علي يوسف أحمد يقول “إن الحكومة السودانية ستحث تشاد على الاحجام عن انتهاك سيادة السودان ووقف عدوانها” و “إن على تشاد ان تعود الى صوابها وان تحترم الاتفاق الموقع في الدوحة” و “إن السودان لا يزال حريصا على التوصل الى حل دبلوماسي للازمة” وأنه يأمل في “أن تتدخل فرنسا والولايات المتحدة لمنع اي هجوم تشادي” و “حث جارته على عدم المضي قدما في الغارة التي هددت بشنها”. (يحثون) تشاد على التعقل (ويستجيرون) بفرنسا وأمريكا لحمايتهم من عدوانها، وهي الهزيمة في العرف العسكري بلا مواربة فأي فضيحة وأي ورطة أدخلتنا فيها قواتنا المسلحة وثورتنا الإنقاذية؟ الغريب أن المواطن المفترى عليه كان هو المبادر والمواطنين المغيبين في شندي والمتمة قال قائلهم (أيها الرئيس لو أمرتنا بصلاة المغرب في انجمينا لصلينا العصر هناك)! وها نحن نعود لأيام الفتوحات الإسلامية على المسلمين هذه المرة، ونستنكر في ذات الوقت أن يصرح بوش ببدء الحرب الصليبية ونخرج في مظاهرات إذا أبدى الآخرون رأيهم في نبينا.
يحدثونك عن أننا شاركنا في الحرب العالمية الأولى والثانية وذهبت قواتنا إلى المكسيك ولكنهم لا يطرحون أية تساؤلات عمن كنا ندافع وما كانت دوافعنا للمشاركة وماذا جنينا من ذلك، الجيش عندنا نظرياته العسكرية بسيطة وواضحة: العسكري ما ينوم عشان ما يفكر، قيادة عسكرية تجعل الجيش في وضع الدفاع دائماً ولكنها تهاجم المدنيين بكل جسارة وحقارة، نظريات بالية عن 10% خسائر ضرورية في الأفراد بينما إسرائيل تفاوض لتسليم مئات الأسرى مقابل رفات جنديين وتعزل قيادتها لأنها لم تستطع فك غلعاد شاليط من أسر حركة حماس، يتلذذ صغار الضباط عندنا بممارسة الجزاءات “ست العرقي”، “طيارة قامت” على الجنود لكسر عزيمتهم ومعظمها في الحقيقة طرق تعذيب مورست من قبل الجيش البريطاني على مواطنين سودانيين وليست تمارين تدريب.
ضباط الجيش يكرسون عزل الجنود ثقافياً في تقليد أعمى لفترة الحكم الإنجليزي بإيهامهم أنهم لا يجيدون حتى الكلام فالجندي يسمي الإشارات (أشاير) وللغائبين عن الطابور (غيابين) وسنفرد فصلاً خاصاً لقاموس المصطلحات العسكرية السودانية في الجزء الثاني. جندينا لا يعرف سوى ثقافة “الكوجة” و”الباشنغو” وهي أصناف بائسة من المأكولات في الميدان ويتباهى إذا كلف بإدارة مدفع هاون “كيلنكيت” ويستعظم أن يرى مدفع هاوتزر “120 ملم” أو دبابة تستخدم الليزر لضبط الهدف ولا يعلم أن نفس الليزر يستخدم الآن لمحو الهدف وليس ضبطه فقط، جندينا غاية سعادته أن يكافئه قائده بإعطاءه حذاء (بوت جديد) وضابطنا في الارتكاز يسعى لصرف (علاوة دقن) فعلام إذن الغناء والتمجيد:
رجال الجيش ياسعاد نفخر بيهم حفظوا حدود البلاد!
الحارس مالنا ودمنا أريت جيشنا جيش الهنا!
يوم الملاحم لينا عيد وميتنا في الميدان شهيد!
وحتى النشيد الوطني منحاز للقوات المسلحة ويمجدها بشكل صارخ وكأن المواطن السوداني ليس له نصيب في بلده.
جندي المشاة الأمريكي يحمل في معيته أمتعة وأسلحة في حقيبة يتعدى وزنها ثلاثين كيلوجرام فيها كل احتياجاته بما في ذلك حقن المورفين واللبان والشيكولاتة والواقي الذكري وكتيب عن العبارات المفيدة بلغة العدو التي يمكن أن تنقذ حياته إذا وقع في الأسر، نفس الجندي بإمكانه استخدام أجهزة الاتصال وأجهزة تحديد المواقع والكاميرات التي تعمل بالأشعة دون الحمراء فهل توفرت له كل هذه الدراية والدربة لأنه لا ينوم ولا يفكر أو يستفيد من وقته في الإدارة الداخلية؟ حسناً هاهو جندينا اليقظ والبليد معاً ينهزم في كل المعارك فما حاجتنا لجيش مجهد وغبي؟
القوات المسلحة الآن تلعب على مسرح ليس لها فيه أي دور، مسرح للجيوش الحديثة فقط، أعلنوا أنهم يصنعون طائرات بلا طيار لاغراض الاستطلاع (reconnaissance) وهي تعتبر لعب غالية الثمن، فلماذا يريدون اللعب بطائرات مكلفة والتجسس على (أعداء) في متناول يدها وعلى ميدان مكشوف فليس هنا كهوف تورا بورا ثم أن الطائرات الحقيقية يقودها طيارون روس ومرتزقة آخرون فهل يخاف الطيار السوداني من ركوبها؟ إنه الغباء والرغبة في المحاكاة وتوصيات الحمقى في التصنيع الحربي بارتداء ربطة العنق وإهمال السروال.
مصيبتنا في الخلطة الغريبة التي تبيح التغلغل السياسي للمهووسين داخل وحدات الجيش بحجة تكوين جيش رسالي (هدفه حماية النظام الدستوري والتوجه الحضاري للدولة) قيادة بليدة عمادها بضعة ضباط لا يجيدون القراءة ولا الاستماع لا يفهمون معنى عبارة عقيدة عسكرية، وقيادة سياسة شوفينية حمقاء تنصب من نفسها قوة عظمى محلية بمجرد استماعها للموسيقى الحماسية ورؤية الحشود، تخلق المهام ثم تعود لمحاولة تدميرها بعد فوات الأوان لاكتشافها خطأ ما أقدمت عليه، تتهاون في البلاد وتتطاول على العباد.
إن الجيش الذي بنى قوته بمحاربة الشعب الأعزل في أرض يفترض فيه حمايتها لا يمكن أن يكون جيشاً قوياً مهاباً، الجيش الذي بنى عقيدته على الاستهتار بالمواطن وطور في نفسه شعوراً زائفاً بالأفضلية لا يمكن أن يعرف كيف يحمي مصالح المجتمع الآنية الحقيقية، لقد استغلت الحكومات الجيش ولكن ذلك لا يعفي الجيش من تجاهل الحقيقة الواضحة وهي أنه لا يوجد في العالم “جيش” محترم يحمي الأنظمة السلطوية ضد مصالح شعب أعزل.
وإلى اللقاء في الجزء الثاني
موجاف